بريطانيا تنتصر لذاتها – وللعالم – بسحق اليسار | مينا منير

بريطانيا تنتصر لذاتها – وللعالم – بسحق اليسار | مينا منير

14 Dec 2019
مينا منير دقائق

مينا منير

باحث بجامعة لوزان - سويسرا

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

لا يبالغ المتابع إذا اعتبر أن ما مرت به بريطانيا على مدار اليومين الماضيين كان معركة مصيرية أعادت إنتاج الهوية البريطانية ذاتها، في ضوء الكشف عن ذوات المتنافسين على حكمها.

ولأنها بريطانيا العظمى بكل نفوذها الإقليمي والدولي، فكانت معركة ما يُسمى بالـ Soul-searching بالغة الأثر على هوية الحركات المكافئة في العالم.

الصراع التقليدي في الانتخابات دار بين الحزبين الكبيرين: المحافظين برئاسة بوريس جونسون، والعمال الذي يقوده أكثر رموز اليسار تطرفًا في تاريخ الحزب، جيريمي كوربين.

لتعقيد المشهد، لاح للأحزاب الأقل حجمًا دور مهم في اللعبة السياسية إذا آلت الأمور إلى سيناريو “البرلمان المعلق Hung Parliament” والذي يعني أن الحزبين الكبيرين لن يحققا أغلبية مطلقة، ليلجأ أحدهما لصياغة ائتلافات مع الأحزاب الأصغر، وأبرزها الحزب الليبرالي الديمقراطي والحزب القومي الإسكتلندي.

في تلك المعركة الطاحنة، لم ترفع تلك الأحزاب أجندات سياسية محددة فقط، بل دخلت معركة هوية، رفع فيها كل حزب شعار ذاته التي يمثلها اسمه، فأسقط البريطانيون ورقة التوت عن كل تلك الأحزاب تباعًا، إلا الحزب الوحيد الذي نجح في إعادة انتاج هويته بشكل إيجابي، وهو حزب المحافظين. كيف؟

الليبراليون الديمقراطيون.. ليسوا ليبراليين ولا ديمقراطيين

الحزب الليبرالي الديمقراطي بدأ إعادة تجديد نفسه بالتخلص من رئيسه تيم فارون بسبب آراءه الشخصية المرتبطة بإيمانه المسيحي. فبالرغم من التزام الرجل في تصويته المتتالي على القضايا الأخلاقية المختلفة في البرلمان بأجندة الحزب، فقد أسقطوه لأنه عبر عن هويته المسيحية التي لا تتدخل في شؤون الحزب وسياساته. أي أن الحزب “الليبرالي” لم يتسامح مع فكرة أن يكون للإنسان معتقد ديني يخصه ولا يخلطه بالسياسة. حينها تساءل البعض إن كان الأمر مرتبطًا بالديانة المسيحية تحديدًا، والتي تعاني في الغرب بالارتباط الوثيق بما يُسمى ظاهرة الـ White Guilt، أم أن الحزب بالفعل ليس ليبراليًا كما يزعم؟

الغريب أن شعار الحزب بعد ذلك في ظل قيادة جو سوينسون كان إلغاء الاستفتاء على البريكزيت. لم تقل سوينسون أن الاستفتاء لم يكن سليما مثلًا، أو أنها ستستبدل به استفتاء آخر، وإنما قررت إلغاء نتائج أكبر ممارسة ديمقراطية في تاريخ بريطانيا. فتساءل آخرون، هل الحزب الليبرالي ديمقراطي؟!

الممارسة الأبوية التي مارسها الحزب ارتبطت بشخصية رئيسته، التي أعلنت أنها تتقدم بخطى ثابتة لرئاسة الوزارة من خلال تلك السياسة المناقضة للديمقراطية. في مؤتمر إعلان برنامج الحزب، التقطت لها صور تنم عن نوع من العنجهية التي أصابتها في مقتل.

صورة دعائية لزعيمة الحزب الليبرالي الديمقراطي جو سوينسون

رد فعل البريطانيين كان بالغ القسوة. لم يخسر الحزب في الانتخابات بشكل كبير فحسب، بل أسقط سوينسون نفسها في دائرتها الانتخابية في مشهد مهين ستحمله الذاكرة السياسية البريطانية طويلًا. انتهت رئاسة سوينسون وانتهى معها حلم أن يكون لهذا الحزب – الذي كان شريكًا في الحكم قبل تسعة أعوام فقط – أية قيمة.

إجابة خطأ يا شعب. هل ينفذ “الديمقراطيون” الأوروبيون إرادة الشعوب دائمًا؟ | تايم لاين في دقائق

حزب العمال.. الذي تبرأ منه العمال

في أحد المشاهد الساخرة الخالدة في ذاكرة المسرح المصري، يسأل جورج سيدهم الفنان نجاح الموجي (مزيكا) إن كان يعرف شيئاً عن السياسة. فيأخذ مزيكا وضعيته، ليجيب: “أنا الشعب”.

هذا حرفيًا الرد الذي تسمعه من كل ناشط في حزب العمال. يستمد الحزب ثقته الشديدة من قاعدته العريضة في شمال إنجلترا، حيث المدن الصناعية التي ترى فيه ممثلًا لها. لكن تمثيل الشعب أمر، وحشر أجندة يسارية في حلقه أمر آخر. حين وصل كوربين لرئاسة الحزب، لم تختلف رؤيته كثيرًا عن رؤية مزيكا؛ فالخطب الديماجوجية الخالية من المحتوى لا يُبتغى منها إلا التأكيد على الهوية المذكورة، مع إعطائها الصبغة اليسارية الغريبة في طبيعتها عن توجهات البريطاني.

ماذا حدث؟ في تلك الانتخابات، شعر الناخب “الشعب” في شمال إنجلترا بالإهانة للطريقة التي عوملت بها إرادته الحرة في التصويت للخروج عن الاتحاد الأوروبي. فقرر معاقبة حزب العمال بحرمانه من أكثر من 54 مقعدًا، الأمر الذي نسف الحزب نسفًا. بقيت له فقط مقاعده التقليدية في لندن ونواحيها، أي أنه صار حزبًا لليساريين الأغنياء والطبقة فوق المتوسطة، وليس العمال. بات لا يمثل الشعب بعدما انهار بالكامل وحصد أسوأ نتيجة له منذ انتخابات 1935.

نتائج حزب العمال منذ انتخابات 1918

لماذا يميل اليسار للعنف؟! مؤشرات خطيرة من واقع بريطانيا | مينا منير

أمة واحدة – هوية واحدة

أما حزب المحافظين فكان الوحيد الذي قدم هويته التي تحترم إرادة البريطانيين، بلا تعالٍ أو حشر أيديولوجيا معينة في أفواههم.

قرر بوريس جونسون ألا يتفلسف. اختار شعارًا بسيطًا لحملته: حققِ البريكزيت– أي احترام الإرادة الشعبية دون النظر إلى انتماءاتها الشعبية.

حورب جونسون على هذا الاختيار الذي اعتبره البعض مقامرة خطيرة قد تأتي بنتائج عكسية، لكن الرهان على الشعب البريطاني وقراءته للموقف حققت له أكبر أغلبية منذ عهد ثاتشر في الثمانينيات. هذا الانتصار الساحق والكاسح أعاد اكتشاف ما تعنيه الهوية للناخب البريطاني الذي ينتمي إلى أقدم الديمقراطيات في العالم.

لقد اكتشف المجتمع البريطاني أن الخيار الوطني في بساطته أهم من الشعارات المركبة التي لا تعكس حقيقة الملوحين بها، فالهوية الوطنية لا تقبل القسمة، وهي – كما كانت في الماضي –المحرك الرئيسي في السياسة البريطانية، والرهان عليها ربح.

انتخابات بريطانيا | لماذا تدعم جماعة الإخوان جيريمي كوربن بقوة؟ | مينا منير

تبعات عالمية

تبعات تلك المعركة الانتخابية ستكون مؤثرة في خيارات شعوب العالم، وليس بريطانيا فقط. بالفعل قال جو بايدن لأعضاء الديمقراط في الولايات المتحدة إن الهزيمة الكاسحة لكوربين واليسار يجب أن تؤخذ في الاعتبار بالنسبة لبلادهم المقبلة على الانتخابات الرئاسية العام المقبل. فالجنوح الحاد نحو اليسار في حزب الديمقراط الأمريكي ينبئ بنفس المصير المأسوي الذي حل بحزب العمال.

أما في أوروبا، فبالرغم من الارتياح داخل دوائر الاتحاد الأوروبي لوصول حكومة بريطانيا للأغلبية البرلمانية التي ستتيح تمرير اتفاقية البريكزيت، فالدول الأعضاء تخشى من تكرار النتائج في بلادهم إذا ما انكشفت هشاشة سياسات الهوية التي مارستها أحزاب يسارية وليبرالية فيها.

المكاسب التي خرجت بها بريطانيا بها من الدروس المفيدة ما يجعلنا نعيد النظر في حالة وتوجهات السياسات في العالم، وليس فقط في تلك المملكة العريقة.

في السياسة والاقتصاد والأيديولوجيا.. تأثيرات عالم ما بعد البريكزيت ستطال الجميع | مينا منير


كاد الجاسوس أن يكون رسولا: أوليج جوردييفسكي كشف استعداد اشتراكيين لخيانة أوطانهم | مينا منير

التجربة السويسرية… هل يسحق البريطانيون اليسار والاتحاد الأوروبي في الانتخابات القادمة؟ | مينا منير


 

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك