بعد أن بدأت غيمة الانغلاق بالتقشّع عن العالم العربي، وأطلت أشعة التنوير القادمة من الغرب على بلدان المشرق، نجمت عن ذلك تشكيلة من ردود الفعل تتراوح بين الاستنكار والقنوط (خاصة عند المشبعين بالمعارف التقليدية) وبين الخوف والرجاء (عند الأجيال الجديدة).
وكان لزاما أن يثار سؤال اللغة العربية، عاجلا أو آجلا، بوصفها الوسيط الأساس لنقل المعارف والأنباء، وبالتالي تشكيل الصورة البشرية عن العالم.
كانت اللغة العربية، آنذاك، حبيسة أسلوبين متنافرين جدا:
لذلك؛ ظهر بنحو متوقع موقفان رئيسان من مسألة الإصلاح:
أولا: التمسك بالأسلوب القديم
مشكلاته:
– الأجيال الجديدة لا تمتلك التفرغ المناسب لدراسة شرح ابن عقيل أو الشاطبي مثلا.
– قلة الحاجة إلى إتقان النحو والصرف، باستثناء طلاب الشريعة في الدول الإسلامية
مشكلاته:
– الموقف لم يقم على دراسة شديدة للوعي أو التمحيص للواقع.
– تغافل حقيقة أن الجذور التي تشبث بها التقليديون كانت دينية في الأساس.
– إعلان القطيعة التامة للتراث أمر فادح، فمن يقرر منع التراث خوفا من ابن تيمية، سيحرمها أيضا من أدب الجاحظ وشعر المتنبي وطب ابن سينا.
– انعدام توافر الأسباب، فلا العصر عصر تحول سياسي، ولا عصر اختراع الهوية.
اقرأ أيضا: أزمة تعليم بالعربية أم أزمة مصرية مع الهوية؟
وهكذا فقد آلت دعوة التخلي عن اللغة العربية للأفول وآذنت بالزوال، حتى لم يبق من ذكرها إلا كذكر دعاة الإسبرانتو أو اختزال الكتابة. لكن ذلك لم يخط سطر النهاية لحركة الإصلاح في النحو والأسلوب العربي، لأن روح العصر جعلت ذلك ضرورة، خاصة مع محاولة المؤسسات العربية أن تحاكي المراسلات الغربية، والأسلوب الناصع البسيط في الإنجليزية والفرنسية الحديثة.
ولذلك مثيل في الأذواق والأزياء. فقد كان الشكل المفضل من الجمال، فيما مضى، هو المكنون غير المبتذل بالعمل تحت الشمس أو مخالطة الأغراب، ولهذا كان البياض الأميل للشحوب صفة ممتدحة في أدب الغزل.
أما في العقود التي تلت حركة تحرير المرأة، فقد اتجهت الأذواق في الغرب تدريجيا نحو امتداح المرأة الرشيقة النشطة، واعتبار السفعة المكتسبة من التعرض للشمس من معالم الجمال.
وهكذا فقد سرت عدوى التجديد، والشعور بضرورة الإصلاح، إلى الجيل الجديد من النحاة العرب. فنجد إبراهيم مصطفى (وهو من أقران طه حسين اللامعين) يقول في كتابه القيم “إحياء النحو“:
“اتصلت بدراسة النحو في كل معاهده التي يُدَرَّس فيها بمصر، وكان اتصالا ً طويلا ً وثيقا؛ ورأيت عارضة واحدة، لا يكاد يختص بها معهد دون معهد، ولا تمتاز بها دراسة عن دراسة، هي التبرم بالنحو، والضجر بقواعده، وضيق الصدر بتحصيله؛ على أن ذلك ً من داء النحو قديما، ولأجله أُلّف «التسهيل» و«التوضيح» و«التقريب»، واصطُنِع النظم لحفظ ضوابطه، وتقييد شوارده.
والنحو مع هذا لا يعطيك عند المشكلة القول البات، والحكم الفاصل. قد يهدي في سهل القول، من رفع فاعل ونصب مفعول. فإذا عرض أسلوب جديد، أو موضع دقيق، لم يسعفك النحو بالقول الفصل. واختلاف الأقوال واضطراب الآراء وكثرة الجدل التي لا تنتهي إلى فيصل ولا حكم. كل ذلك قد أفسد النحو أو كاد، فلم يكن الميزان الصالح لتقدير الكلام، وتمييز صحيح القول من فاسده.
وإذا جئنا إلى مدارس الناشئين، كانت المشكلة في تعليمهم النحو أشدَّ وأكدَّ؛ … أما التلميذ فقد بذل الجهد واعيا، ولم يبلغ من تعلم العربية أربًا. وأما أصحاب المنهج فقد رأَوا أن يزيدوا في منهجهم، ويكملوا للتلميذ حظه من القواعد، فلا سبيل له إلى العربية غير هذا النحو؛ فزادوا في هوامش كتبهم ما يكمل القواعد ويتمم الشروط — ثم تسللت هذه الزيادات إلى جوف الكتاب فضخم، وزاد المنهاج المفروض.
ولكن طبيعة التلميذ الصادقة في إباء هذه القواعد، والتململ بحفظها، لم تخف شهادتها، ولم يستطع جحدها. فكانت ثورة على المنهاج وأصحابه. وخفف منه، وانتقص من مسائله، والداء لم يبرأ، والعوارض لم تتغير. وتكررت الشكوى، وعادوا على المنهاج بالنقص، حتى كان المقرر قواعد من النحو مختلفة، كأنما هي نماذج يُراد بها عرض نوع من مسائله.”
يشير هذا الاقتباس النابه إلى مشكلة لا تنفك عن المناهج التي تصاغ حسب الأسلوب القديم، ولكن لجيل لا يملك التفرغ المناسب لدراسة شرح ابن عقيل أو الشاطبي، ولا يحتاج من النحو والصرف إلى ما يحتاجه طلاب الشريعة.
فالكتب التي تفرض عليهم دراستها لم تكتب لأجلهم، ولا ساهم في إعدادها أناس عارفون بحاجاتهم، معتنون بمقاصدهم، بل كثيرا ما تبدو وكأنها مقدمات يراد بها أن تسهّل على الطالب مطالعة مطولات النحو والصرف، على ندرة من يفعل ذلك.
وهذا ما أكده وأوضحه تلميذه الرشيد، الدكتور أحمد عبدالستار الجواري، في كتابه البديع “نحو التيسير” حين قال:
وهذا جانب آخر من المشكلة: أن تبتلى بعض جوانب الواقع التي تعاني من إشكالات تستحق الدراسة والحل، بمتصدين للإصلاح يحسبون أن هذا التصدي يكفي ويزيد، ويبرر كل أخطائهم ويغتفر لهم عثراتهم.
– التزام وصدق، فما من طريق ملكي للمعرفة.
– الاطلاع على كتب “أمراء البيان” التي جمعها “محمد كرد علي” في مجموعة بنفس العنوان.