إذا أمعنت النظر والفكر في قوام وأعمدة الدولة المصرية ستجد ثلاثة أعمدة رئيسية دونها لا يمكن أن توجد مصر التي تحضر إلى ذهنك متى ذكر اسمها.
أول أعمدة الدولة المصرية قدماء المصريين بما تركوه من جينات ممتدة، ونظام حكم، وفلسفة، وآثار معابد، وتحف تطبيقية، ونظام حياة، وزراعة، وقيم أسرية، وحكومة مركزية، وبصمة فريدة هي الأولى لمصر أمام العالم إلى اليوم.
ثانيها: القوات المسلحة المصرية ومؤسستها الراسخة، والقوة العسكرية للجيش المصري أفرادًا ومعدات، وتاريخًا، وعقيدة قتالية متفردة.
وثالث أعمدة الدولة المصرية الفن المصرى بمعناه الشامل، من غناء، وموسيقى وتمثيل بأنواعه، ورسم، ونحت، ويندمج مع الفن: الآداب، وأصحاب الفكر، والإنتاج الفكري، سفير مصر المبهر، وأبرز أسلحة قوة مصر الناعمة خلال قرن مضى على الأقل، وبالأخص الغناء والتمثيل لتيسر سبل الانتشار على المستوى العربي ابتداءً.
والأعمدة الثلاثة مجتمعة هي أيضًا قوام حضارة مصر القديمة، الفن، والعسكرية، والتكوين المصري شديد التنوع والثراء، أضف إليها الدين الذي كان ناتجًا من البيئة والأرض والطبيعة، غير وافد، فشكل حالة تناغم وانسجام مع المصريين.
وإذا زدت من تدقيقك ستجد أن لا شيء هوجم خلال نصف القرن الماضي، في معرض محاولة تغيير ومحو الهوية المصرية، أكثر من العناصر الثلاثة السابقة. وهو ما يعني أن من يناصب مصر العداء، ويسعى للتخريب والتفكيك، يدرك أو يشعر بخطورة وأهمية تلك العناصر، ومدى استناد الوطنية المصرية إليها.
هذا العدو كان من الإفلاس بدرجة أنه لم يمتلك بديلًا ذا قيمة يستطيع به جذب الجماهير، فاعتمد بالأساس على تشويه الأركان القائمة في نفوس المصريين. ولم يكن سلاحه شريفًا في أي موقعة خاضها!
محاولات حثيثة ركيكة لفصل المصري عن جذوره الأصلية المصرية القديمة، بدعوى هزلية عن وثنية الأجداد وتلخيص عظمتهم التاريخية والحضارية، في قصة موسى النبى وفرعونه المجهول معدوم الأثر، وما إلى ذلك من أمور لا شواهد تاريخية أو أثرية على وجودها زمانًا أو مكانًا أو شخوصًا حتى الآن، سوى أمنيات حاقدة تجاه التاريخ المصري، نسجتها روايات متكلمين قدامى، لا يستطيعون قراءة حرف مصري أبجدي واحد.
ناهيك عن هزلية فكرة تأسيس موقف أخلاقي وسياسي وتاريخي من فكرة لا يوجد عليها دليل واحد تاريخي أو أثري مسطور أو منقوش أو مشيد كشاهد ودليل!
ومما لا يقال أن ملخص حقبة واحدة من التاريخ المصري القديم، حتى من عصور ما قبل الأسرات، وحضارة بدارى ونقادة والفيوم والمعادي القديمة، لا يستطيع هؤلاء المتفيقهون أصحاب فقه الكلام والزبد وثقافة النمص والطمث، أن ينتجوا منه مقدار ذرة ولو احتموا بظل المقدس أو حتى بألف مقدس.
فشتان بين من صنع ودشن وراكم المعارف والتجارب والخبرات وصاغها لذاته ولخلفه، وبين من لا يمتلك سوى لسان أجوف، يقنع به نفسه أنه الناجي من دون الجميع!
محاولات منذ السبعينيات للترويج والوصم لجيش مصر بصفات المتخاذل والمفرط في القضية، وربطه بمعاهدة كامب ديفيد واختزال صورته فيها على ألسنة بعض دعاة الجهل، وترويج المسمى بين ضعاف النفوس وأصحاب الشخصيات المهتزة، كمرادف للهوان والتنازل، وما إلى ذلك من هراء جرى تداوله عبر تيارات سياسية شعبوية، ومن خلال دعاة حقد أصحاب أجندات غير وطنية، صعدوا بين غفلة وتخاذل إلى المنابر، بغرض تأهيل العقول لتلقى كل ما هو سفه باستغلال أكثر الأماكن قداسة!
وبالطبع لم يكن أمر السلام سوى حجة، فجيش مصر حارب وخسر، ثم قاوم واستنزف، ثم عبر وانتصر، أي أنه قام بكل التجارب العسكرية والسياسية الممكنة وغير الممكنة، وقدم بطولات أسطورية لا تتأتى مصادفة لجيش بلا عقيدة وطنية راسخة، والتي لا يجوز معها لعاقل أن يصمه بوصم ينال منه ويتهمه بالتقصير.
ولكنها الرغبة في التعجيز، التي تراها الآن في صورتها المحدثة في تعليقات تعجيزية على صفحات التواصل الاجتماعي، فإذا أنجزت عملًا أِشاروا لك على الناقص هناك، وإذا لبيت طلبًا، صاحوا: لا يكفي، وإذا عالجت مريضًا أشاروا بأصابعهم نحو فقير، وإذا آويت مشرداً، وجهوا قبلتهم نحو ترعة ملوثة، فإذا طهرتها، قالوا لك: وماذا يعنى كل هذا؟!
هذا دينهم وديدنهم! عقيدة التشتيت وخلق الضجر!
وإمعانًا في الكذب، فالقائد المنتصر الأوحد على عدوهم الدينى الأبرز – إن صدقوا فى معاداتهم له – قد قتل على أيديهم بين جنوده في يوم نصره، بما يسقط تمامًا فكرة إخلاصهم للنصر العسكري على عدوهم!
هم في حقيقة الأمر لم يكونوا يريدون انتصارًا لمصر، بل انتصارا لمعتقدهم الموتور تنفذه مصر!
فإذا انتصرت مصر، نسبوه لملائكة السماء، وإن فشلوا شككوا فى الانتصار، فإن عجزوا قتلوا القائد المظفر!
إلى اليوم ما زلنا نتصدى لورثة هؤلاء، بعدما وضعوا أصباغ التجميل المحرمة سلفًا، وظهروا بهيئة معاصرة بفضائيات الأعداء التركية والقطرية!
محاولات متوازية مع ما سبق لم تتوقف على المسار الثالث، منذ صعد أحد أصنامهم الهزلية عبد الحميد كِشك إلى المنبر، ليتولى الترويج لملف سب وترهيب الفنانين والفنانات، بهدف تحقيرهم في أعين الجماهير، واستباحة أعراضهم، وجعل لحومهم سائغة على الألسنة لمجرد امتهانهم هذا العمل، من أجل صناعة حالة رهبة تنتاب كل من يتجه للاشتغال بالفن، تشعره على الدوام بأنه تحت ضغط نفسي محمل بإثم ديني، يجعله متوهمًا أنه يؤدي عملًا لا بد وأن يتوب في نهايته، بالإضافة لتحقير الشغف بالفن وتأثيمه لدى الجماهير..
مع أن إجرام عدد لا بأس به من دعاة التحريم هو ما يستدعي التجريم والتحريم والتوبة في حقيقة الأمر، ولكنهم مستمرون فى تبجح لا ينقطع..
حتى إذا ما فُرِّغ هذا المجال من جوهره، وحدث به التشتت والخسارة، فقدت مصر أحد أبرز سفرائها بالخارج ومصدر من مصادر ثرائها وتميزها بالداخل، ويتم تصعيد الدراما التركية بمباركة وتمرير الدعاة الناعقين بتأثيم الفن المصري، من ذات هؤلاء الدعاة، ثم يتهمونا بالخواء الفني مقارنة بالصناعة الدرامية الدعائية التركية، لإشاعة المزيد من الدونية وترويج الإحباط في النفوس، مصاحبًا بترويج اقتصادى لأعدائنا.
وهو أمر شبيه بما جرى من تشكيك للمصريين في مجال السياحة، وترويج تحريم العمل بها بين المواطنين، وربطها بالموبقات، ثم أضيرت السياحة المصرية في 2011 وما تلاها، فتم تحويل وجهة السياح لصالح السياحة التركية، ثم وجدنا نفس هذه الوجوه العميلة تدعو للترويج للاقتصاد التركي والسياحة التركية التي صارت حلالًا مباحًا!
وكنتيجة لترويج الغثاء الدعوي المتطرف، صارت وفاة كل فنان فرصة لافتراسه، وبخسة لا تصدر إلا من عدو صريح، وبترويج متعمد لا نراه إلا مع الفنانين المصريين.
أصبحت حالة وفاة فنان تعني تداول الكثير من التنبؤات بمصير سوداوي جهنمي، وتوديع باهت سخيف يشعرك بأن الفنان عليه دين للمشيع! كجزء من التشويه المتعمد لركن من دعائم التكوين المصري، ووصم أحد عناصر قوتها الناعمة!
وانتهى الحال إلى ما شاهدناه من استباحة الفنانين وهم على فراش الموت، بحجج متباينة لم تكن لتُردد، لو كان من مكان أحدهم أحد الدعاة المتطرفين مثلًا، فيموت أحدهم بعدما يكون قد قرأ تشييعه بالسخرية واللعنات فى ساعاته الأخيرة على صفحات التواصل الاجتماعي، كأثر لما غرسه دعاة الجهل!
وهذا حصاد سنين من استخدام المنابر في الترويج للسفه بغطاء القداسة بين الجماهير.
مع انتشار شعبية هؤلاء الموتورين وغياب الحسم في التعامل لاعتبارات متعددة، ظهر بعض الانكسار والخضوع ومجاراة التيار يظهر من جانب بعض الفنانين، والبعض تصدى بوضوح وبقوة، وأدى الفن الكثير في هذه المعركة، وساند مصر بقوة، ولكن ظهرت أجيال تشربت أيضًا دروس هؤلاء الإرهابيين والمتطرفين معتلي المنابر، وسيكون لهؤلاء حديث قادم.