باحث في جماعات الإسلام السياسي والتراث الإسلامي
الأخلاق في التراث الإسلامي تحمل مفهومًا محايدًا، يشمل جميع السلوك والطباع، الحسن منها والقبيح. يشار للحسن منها بمكارم الأخلاق أو حسن الخلق، ولها مرادف لفظي قرآني وهو “البر”، عرفه حديث: “البر حسن الخلق”، لكن استخدام المفهوم تطور في العصور المتأخرة لتصبح “الأخلاق” حسنها بإطلاق.
تعريف اللغويين والفلاسفة المسلمين للأخلاق لا يختلف كثيرًا عن تعريف الفلاسفة الغربيين من حيث المقصد والغاية، وهو الخير والسعادة، لكنه يختلف من حيث التعيين والمصدر.
المنظومة الإسلامية التراثية تعتبر بأن مصادر الأخلاق لا تقتصر على الدين، فتشمل العرف والثقافات السابقة، وإن كانت قد جعلت الشرع حاكمًا عليها بحديث “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.
وبعكس السائد حاليًا في العقل الجمعي للمسلمين من ربط الأخلاق بممارسة شعائر الدين، لم يربط الأقدمون أداء العبادات والشعائر بالأخلاق “التي منشأها السلوك والطبائع”، وإن كانوا أكدوا أن العبادات تساهم في تحسين الأخلاق لا أن تصبح مرادفًا لها، انطلاقًا من آية “إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر”..
فكيف حدث الربط الذي نعرفه حاليًا؟
مع دخول الثقافات الغربية للشرق في العصر الحديث، نشأ صراع بين منظومتي القيم؛ المحافظة في الشرق، والليبرالية في الغرب، لكن الوقت كان كفيلًا بإذابة التمايز وزيادة المشتركات. لتبدأ المجتمعات العربية والإسلامية في السير بشكل معقول في اتجاه ترسيخ منظومات القيم والأخلاق الأساسية الحديثة المتعارف عليها – دون الإخلال بالأخلاق الاجتماعية الموروثة والمترسخة في الثقافة العامة – وبينها التسامح الديني والعرقي ومساعد الفقير والتكافل الاجتماعي واحترام حرمات الغير.
لكن الصراع الثقافي بين الشرق والغرب لم يمر ببساطة.. فتح باب الجدل حول ماهية الأخلاق.
في مذكراته، يروي مؤسس جماعة الإخوان حسن البنا كيف تأثر بالشيخ حسنين الحصفي، مؤسس الطريقة الحصافية، معددًا سلوكياته وأخلاقه التي تستحق المدح في نظره، وبينها تكسير تماثيل الزينة في أحد المصالح، ونهر أحد الباشوات لبيعه خاتمًا ذهبيًا، قبل أن يؤسس البنا نفسه صبيًا جمعية الأخلاق الأدبية، ثم جمعية محاربة المنكرات، التي قال إنها كانت ترسل رسائل لمن يظهر عليه مخالفات أخلاقية، مثل لبس الذهب، وعدم الخشوع في الصلاة.
رسائل حسن البنا تحمل تنظيرات متعددة للقيم الأخلاقية لا تخرج عن هذا الإطار، وبينها خصوصًا قضايا المراة في رسالته “المرأة المسلمة”، بل إنه برر عداءه للغرب من منطلقين: استعماره للشرق – وانحلاله الخلقي.
لكن لا سلوك البنا ولا الرسائل التي سار عليها أتباعه أثرت في أخلاق المجتمع بشكل ملحوظ حينها؛ إذ كان المجتمع يسير بتدرج في مسيرة التحديث وترسيخ الأخلاق المدنية الحديثة.
التغيير الجذري في المجتمع الذي أراده حسن البنا تأخر حتى سبعينيات القرن العشرين، مع التأسيس الثاني للإسلام السياسي، فيما يعرف بفترة الصحوة الإسلامية في أعقاب هزيمة 1967، والتي تركت الأثر الأكبر؛ إذ رسخت مفهوم الأخلاق عند الإسلاميين في الثقافة الجمعية للمجتمع، لتستمر حتى الآن، حتى بعدما خرجوا من المشهد السياسي والدعوي، وحتى بين بعض من يعارضون الإسلاميين كتنظيمات سياسية.
1- ظاهرة خطباء المنابر: أصحاب الخطاب الساخر الشعبوي المبتذل، والذي جاء في مقدمة رموزه الشيخ عبد الحميد كشك.
2- ظاهرة الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الجامعات، والذي حمل رايته طلبة الجماعة الإسلامية الذين كانوا يمارسون سلوكًا سلطويًا على الطلبة، مثل إيقاف المحاضرات وقت الصلاة، والفصل بين الجنسين في المدرجات، ومحاربة اللقاءات المنفردة بين الأولاد والبنات في الأماكن العامة.
3- فرض النمط الأكثر تشددًا من الإسلام، بخلاف نسخة إسلام التأسيس الأول في زمن حسن البنا الذي حمل طابعًا أكثر صوفية، بما تبع ذلك من مفاهيم الجهاد وتكفير الحكام.
تلك المظاهر والتحولات الجذرية التي يطلق عليها “الصحوة الإسلامية” استدعت إعادة تعريف مفهوم الاخلاق وربطه بشكل مباشر بالدين والمشروع الديني لتلك الجماعات بشكل يختلف حتى عن مفهوم الأخلاق القديم لدى فلاسفة المسلمين.
وحتى الأخلاق الحسنة المتعارف عليها اجتماعيًا وإنسانيًا تحولت لاحقًا في أدبيات الصحوة الإسلامية إلى وسائل ميكيافيلية للانتشار والتمكين، لا كقيمة يؤمنون بها، كما يتضح ذلك في كتب فقه الدعوة، كتاب “الدعوة الفردية” لمرشد الإخوان السابق مصطفى مشهور، وكتاب “الدعوة إلى الله حب” للمنظر الإخواني الدعوي عباس السيسي، وكذلك كتب الفقه الحركي ككتاب المنهج الحركي لمنير الغضبان، والتي ترسخ لأخلاقيات حسنة لا تقوم لذاتها، وإنما تصطنع اصطناعًا من أجل كسب الناس وتوسيع انتشار الدعوة.
الظواهر السابقة خرجت بالخطاب الديني من الحيز المؤسسي إلى الشأن العام، فأصبح عوام الناس يمارسون وصاية دينية بديلة عن الدولة والمؤسسة الرسمية، ثم تطورت ظاهرة خطباء التوك الشو إلى ظاهرة الدعاة الجدد.
الأول: تغيير مفهوم وبوصلة الأخلاق وربطها بالطقوس والممارسات الدينية على حساب الأخلاق المطلقة غير المرتبطة بدين، حتى أصبح مصطلح “خلوق” يطلق على المتدين الطقوسي الوعظي ذي السلوكيات المتوافقة مع مظاهر الدين تحديدًا؛
فاللاعب الخلوق هو الذي يسجد حين يسجل هدفًا، ويرفع شعارات دينية، لا ينظر إلى وجه المحاورة،
والممثل الخلوق هو الذي يرفض أداء مشاهد الملامسات والقبلات مع الممثلات، وينصح متابعيه بترك مشاهدة أعماله إذا حان وقت الصلاة.
الثاني: اختزال كثير من مفاهيم الأخلاق خصوصًا فيما يتعلق بالمرأة في السلوك الجنسي وما يتعلق به من قريب أو بعيد، مثل عدم الاختلاط، والامتناع عن الحديث والمصافحة مع الرجال، والتزام الحجاب، والسلوك المتحفظ عمومًا في التعامل بين الرجال والنساء، حتى أصبح مفهوم المرأة “المحترمة” أو “المؤدبة” هي المحافظة بنظرة سلبية لغير المحجبات أو المنفتحات أو المستقلات.
الثالث: تغيير البوصلة الأخلاقية نحو طقوس وممارسات سطحية محافظة أدى إلى خلل الأولويات، وتنحية أخلاق أساسية، لتصبح مظاهر الدروشة والتصنع الديني تستحوذ بالاهتمام على حسابها، مثل احترام الخصوصية، والنظافة، وقيم الجمال والإبداع، لصالح قيم ومفاهيم ذات طابع ديني أو تحفظ جنسي.
الرابع: وهو الأخطر والاسوأ، كان ترسيخ أو تبرير سلوكيات لا أخلاقية بمفاهيم عصرنا الحالي من منطلق تأويلي ديني، مثل الفضائح الشخصية، وتقييد الحريات، وقهر النساء، بدعوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكذا أن اختزال الأخلاق النسائية في الملابس والسلوك المحافظ، ما أدى لتحميلهن مسؤولية سلوكيات لا أخلاقية من الغير، مثل التحرش، والعقاب النفسي البدني، كما هو مثبت في أدبيات الصحوة.
ذروة هذه السلوكيات السيئة ظهرت في السنة التي حكم فيها الإخوان مصر. فشاهدنا استباحة كثير من دعاتهم وعناصرهم للمخالفين السياسيين، ووسمهم بألفاظ نابية تصل لحد القذف، ونشر الأكاذيب والشائعات بحقهم. كل هذا انعكس بالتبعية على الخطاب الشعبي لدى جمهور ومؤيدي الإسلاميين.
الخامس: اختلاق أزمات الضمير الديني، وتأزيم المسلم في حياته العملية، نتيجة النظرة الأخلاقية السلبية لفئات مثل العاملين في مجال الفنون والسياحة وغيرها.
نظرة أعمق: أفخاخ الإسلاميين في دقائق