أشرف مروان: الحكاية الإسرائيلية الكاملة وتناقضاتها في كتاب الملاك

أشرف مروان: الحكاية الإسرائيلية الكاملة وتناقضاتها في كتاب الملاك

9 Sep 2018
خالد البري رئيس تحرير دقائق نت
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

١

الحب

ارتبط حي منشية البكري بالطبقة الوسطى المصرية، البرجوازية الصاعدة، ومنها المصريون الذين التحقوا بالجيش. من هؤلاء كان محمد أبو الوفا مروان، الذي أنجب أشرف سنة ١٩٤٤ في هذا الحي. ومنهم كان جمال عبد الناصر، الذي أنجب منى، سنة ١٩٤٧، في الحي نفسه. وفي نادي هليوبوليس القريب التقى أشرف الطموح، ومنى المتبرمة من قيود العائلة الحاكمة، سنة ١٩٦٥. وتزوجا.

لم يكن الرئيس جمال عبد الناصر، بناء على مشورة رئيس مكتبه سامي شرف، مرتاحا كثيرا لهذا الزواج. لكنه تم مع إصرار منى عليه. بل وكان أكبر من زفاف هدى، شقيقتها الكبرى، بعد أن أدرك عبد الناصر أنه كرئيس دولة ملتزم ببعض الأعراف الدبلوماسية، كدعوة مسؤولين آخرين.

 وهكذا وجد أشرف مروان نفسه محاطا بنخبة طموحاته. يوقع على عقد زواجه عبدالحكيم عامر وزكريا محيي الدين. ويغني في فرحه أم كلثوم وعبد الحليم حافظ.

لكن علاقة عبد الناصر بأشرف مروان لم تكن على الصورة التي تخيلها الشاب الطموح. انتقل إلى العمل في مكتب الرئيس، بمرتب متدن، يتراوح بين ٣٢ جنيها و ٧٠ جنيها، على اختلاف روايات. صحيح أن هذا كان أكثر من راتب خريج جامعي في تلك الفترة، لكن ليس بالقدر الذي يتوقعه فرد صار من أفراد أسرة الرئيس. 

في عام ١٩٦٨ جاءت لأشرف مروان الفرصة لكي يحيا حياة أقرب إلى ما يحلم به. حيث انتقل إلى لندن لإتمام دراسات عليا، وهناك تعرف على أفراد من العائلة المالكة الكويتية، أحاطوه بكرم بالغ. 

في عام ١٩٦٩ سددت له العائلة الكويتية ديونا جلبها على نفسه من لعب القمار، وعلمت السفارة المصرية في لندن بالأمر، وعلم به عبد الناصر فاستدعاه وابنته إلى مصر فورا وأصر على تطليقهما. وللمرة الثانية، انتصر رأي منى، التي أصرت على مخالفة رأي أبيها. وتوصل الطرفان إلى حل وسط. لا إقامة في لندن. يسافر أشرف مروان فقط للضرورة ويعود فورا. بينما يستمر في العمل في مكتب الرئيس تحت ناظري سامي شرف – الحياة التي لم يكن أشرف مروان، على ما يبدو، سعيدا بها.

في العام التالي توفي جمال عبد الناصر. 

في المعركة الداخلية التي شهدتها قمة السلطة عقب الوفاة، انحاز أشرف مروان إلى السادات ضد خصومه من الحرس القديم الذين اتهموه بالتفريط في ميراث كبير ثورة يوليو. وهو ما ثمنه السادات. إذ انحياز فرد من أسرة عبد الناصر إليه في ذلك التوقيت لا يقدر بثمن. كما أن السادات التقط في أشرف مروان موهبة رآها فيه حموه، ناصر، من قبل – إدارة العلاقات الشخصية.

قبل وفاة ناصر، بالتحديد في مارس ١٩٦٩، استقال سعد الدين الشاذلي من منصبه كقائد للقوات الخاصة احتجاجا على تعيين المشير أحمد إسماعيل رئيسا للأركان. كان الخلاف بين القائدين العسكريين قد وصل سابقا إلى قاع غير مسبوق، واحتدت المناقشة بينهما إلى درجة أن سعد الدين الشاذلي لكم أحمد إسماعيل. ولم يكن متخيلا إمكانية تجاوز هذه الواقعة. لكن ناصر أرسل صهره إلى الشاذلي برسالة شخصية لإقناعه بالعودة عن قراره، ونجح أشرف مروان في المهمة.

هذه الملكة سيستخدمها السادات في السبعينات، وفي فترة الاستعداد للحرب، حيث سيكون أشرف مروان مبعوثه الشخصي ورجل المهام الصعبة، يتنقل بين جارتي مصر، ليبيا والسعودية، حاملا رسائل مهمة. وسيتولى مهمة رئيسية في حرب أكتوبر هي الالتفاف على حظر توريد السلاح الذي فرضته فرنسا على طرفي النزاع، وذلك بالاتفاق على صفقة طائرات فرنسية لليبيا ثم تحويلها من هناك إلى مصر. وهي الجهود التي حصل بها عام ١٩٧٦ على وسام رفيع نظير خدماته في المجهود الحربي.

هذه العلاقة التي بدأت سنة ١٩٧٠ بين مروان والسادات هي التي سيحيل إليها أشرف مروان سائليه عن طبيعة علاقته مع إسرائيل، مصرا أنه كان عميلا مزدوجا في عملية لم يعلم بها سوى هو والسادات فقط، بمعزل عن أي أجهزة سيادية. 

لكن، حسب المدون في الوثائق الإسرائيلية، الاتصال بدأ أثناء حكم عبد الناصر.

٢

الامتحان

اتصل أشرف مروان أول مرة بالسفارة الإسرائيلية في بريطانيا، بينما عبد الناصر لا يزال حيا. استخدم في الاتصال صندوق التليفونات الأحمر الذي كان وقتها – ولعقود بعدها – أحد العلامات المميزة لشوارع لندن. طلب من السكرتيرة أن يتحدث إلى المسؤول عن المخابرات. وتم تحويل المكالمة إلى الملحق العسكري في السفارة الذي يبدو أن اسم أشرف مروان لم يثر لديه فضولا، لم يكن أول ولا آخر من تحدث إلى السفارة باللغة العربية عارضا خدماته. هذا رغم أن الاتصال تم بينما جمال عبد الناصر لا يزال حيا. 

محاولته التالية تمت في أواخر عام ١٩٧٠، بعد وفاة عبد الناصر في سبتمبر من نفس العام. وكالمرة السابقة، رغم أن الملحق العسكري كان شخصا جديدا، أهملت الرسالة. طلب الملحق العسكري من مروان الحضور إلى السفارة ورفض مروان ذلك. وتوقف الموضوع عند هذا الحد. 

كان الموساد قد أجرى مجموعة من التغيرات بعد تولي تسفي زامير رئاسة الموساد. وكان مسؤولان رفيعان في إدارة العمليات في أوروبا يمران بلندن في طريقهما إلى الولايات المتحدة. أثناء توجههما إلى مطار هيثرو ذكر الملحق العسكري عرضا قصة ذلك الشاب الذي يتحدث العربية والذي اتصل بالسفارة مرارا عارضا خدماته. سأل المسؤولان الرفيعان عن اسمه، فأجاب: أشرف مروان.

على الفور أمر المسؤولان السيارة بالتوقف، متخذين قرارا بالالتقاء به. كان هذا القرار يتجاوز الروتين، لأن الأمر لا يحتمل انتظارا، لكنه أيضا يتجاوز الأعراف الاستخباراتية، حيث يمثل ”الطارق“، الشخص الذي يعرض نفسه للعمل، مصدرا للريبة لدى أي جهاز استخبارات، كونه كمينا محتملا، أو صيدا لاغتيال شخصيات مهمة بعد استدراجها لمكان لقاء معروف.

لكن تعرف مسؤولي الموساد على اسم أشرف مروان، الذي كانت الاستخبارات تتابع حركته في لندن، جعلهما يصران على أهمية عقد اللقاء.

ترجل رئيس فرع الموساد عائدا.

بعد سلسلة من المداولات استقر الأمر على أن يتولى اللقاء نائب رئيس فرع الموساد، اسمه الحركي دوبي لكن اسمه الحقيقي لا يزال سرا حكوميا. وتولى الجهاز تأمين مكان اللقاء. في فندق بوسط لندن، سيلتقي دوبي بأشرف مروان في لوبي الفندق ثم يصعدان إلى غرفة حجزت خصيصا لهذا الغرض.

ارتاب أشرف حين تحدث إليه دوبي باللغة العربية، فسأله بالإنجليزية إن كان إسرائيليا، وهذا أجاب بالإثبات متحولا هو الآخر إلى الإنجليزية. ثم صعدا إلى الغرفة المخصصة للقاء. وتبادلا الحوار حول موقع مروان في السلطة المصرية وعلاقته بجمال عبد الناصر، ونوعية المعلومات التي بحوزته.

كان أشرف مروان مستعدا بمذكرة في حقيبة سوداء، حين تصفحها دوبي أدرك أنها مذكرة تفصيلية موجهة إلى قادة عمليات عسكرية وفيها فهرسة لعملية عسكرية موجهة إلى كامل الجيش المصري. مروان وصف للإسرائيلي المذكرة بأنها ”عربون ثقة“.

حين راجع مسؤولو الموساد المذكرة قال أحدهم: ”هذا عميل لا يتكرر إلا كل ألف عام“. وفي اليوم التالي مباشرة كان التقرير عن اللقاء كاملا على مكتب تسفي زامير، رئيس الموساد.

لم يطلب مروان في هذا اللقاء ولا اللقاء التالي له أي مبالغ مالية. ولكنه اشترط ألا يلتقي إلا بشخص واحد فقط. فكان قرار الإسرائيليين بأن يستمر مع دوبي، الذي يعرفه مروان باسم أليكس.

كان لدى الموساد سؤال آخر. ماذا يسمي مروان؟ طرحت عدة أسماء منها باكتي وأتموس، لكن تم الاستقرار على اسم الملاك، وهو اسم مسلسل شهير تلك الأيام كان معروفا في العالم باسم القديس، ولكن بسبب الطبيعة المسيحية للاسم تغير في السوق الإسرائيلي إلى ”الملاك“.

كل هذه وقائع يحكيها الإسرائيليون ومسجلة في سجلاتهم. لكنها لا تجاوب على السؤال الذهبي: هل كان أشرف مروان جاسوسا أم عميلا مزدوجا؟

لكننا في القسم التالي سنطرح سؤالا لا يقل أهمية: لو كان أشرف مروان عميلا، فلماذا بوغتت إسرائيل بحرب أكتوبر؟ لماذا لم يخبرها الموعد بالضبط؟

٣

الحرب

في ٢١ فبراير عام ١٩٧٣ دخلت طائرة ليبية مدنية الأجواء المصرية فوق سيناء المحتلة، تبعها سلاح الجو الإسرائيلي ووجه تعليماته إلى قائد الطائرة بمسار معين لكي يجبرها على الهبوط داخل إسرائيل.

كان قائد الطائرة يحسب أن الطائرات مصرية، لكن حين أدرك إلى أين تقوده انحرف بمساره إلى الغرب نحو منطقة القناة، فاستهدفتها المقاتلات الإسرائيلية وقصفتها، وقتل ١٠٥ مدنيين من أصل ١١٢ كانوا على متنها. ثم تبين أن أجهزة الاتصال على الطائرة المدنية كانت معطلة.

أدان العالم كله إسرائيل على الحادثة. وأصر العقيد معمر القذافي على الانتقام من إسرائيل. اتصل بالسادات مقترحا شن هجوم على ميناء حيفا مستخدما قاذفات ليبية، لكن السادات حثه على التأني، كان يخشى من إفساد عنصر المباغتة في خطة الحرب المصرية، وكان في نفس الوقت عاجزا عن إخبار القذافي بالسبب. وتصاعد التوتر بين القذافي والسادات، حتى توصل الطرفان إلى اتفاق سري يقضي بتنفيذ عملية ضد طائرة إسرائيلية في مطار فوميتشينو الإيطالي. ودخلت الخطة حيز التنفيذ في آخر أغسطس من عام الحرب، ١٩٧٣.

بمقتضى ذلك الاتفاق كان على الجانب المصري نقل صاروخين من طراز ستيرلا SA-7 التي تحمل على الكتف، والتي استلمتها مصر حديثا من الاتحاد السوفيتي، إلى روما. وهناك يستلمها أمين الهندي، وهو فلسطيني من جماعة أيلول الأسود.

وضع الصاروخان في الحقائب الدبلوماسية الخاصة بمنى عبد الناصر، وأقنعها أشرف مروان بأن تمر بروما في طريقها إلى لندن، ثم أخذ الحقائب من المطار ونقلها إلى أكاديمية الفن المصري بروما.

بعدها التقى مروان بالهندي في متجر للأحذية، وأخبره بأن الصاروخين في السيارة يستطيع أن ينقلهما. لكن الهندي فاجأه بأنه لا يملك سيارة لنقل الصاروخين. لم يكن يعلم أن الأمر سيتطلب سيارة. ثم لاحت له فكرة. توجه إلى متجر سجاد قريب واشترى سجادتين ولف فيهما الصاروخين، وحمل الرجال المصاحبون له السجادتين إلى مترو الأنفاق.

كان رئيس المخابرات الإسرائيلية موجودا في روما للإشراف بنفسه على إحباط المخطط الذي علم به قبل أسبوعين .. عن طريق أشرف مروان. كان السادات يريد إحباط العملية وإلا أفشلت خطط الحرب، ووضعت مصر هدفا للإدانة العالمية حين يُكتَشف حطام الصاروخين اللذين استخدما في تنفيذ عملية تستهدف هدفا مدنيا. 

لم يتدخل الموساد إلا بإعلام الإيطاليين بالعملية، والتأكد من تحركهم لإفشالها، حتى لا يتكرر ما حدث قبلها بعام واحد في الهجوم على رياضيين إسرائيليين في دورة الألعاب الأولمبية في ميونخ. رئيس الموساد قدم رشوة إلى الجانب الإيطالي لكي يحصل على أحد الصاروخين وينقله إلى إسرائيل لفحصه، حيث لم يكن لدى إسرائيل نظير له. وبالفعل، أحبطت العملية صباح السادس من سبتمبر/أيلول، وألقي القبض على الأشخاص الخمسة الذين كانوا مكلفين بها. وحصل أشرف مروان على مكافأة قيمة نظير خدمته الجليلة.

كان لهذه العملية أثر جانبي، حيث جعلت أشرف مروان بعيدا عن القاهرة في فترة ما قبل الحرب. وبالتالي لم يعلم بموعد الحرب قبلها بفترة كافية. على الأقل هذا ما تحويه السجلات الإسرائيلية. وما يعتقده الفريق الذي يصر على أن أشرف مروان كان جاسوسا لإسرائيل وليس عميلا مزدوجا. هذا الطرف هو الموساد الذي يرأسه تسفي زامير. أما المخابرات العسكرية التي يرأسها إيلي زيئيرا فلها رأي مناقض تماما.

كتاب الملاك، وهو يتنبى رواية الموساد، يناقض هنا نفسه. يقول الكتاب تعليقا على عملية روما إن ”انشغال مروان في التخطيط لعملية روما وفي إحباطها أدى إلى ابتعاده عن مركز صناعة القرار في القاهرة، ما أثر على قدرته على إعطاء تحذيرات واضحة وفي الوقت المناسب عن الحرب التي وقعت بعد شهر“ من إحباط عملية روما. وذلك لتبرير عدم تحذيره الموساد قبل الحرب بفترة كافية.  

ولكنه يعود في موضع آخر ليقول إن مروان غادر مصر قبل أربعة أيام من اندلاع الحرب. ذهب إلى ليبيا، حيث أخبر القذافي عن نية الذهاب إلى الحرب في القريب العاجل.

 أي أن مروان لم يكن بعيدا عن أجواء التحضير للحرب، بل ذهب إلى مصر بعد عملية روما، في توقيت ما، ولم يغادر سوى قبل أربعة أيام فقط من الحرب، حاملا رسالة إلى ليبيا، ثم متوجها إلى أوروبا.

اتصل مروان من فرنسا بـ ”دوبي“ وقال له، بينما كان محاطا بأصوات كثيرة تتحدث العربية، إنه يريد التحدث عن ”كثير من المواد الكيميائية“، وهي كلمة سر متفق عليها، ومنتقاة كون أشرف مروان دارسا للكيمياء، مما يبرر حال اعترض الرسالة أحد أنه يتحدث عن ”مواد كيميائية“.

لم يكن التعبير الذي استخدمه مروان دقيقا، حسب المتفق عليه سابقا. فالهجوم الوشيك كانت كلمة السر فيه ”بوتاسيوم، الهجوم الأبعد ”يود“، أما الهجوم الجوي على سيناء فكلمة سره ”صوديوم“. لم يذكر مروان أيا من هذه الكلمات. ذكر فقط العبارة العامة ”المواد الكيميائية“، وطلب مقابلة الجنرال، رئيس الموساد.

حين سمع تسفي زامير الرسالة اعتبر أن الاتصال ليس ملحا. وبالتالي حين اتصل به رئيس الاستخبارات العسكرية بعد منتصف الليل ليخبره بعمليات إجلاء تقوم بها سوريا، ويسأله إن كانت وصلته أخبار جديدة، كان رده بالنفي. لم يربط بين إلحاح مروان في طلب المقابلة وبين التطورات في سوريا. رغم أنه من السهل الربط بينهما. وهذا بالضبط ما فعله معاون له اتصل يخبره بموعد طائرته في الصباح للاتجاه إلى لندن. وحين أخبره زامير باتصال رئيس المخابرات العسكرية اقترح المعاون فورا احتمال أن يكون لطلب مروان الملح في ملاقاته علاقة بهذه التطورات.

لماذا لم يصرح مروان بكلمة السر مباشرة؟ لماذا لم يقل نريد أن نتمم صفقة ”البوتاسيوم“ مثلا؟

بالنسبة للموساد الذي يصر أن أشرف مروان لم يخدعه، فذلك لأن أشرف مروان، الذي غادر القاهرة قبل أربعة أيام من الحرب، لم يكن يعلم الموعد بالضبط حتى منتصف يوم ٥ أكتوبر، وبمحض الصدفة. هذا هو اليوم التالي لإرساله الرسالة إلى الإسرائيليين مطالبا بالتحدث مع الجنرال ومشيرا إلى ”مواد كيمائية“. أي أنه، وبينما كان رئيس الموساد بنفسه في الطائرة إلى لندن، لم يكن مروان يعلم. هكذا يقول الموساد. الدليل الذي يقدمه كتاب الملاك هو ما رواه المهندس محمد نصير. وهو زوج بنت عبد اللطيف البغدادي عضو مجلس قيادة الثورة، وعن طريقها تعرف إلى ابنة عبد الناصر وزوجها. كما أنه كان مهندسا لامعا أدخل الحوسبة إلى الأهرام بدعم من محمد حسنين هيكل.

كان نصير قد تكلم مع مدير مكتب الخطوط الجوية المصرية في لندن الذي أخبره أنه هو ونظيره في باريس استلما ذلك الصباح أوامر صريحة من القاهرة لتغيير مسار جميع طائرات النقل الموجودة في لندن وباريس إلى طرابلس، وإن الأمر جاء من وزير الطيران المدني.

يبدو أن الوزير تصرف دون استشارة القيادة السياسية. قيادة الجيش المصري حين علمت بما فعل أصيبت بالصدمة، فقد كان هذا كفيلا بإتلاف خطط الحرب، فطلبوا من المدير التنفيذي لشركة مصر للطيران تجاهل أوامر الوزير.

حين علم نصير بالأمر الصادر من الوزير توقع أن هذا معناه الحرب، وعلى الفور ذهب بلا موعد مسبق إلى صديقه أشرف مروان، وأخبره. ومروان تفاجأ.

أما بالنسبة للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، فكل هذا كلام فارغ.

أشرف مروان تلكأ في إبلاغ الإسرائيليين، وتعمد أن يكون مبهما في تحذيراته في الوقت الحرج، وتعمد شراء الوقت باشتراط أن يقابل ”الجنرال، وبالتالي لم يبلغ الإسرائيليين بالحرب حتى الحادية عشرة والنصف مساء، أي قبل يوم الحرب بنصف ساعة فقط. ولم يخبرهم عن التوقيت، بل ترك الأمر لتخمين الإسرائيليين أن الوقت الأمثل لمصر دائما يتزامن مع مغيب الشمس. فعل هذا كله – حسب الاستخبارات العسكرية – لسبب واضح: أنه كان عميلا مزدوجا خدع الموساد. وخدع إسرائيل.

هذا الخلاف بين الجهازين، ورئيسي الجهازين، سيصل إلى المحاكم الإسرائيلية. وسينتهي بالكشف عن شخصية مروان، في أوراق رسمية علنية، ستملأ الإنترنت.

كيف؟

التايم لاين في القسم التالي من المقال سيبسط المسألة. مر بالمؤشر على أي نقطة تريد فيها استيضاحا أكثر وسيظهر لك مزيد من المعلومات. أو اكتف برؤوس المواضيع إن شئت.

٤

الحساب

 

هذا الحكم الأخير يعني أن الحكومة الإسرائيلية أقرت رواية الموساد، وأقرت وصف تسفي زامير لإيلي زيئيرا بأنه كشف عن هوية ”عميل حقيقي“. بعبارة أخرى، أقرت بعد الاطلاع على الوثائق التي لم تكن متاحة للعامة أن أشرف مروان كان عميلا مخلصا لإسرائيل، جاسوسا على بلده، مصر، في واحدة من أحلك لحظات تاريخها الحديث. وأنه بدأ رحلة العمالة وهو فرد من أسرة ”الزعيم“، 

هذا رأي المحكمة الإسرائيلية. أما الحقيقة لا نعلمها. والجهات المصرية لم تكشف عن وثائق تدون عملية زرع مروان داخل إسرائيل. لا نعرف إن كانت الوثائق موجودة أم لا.

لكننا نعرف أنه بعد عشرين يوما بالضبط من نشر الحكم الإسرائيلي سقط أشرف مروان من شقته، فمات على الفور. لكن أحدا لم يجد الحذاء الذي كان يرتديه.

نعم الحذاء. 

لماذا الحذاء؟ لأننا نريد أن نعرف من قتل أشرف مروان. 

إلى القسم التالي.

٥

الموت

٢٧ يونيو ليس تاريخا عاديا، في هذه القصة من عام ٢٠٠٧. وأيا كان من اختار هذا التاريخ لتنفيذ انتحار، أو نحر، انتقاه بعناية، ضامنا ألا تكترث الصحافة بالحدث، لأن لديها ما هو أهم. رئيس الوزراء البريطاني، توني بلير، كان بصدد تقديم استقالته إلى الملكة إليزابيث، منهيا حياته – السياسية، كرئيس للوزراء.

وهذا خبر أهم للمواطن البريطاني وصحافته، وأكثر مدعاة للتحليل، من حادثة سقوط جاسوس/بطل من شرفة منزله، في ظروف غامضة، وبشهادات متناقضة من أشخاص رأوه وهو يسقط، ناظرين من خلف شرفة زجاجية، كأنهم يشاهدون فيلم سينما تواعدوا على موعده. 

كان أشرف مروان يمتلك شركة يوبيكيم المتخصصة في المواد الكيميائية. أما الرجال الأربعة فمدراء في الشركة في مواقع مختلفة جاؤوا خصيصا ليجتمعوا بالقرب من منزل مروان، لكي يستطيع – مع حالته الصحية – أن يلتحق بهم. في الواقع كانوا من مكان اجتماعهم قادرين على رؤية شرفة منزله، ولوح لهم بيده مرتين، وأجل الاجتماع مرتين، وفي المرة الثالثة انفعل وأجاب بأنه لن يحضر. 

ثم – يقول الشويكي وباخورست – صعد درابزين الشرفة وألقى بنفسه. وهما ينظران مذعورين.

عزام الشويكي هو المدير التنفيذي ليوبيكيم، وزوج مساعدة أشرف مروان الخاصة وسكرتيرته الصحفية، عزة، ابنة فوزي عبد الحافظ السكرتير الخاص للسادات، وأحد الذين عملوا مع أشرف مروان عن قرب.

لم تكن العلاقة بين الشويكي ومروان جيدة، بل كانت متوترة في الفترة الأخيرة. أرملة أشرف مروان خصت الشويكي باتهامات في ذمته المالية. لكن صحيفة الأهرام التي نشرت الاتهامات اعتذرت عنها. وسكوتلانديارد رأت أنها واهية لدرجة لا تستحق معها النظر.

أما الشاهد الثاني الذي يقول إنه رأى أشرف مروان يصعد الدرابزين ويلقي بنفسه من الشرفة فهو مايكل بارخوست، ممثل عائلة مروان في مجلس الإدارة. في البداية أيد شهادة الشويكي بأنه شاهد مروان يصعد الدرابزين، لكن لاحقا قال إنه لم يشاهد سوى شخص يسقط.

الشخصان الآخران انتبها لصراخ الشويكي وبارخوست، ورأيا مروان وقد ارتطم بالأرض، لكنهما يدعيان أنهما رأيا شخصين بملامح شرق أوسطية ينظران من الشرفة إلى أسفل. وهناك تقرير ذكر وجود الشخصين، لكنه لم يجزم أنهما كانا في شرفة أشرف مروان. من الممكن أن يكونا في شرفة أخرى.

هل صعد مروان، فانتحر؟ هل الشويكي وبارخوست صادقان ودقيقان في شهادتيهما؟

كان يمكن للحذاء أن يجاوب على هذا السؤال بتحليل المواد العالقة في نعله. لكن الحذاء نفسه اختفى ولم يعثر عليه.

الاحتمال الآخر أن أحدا قتله. من؟ أعداء بزنس استغلوا فرصة اللغط؟ إسرائيليون متأكدون أنه خدعهم؟ مصريون نفذوا فيه حكم الإعدام على خيانته؟

لا أحد يعلم.

نعلم أن كاشفي شخصيته إسرائيليون مقتنعون أنه كان عميلا مزدوجا، ويحملونه مسؤولية فشلهم وفشل جهازهم، الاستخبارات العسكرية، في الحرب.

ونعلم أن على الطرف الآخر جهازا إسرائيليا منافسا، الموساد، يصر على إثبات أنه لم يتعرض للخداع.

هل في هذين الجهازين من أراد أن يصمت مروان إلى الأبد ولا يدلي بشهادته؟

هل فيهما من أراد استفزاز مصر لكي تعلق على الموضوع وتظهر ما عندها؟

أم هل أشرف مروان جاسوس، والصدفة وحدها هي التي حمت المعلومات من الوصول إليه في توقيت مناسب لمهمته؟

الإجابة عند مصر في أوراق موجودة أو لا وجود لها.. الوجود أو الغياب بحد ذاته يحدد الإجابة.

استقبل جثمان أشرف مروان دكتور زكريا عزمي رئيس ديوان الرئيس السابق محمد حسني مبارك، وأحمد شفيق وزير الطيران المدني. وفي الجنازة حضر جمال مبارك، صديق ابن أشرف مروان. الرئيس مبارك نفسه كان في قمة إفريقية ولم يستطع الحضور، وأصدر بيانا رسميا وصف مروان بـ ”الوطني الحقيقي المخلص لبلده“، وقال إنه كان يعرف شخصيا الخدمات الجليلة التي قدمها لبلده. حضور عمر سليمان الجنازة كان تصديقا على كلام مبارك. أم الجنازة الدكتور محمد سيد طنطاوي، الإمام الأكبر. الحضور شمل أيضا أفراد عائلة جمال عبد الناصر، لكن أحدا من عائلة السادات لم يحضر الجنازة.

هذا المقال اعتمد على كتاب الملاك، لم يقر ما ورد فيه من آراء`، لكنه اعتمد على قراءة للأحداث من قلبه. كتاب الملاك ليس الوحيد الذي تناول الموضوع. في مقال آخر، ضمن هذا الملف، يعرض دكتور مينا منير، من كينجز كولدج، لندن، ما نشر عن الموضوع من دراسات أكاديمية أخرى، في محاولة لإكمال الصورة أمام أعيننا.

أشرف مروان من الزاوية الأخرى: كتاب إسرائيليون يؤكدون أنه خدع إسرائيل خدعة كبرى

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك