في 1744، اتفق مؤسس الدولة السعودية الأولى محمد بن سعود مع الزعيم الديني محمد بن عبدالوهاب، على تشكيل لبنة عقد اجتماعي يرضي جميع الأطراف.
أسس العقد كانت: الملك للأسرة الحاكمة، وتسيير أمور الدين لرجال الدين.
ظل هذا الاتفاق ساري المفعول حتى وقت قريب. ظل الدين مهمًا للغاية للسعوديين، وساهم في تعزيز هوية المملكة. وأضفى الشرعية على الأسرة الحاكمة، وعزز مكانة السعودية في العالم الإسلامي؛ استنادًا على كونها مهد الدين، ومستضيف الحرمين، أهم المواقع المقدسة لدى المسلمين.
والأهم من ذلك، أن لبنة العقد الاجتماعي تلك، جعلت المؤسسات الدينية بمثابة حاجز للمؤسسة السياسية. ظلت المؤسسات الدينية هي المسؤولة عن بعض القيود في المجتمع.
وبمرور الوقت اعتاد السعوديون على الفكرة: الدين والثقافة والمجتمع للمؤسسات الدينية والسياسة للأسرة الحاكمة.
يمكن اعتبار بداية تدشين العقد الاجتماعي الأول متزامنًا مع اكتشاف النفط في البلاد عام 1923.
التنوع المتزايد في وجهات نظر السعوديين، جعل الحفاظ على الموقف الأول أصعب. وردًا على تلك التنويعات، سارعت القيادة السياسية لتحقيق بعض التوازن بين المحافظين من جهة، وبين دعوات الإصلاح الاجتماعي التي يمكن وصفها بـ "الليبرالية" بالتعبير السائد حاليًا من جهة أخرى.
الوضع الجديد سمح للأسرة الحاكمة بأن تراقب الجانبين بشكل أقرب، وجعلها أكثر فاعلية في اتجاه خدمة مواطنيها، مستخدمة العنصر الاقتصادي القوي الذي مكنها منه اكتشاف النفط. وتراوحت الموازنات بين السلطة الدينية وبين الميول الليبرالية حسب الظروف السياسية.
بموجب العقد الاجتماعي الأول، حصل المواطنون على امتيازات اقتصادية مثل دعم المياه والطاقة وانعدام ضريبة الدخل الشخصي، مقابل ولاء المواطنين والامتناع عن المطالبة بأي تمثيل سياسي.
خلال تلك الفترة، امتنعت السعودية عن التدخل العلني المباشر في أية مواجهات في الشرق الأوسط إلا في نطاق ضيق في جوارها المباشر، وحافظت على موقف وسطي مماثل في التعامل مع الجيران والشركاء الأجانب. وإن مكنها من التدخل بشكل أو بآخر في بعض المشكلات والمبادرات الإقليمية.
النهج المتوازن قلل إلى حد كبير من الاضطرابات المحلية والمخاطر الإقليمية، وضمن لها الاستقرار والاستمرارية في الداخل والخارج. ومكنها من لعب دور أكثر أهمية في المنطقة. حينها تركزت جهودها في سبيل تعزيز الهوية الإسلامية والوحدة العربية. ونتيجة لذلك تدخلت بشكل مباشر في حرب الخليج الثانية عام 1990.
وتماشيا مع الدور الجديد، بدأ الملك فهد بن عبدالعزيز في إجراء تغييرات على النظام الأساسي للحكومة ليتوافق مع المرحلة الجديدة. أضاف بنودا جديدة شبه دستورية، مثل توسيع نطاق المرشحين لولاية العرش ليشمل الأحفاد بجانب الأبناء، وتوسيع بنود حماية الخصوصية للمواطنين داخل المملكة، وحظر التعدي على حقوق الإنسان، وإنشاء النظام الأساسي للشورى، ليكون من 60 عضوًا وأصبح لاحقا 120 عضوًا، وأصبحت الحكومة أكثر تمثيلًا فعليًا.
في هذا الوقت كانت السعودية صاحبة مبادرات أحادية الجانب تؤثر بشكل واضح في المنطقة. مثل مبادرة السلام العربية 2002 والخاصة بالصراع الفلسطيني الاسرائيلي.
استمر الملك عبد الله (2005 - 2015)، على نهج الملك فهد في التجديد والتغيير. نفذ سياسات إصلاحية، مثل تخفيف بعض القيود الاجتماعية، والحد من التأثير الديني في المجتمع، وجعل اليوم الوطني عطلة رسمية، كما نفذ إصلاحات اجتماعية محدودة.
التحديثات التي دخلت المجتمع والسياسة السعودية، زادت من الصراع بين المحافظين والليبراليين، ما دفع الدولة للتأكيد على الموازنة بينهم، فرغم من أنها حدت من بعض سلطات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا أنها استمرت في فرض بعض القيود، مثل قيادة السيدات للسيارات، وواقعة القبض على السعوديات اللواتي طالبن برفع هذا الحظر.
وظل العقد الاجتماعي الأول ساريًا في ظل هذا الوضع.
ظل الوضع السابق سائدًا حتى اندلعت أحداث ٢٠١١ في دول تشكل مع السعودية ثقل الاستقرار في المنطقة. أدركت السعودية كما غيرها من الدول المحيطة أن مسعى الإسلاميين لا يقتصر على النفوذ الاجتماعي، بل هم قوى سياسية لديهم تحالفاتهم العابرة للحدود، وأنهم حلقة متصلة من التهيئة الاجتماعية، حتى لو اختلفوا تنظيميا.
انتبهت القيادة السعودية إلى أهمية إعادة تقييم العقد الاجتماعي في ظل الظروف والسياقات الجديدة.
بدأت في 2015 تعزيز شكل جديد من أشكال القومية وتحديد الأولويات والانفتاح الاجتماعي. هذا الشكل ربط الفئات الشابة على وجه الخصوص بالقيادة الشابة المتمثلة في ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
العقد الاجتماعي هذا اعتمد على شراكة المواطن في المسؤولية الاقتصادية تمهيدا لتحديث وتنويع اقتصاد المملكة في حقبة ما بعد النفط.
هنا، انتهى العقد الاجتماعي القديم.. لم يعد مناسبًا للظرف الجديد.
مثلما حافظ الشكل أو العقد الاجتماعي الأول على استقرار السعودية وتماسكها داخليًا، وأبعدها عن الصراعات حتى يتسنى لها بناء نفسها من الداخل، رأت السعودية أنها في حاجة لتعديل المعادلة حتى يتسنى لها وضع أقدامها في الخارج بقوة. بدأت في تعبئة وطنية جديدة من أعلى إلى أسفل، واجهت بها قوة الإسلاميين.
المرحلة الجديدة وإن كانت بدأت ملامحها قديمًا بعد حرب الخليج الثانية، إلا أنها بدأت تتشكل بوضوح في 2015. من عند تلك النقطة بدأت السعودية في الإعلان عن استراتيجيتها الاقتصادية الجديدة المتمثلة في رؤية 2030، وأصبحت رمزًا لطموحات السعودية المحلية والإقليمية والدولية.
بالرؤية الجديدة في 2015، تكون السعودية قد خرجت عن عقدها الاجتماعي الأول، إلى عقد جديد يساهم فيه المواطنون في مصلحة البلاد والكف عن تلقي المزايا دون مقابل. وزادت مساحة الحريات الشخصية داخل المجتمع السعودي.
وبناءً على العقد الجديد، سارعت القيادة السعودية إلى سحب مسؤوليات المؤسسات الدينية بشكل كامل، مثل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنشاء هيئة جديدة للترفيه.
بموجبه أيضًا، فرضت ضريبة القيمة المضافة ورفعت أسعار الخدمات،. هذا نوع من الإجراءات كانت السلطات السعودية في الماضي تتجنبه، لكنها الآن تعتبره جزءا من هوية عصرية تعتمد على المواطن المسؤول.
العقد الجديد يدعم مركزية الدولة بدلًا من الدين، السعودية كدولة مستقلة ترعى مصالحها في المقام الأول و تنطلق من هذه النقطة. ويساهم في تأسيس النموذج الاقتصادي غير المعتمد على النفط الذي سند المملكة لسنوات طويلة.
السعودية أولًا: كيف تعمل القومية المفرطة على تغيير السعودية؟ (المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية)