ولد النبي محمد في مكة، المركز التجاري لشبه الجزيرة العربية، وملتقى القوافل الوافدة من كل مكان؛ من اليمن التابعة حينها لإمبراطورية الحبشة، والمناطق النائية من شبه الجزيرة، والمدن الشهيرة التابعة للفرس والروم: دمشق، وغزة، والحيرة، والبصرة.
يقول منشور لمنظمة الصحة العالمية إن هؤلاء الضيوف جلبوا معهم إلى مكة في مواسم الحج قبل الإسلام بعض جوانب المعرفة حول الجوانب السريرية والبيئية للملاريا، التي كانوا يدرجونها حينها تحت وصف الحمى.
ويضيف أن العرب القدماء أدركوا البيئة غير الصحية لواحات معينة ذات مناطق مستنقعات، وحاولوا تقليل المخاطر بتجنب تلك المناطق حيث ينتشر المرض، وصنفوا الحمى حسب أسماء الواحات المنبعثة منها، وبينها حمى يثرب. ويثرب هو الاسم الأصلي للمدينة المنورة.
في عام مولد النبي محمد 570م - المعروف بعام الفيل - حاول أبرهة الحبشي غزو مكة وهدم الكعبة، لتحويل الحجاج والتجار إلى معبده الجديد قرب صنعاء. لكن النص القرآني يقول إن طيرًا أبابيل رمت جيش أبرهة بحجارة من سجيل فدمرته.
في إصدار "المجلة الصحية لشرق المتوسط"، الصادرة في 1996، تقول منظمة الصحة العالمية، إنه لا يمكن أبدًا استبعاد أن يكون الطير المقصود بعوضًا ليليًا ناقلًا لوباء الملاريا.
يضيف أن سد مأرب في اليمن عانى من الفيضان بسبب الأمطار الغزيرة في وقت سابق في عام الفيل، بما يفترض أن يكون قد أثر على المنطقة بأكملها، بما في ذلك وادي المغمس القريب من مكة، والذي نزل فيه جيش أبرهة، وسمح بتكاثر واسع النطاق لناقلات الملاريا.
البيئة غير الصحية في مكة كانت مرتبطة تحديدًا بسنوات الأمطار الغزيرة. تقول منظمة الصحة العالمية إنها "كانت حقيقة معروفة في ذلك الوقت أن هذا المناخ في مكة المكرمة كان مسؤولًا عن ارتفاع معدل الوفيات بين الأطفال الصغار، ربما بسبب العدوى البكتيرية والفيروسية، وأحيانًا بسبب وباء الملاريا.
اعتاد أثرياء مكة استئجار مربيات في البادية لتربية صغارهم. تجمع المصادر الدينية على أن السبب كان البحث عن تربية الأبناء على صحة النفس وفصاحة اللسان، لكن منشور منظمة الصحة العالمية يؤكد بوضوح أن السبب كان دفعهم بعيدًا إلى بيئة صحية وخالية من الملاريا حتى يبلغوا سنًا أقوى. ومن بين الأطفال كان النبي محمد، الذي ربته حليمة السعدية، التي اعتنت به حتى بلغ سن خمس أو ست سنوات. ليعود إلى أمه آمنة، التي اصطحبته إلى يثرب التي ارتبطت بها حمى يثرب، لزيارة عائلتها، لتموت في طريق العودة إلى مكة.
يضيف المنشور: "وبالنظر إلى أن والد النبي قد مات أيضًا في يثرب قبل ست سنوات في سن مبكرة نسبيًا، بعد عودته من رحلة تجارية في غزة، فمن المحتمل أن الملاريا كانت سبب الوفاة المبكرة لوالدي النبي".
هجرة النبي محمد إلى المدينة (يثرب سابقًا) جرت في سبتمبر 622م، وهو شهر يقع ضمن موسم انتقال الملاريا في هذه المدينة. يقول المنشور إنه وصل المدينة فوجد معظم أصحابه الذين سبقوه إلى يثرب في فراش المرض.
يشير المنشور كذلك إلى احتمال وفاة ثلاث من بنات النبي الأربع، وابنه الصغير إبراهيم في يثرب لنفس السبب.
يروي ابن هشام وابن كثير وغيرهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي محمد "لما قدم المدينة هو وأصحابه أصابتهم حمى المدينة حتى جهدوا مرضًا". وفي البخاري، عن عائشة أنها قالت: قدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، وكان بطحان يجري نجلا أي ماء آجِنًا".
ومن حديث عائشة، يقول منشور منظمة الصحة العالمية إن ملاحظة "بطحان يجري نجلا" الواردة في الحديث تدل على معرفة زوج النبي بالناقل المسؤول عن الوباء، حيث من المعروف أن قاع الأنهار ذات القيعان الرملية والمسابح الراكدة مناسبة تمامًا لتكاثر بعوض الملاريا.
تقول النصوص الدينية إن الوباء استمر حتى رؤيا للنبي محمد وردت في البخاري عن عبد الله بن عمر قال فيها إنه رأى "امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى نزلت بمهيعة"، وهو ما أوله النبي أن الوباء نُقل إلى منطقة الجحفة الشهيرة بالمستنقعات بين مكة والمدينة، والتي كانت القوافل تتجنبها بسبب ما تسببه من أمراض.
يضيف المنشور إن المرأة السوداء يمكن أن ترمز إلى أنثى بعوضة الأنوفيلة المسؤولة عن التسبب في تفشي وباء الملاريا.
منشور آخر لمنظمة الصحة العالمية صدر في عام 1956 يلمح إلى أن النبي محمد ربما يكون قد أصيب بالملاريا في عام 630م، وتحديدًا في غزوة تبوك.
يضيف المنشور أن النبي خرج في ثلاثة غزوات في وقت مبكر من العام: فتح مكة، وغزوة حنين، وغزوة الطائف، قبل أن يخرج إلى تبوك في أواخر نفس العام، فيما تقول إنها فترة عالية المخاطر فيما يخص ارتفاع احتمالات الإصابة بالملاريا، وهو ما تشير إلى أنه قد يكون قد تسبب في ضغط كبير على صحته، أبقاه في المدينة حتى وفاته في يونيو 632م، فلم يخرج منها إلا في حجة الوداع مارس 632م.
المصادر العلمية التي تتحدث عن تفشي وباء الملاريا بين الحجاج في عام 632 ميلادية تجد ما يقابلها في المصادر الدينية، التي تشير إلى أن النبي محمد حث أصحابه على الإسراع بخطواتهم وإظهار قوتهم أثناء الطواف حول الكعبة كي لا يرى المشركون أن حمى يثرب قد استنفدتهم.
نشير هنا إلى أن بعض المصادر الدينية قالت إن الواقعة تعود إلى عمرة القضاء التي أداها النبي محمد في مارس سنة 629، لكنها وردت في كتاب الحج في صحيح مسلم، عن ابن عباس قال: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة، وقد وهنتهم حمى يثرب".
تضيف نفس المصادر أن النبي أمر أصحابه أن يرملوا ثلاثة أشواط ويمشوا ما بين الركنين ليرى المشركون جلدهم. لكن ابن عباس يستدرك: لم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها "إلا الإبقاء عليهم".
بعد شهرين فقط من عودة النبي محمد إلى المدينة بدأت أعراض الحمى، التي استمرت 11 يومًا تقريبًا، في الظهور، حتى توفي 8 يونيو عام 632م، بعدما عانى من حمى شديدة متقطعة.
رصد منشور منظمة الصحة العالمية أعراض المرض الذي أدى إلى وفاة النبي في الروايات الدينية، فوجدها:
- ارتفاع درجة الحرارة (فرط الحرارة) الذي يمكن تخفيفه بسكب الماء البارد.
- حالة تعرق شديد للغاية ذكرت زوجته عائشة أنها لم ترها من قبل.
- فقدان الوعي المتقطع. وعندما يسمح استعادة الوعي بالتواصل يكون فقط عن طريق الإيماءات لا شفهيًا.
- الضعف الشديد والمعاناة وعدم القدرة على المشي إلى المسجد الواقع على بعد خطوات قليلة من منزله، ما لم يساعده أصحابه.
يقول المنشور: "من هذا الوصف، لا يمكن إلا الشك بقوة في أن المتصورة المنجلية هي التي سببت المرض الذي أدى لوفاة النبي محمد". والمتصورة المنجلية هي طفيلي الملاريا المسؤولة عن معظم الوفيات الناجمة عن الوباء عالميًا.