باحث بجامعة لوزان - سويسرا
حشد غفير من المراهقين دون 18 عامًا يحتشد عند مدخل مبنى الـ Amphipole بجامعة لوزان جعلها أقرب للمدارس الثانوية. يتوسط الجمع البروفيسور جاك دوبوشيه المألوف في الجامعة؛ فهو حاصل على جائزة نوبل في الكيمياء، بصحبته فتاة صغيرة الحجم والسن، بوجه بريء وضفيرتين كالأطفال. اقترب البروفيسور لتقديم ضيفته التي كانت الناشطة البيئية الشهيرة جريتا ثونبرج وسط تعليقات الإعجاب والتشجيع لرسالتها في حماية البيئة.
جريتا ثونبرج تبلغ من العمر خمسة عشر عامًا. بنيتها الجسمانية ضئيلة، والضفائر تزيد علامات البراءة التي تغطي وجهها الطفولي، ما زاد شعوري الأبوي نحوها، خصوصًا بعدما علمت أنها أيضًا تعاني من داء التوحد Autism.
لم أناقشها في الأمور العامة التي تنشط فيها بل سألتها: ماذا تودين دراسته؟ كانت براءتها وبساطتها محل اهتمامي، لكن ما رأيت جعلني أشعر بقلقٍ بالغ عليها.
المشهد كان يتجه نحو حالة من الهستيريا مع ازدياد أعداد المراهقين الآتين من شتى دول العالم للتظاهر والإحتفاء بجريتا بصورةٍ شديدة العاطفية. لم يمضِ الوقت حتى انضمت ممثلات عن جماعات اليسار والنسوية بملابسهن المزركشة، وصخبهن الشديد، وشعاراتهن المليئة بكلمات غاضبة أشعلت حماس جموع المراهقين.
كان الوضع بائسًا وكأنه طقس هستيري تقدم فيه الذبائح والمحرقات على مذبح إله الغضب اليساري والنسوي. وكان كبش المحرقة هو جريتا ثونبرج.
لعل المتابع يتساءل: هل يجب أن يتبنى الشخص أيديولوجية اليسار أو أن يتقبل صياحة النسوية كي يقر بالأزمة البيئية والمناخية التي يمر بها كوكب الأرض؟ بالطبع لا، لكن قضية البيئة ونبل مقاصد نشطائها من أمثال جريتا ثونبرج يجري تسخيرها بشكل منظم في كل مكان كقضية يسارية صرف.
الخطورة في قضية جريتا ثونبرج أن المسألة انحدرت إلى استغلال لأطفال ومراهقين بشكل يعرضهم للخطر النفسي قبل الجسدي. جريتا لا تلتزم بالحضور الدراسي ولا تتلقى حصتها الطبيعية من التعليم في سنها، ومع ذلك لا ينال مستقبلها أي اهتمام حتى من أسرتها.
في أحد الحوارات التي أجرتها الجارديان مع معلمي جريتا، قال أحدهم إن الفتاة صارت على طريق الانهيار، وباتت ردودها الحادة تعيقها من تحصيل الدروس، فقالت ذات مرة إنه “لا حاجة لتعلم الحقائق؛ فالسياسيون لا يهتمون بالحقائق ولا بالعلم، فلماذا أتعلم؟”
الأخطر أن جريتا ثونبرج حُولت إلى رأس حربة في معارك اليسار بما يعرض الفتاة التي تعاني من التوحد وصنوف من نوبات الاكتئاب الحاد لدرجاتٍ من النقد الذي قد يحطمها نفسيًا. هذا ما أرى أنه يرقى إلى مستوى الانتهاك Child Abuse.
في لوزان طُرح على الفتاة أسئلة بخصوص إدراكها إن كانت هي شخصيًا تخضع للتلاعب السياسي، وإن كان عليها إدراك ذلك قبل فوات الأوان، فكانت ردودها تنم عن ضجرٍ شديد يكشف عدم قدرتها على إدراك تعقيد الموقف؛ فقضية المناخ والبيئة ليست خاضعة لصريخ أطفال في قاعة جامعية وإنما حسابات سياسية كبرى بمتاريس ضخمة قادرة على سحق من يدس أنفه وسطها.
يدرك نشطاء اليسار تمامًا خطورة وحساسية توجيه النقد لفتاة صغيرة السن وفي الهشاشة النفسية التي لدى جريتا، ومع ذلك فإن استغلالهم لها يكشف مدى الانحلال الأخلاقي النابع من فكرة ابتزاز المخالفين؛ فالمخالف سيفكر مرتين قبل أن يصدر نقداً لمحتوى خطاب تلك الفتاة البريئة، وإن تجرأ وفعلها فإهالة الاتهامات بالعار والتنمر ستكون من نصيبه، كما حدث مع أعضاء البرلمان الفرنسي الذين انتقدوا التوظيف الخطير لجريتا في محطتها الأخيرة بباريس قبل وصولها إلى لوزان.
أما في محطتها في بريطانيا التي سبقت فرنسا، فبمجرد أن وصلت جريتا حتى تلقفها حزب العمال الذي طوعها لتمرير مشروع “يخدم البيئة” في مجلس العموم.
الفتاة ظهرت في الإعلام مع جيريمي كوربين رئيس الحزب وهو يهيل عليها بالإطراء، ثم ظهرت إلى جانب ديانا أبوت التي وصفتها بـ “الرفيقة جريتا” فصارت الفتاة أيقونةً لليسار.
تلك المعادلة الصعبة التي وُضعت جريتا فيها تنبئ بخسارة فادحة لطرفيها: فلا يمكن أن تتحرك مؤسسات ودول لنداءات وحشد أطفال، وفي نفس الوقت سينمو جيل يشعل بالمرارة لما تعرض له من نقدٍ لا يحتمله في ذلك السن.
الرابح الوحيد هو اليسار الذي سيخرج بتلك الأجيال التي تعرضت لـ “التشريس” لتتحول إلى جماعات كراهية أكثر من كونها نشطة من أجل هدفٍ ما، أحيانًا يكون النسوية أو البيئة في أحيان أخرى.
قبل وقت قريب أُعلن رسميًا عن ترشيح جريتا ثونبرج للحصول على جائزة نوبل. ستتحول الفتاة الصغيرة إلى أيقونة، لكن الحقيقة أنها لن تكون أيقونة لمقاصدها هي بل لمن شكلوها لخدمة صراعهم الأيديولوجي مع خصومهم.
في وسط كل ذلك، ألا يحق لنا أن نتساءل إن كان هذا الاستغلال للأطفال هو بالفعل ما يُسمى بالفُجر في الخصومة؟
الأخوات المسلمات أمام تمثال العضو الأنثوي: الإخوان واليسار في غزوة سويسرا | مينا منير
بين حكايات الأخوين كيبلر وروايات سلافوي كجيجك.. من صنع بؤس العالم؟ | مينا منير
ترامب يحارب “قمع اليسار لحرية التعبير” في الجامعات والأكاديميا | س/ج في دقائق