تنويه: لسنا فريق تحقيق جنائي، ولا تتوفر لدينا الأدلة التي يقال إن أجهزة أمنية تمتلكها. ومن هنا، فإن ما نعرض له هو الروايات الإعلامية العلنية، لا أكثر ولا أقل. لا نحاول أن نحسم القضية نفسها، بل أن نختبر التدقيق الإعلامي في القصص المنشورة والمذاعة.
اختفى الصحفي السعودي جمال خاشقجي في مدينة إسطنبول التركية. آخر ما سجلته الكاميرات كان دخوله إلى القنصلية السعودية في إسطنبول.
القنصلية السعودية تقول إنه خرج. وكذلك تقول التقارير الأولى من الجزيرة:
التقارير اللاحقة من الجزيرة، والتسريبات التركية إلى الإعلام العالمي، تقول إنه لم يخرج من السفارة، بل قتل داخلها.
سنحاول أن نجيب على ذلك في دقائق.
تطورت روايات قناة الجزيرة القطرية بشكل متسارع، لكننا سنبدأ بالمنشور الأهم، والذي يتناقض كليًا مع كل الروايات التالية.
المنشور، والذي لا يزال متاحًا حتى اللحظة عبر صفحة القناة الرسمية على فيسبوك، ينقل بوضوح عن مراسل الجزيرة في إسطنبول، تأكيده أن الشرطة التركية تحققت من كاميرات المراقبة، التي أظهرت أن خاشقجي غادر مبنى القنصلية بعد 20 دقيقة من دخولها.
تلك الرواية تتناقض كليًا مع الروايات التي تبنتها القناة وغيرها من وسائل الإعلام التركية والإخوانية وبعض المؤسسات الغربية المهمة لاحقا.
الجزيرة تجاهلت روايتها الأولى، وانتقلت لرواية مختلفة، نقلًا عن عدة مصادر، بينها مستشار الرئيس التركي ياسين أقطاي، الذي قال إن السلطات التركية تميل للاعتقاد بأن خاشقجي ما زال محتجزًا في القنصلية.
هنا تدخل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ليؤكد، في مقابلة مع بلومبيرج، استعداد بلاده للسماح لتركيا بتفتيش قنصليتها في إسطنبول للبحث عن خاشقجي، باعتبار أنه ليس لديها ما تخفيه.
في اليوم التالي، اصطحب القنصل السعودي صحفيي رويترز في جولة داخل مبنى القنصلية؛ لإثبات أن خاشقجي ليس هناك.
وتجول القنصل في المبنى المؤلف من ستة طوابق، بما في ذلك المصلى الموجود في المرأب والمكاتب وشبابيك التأشيرات والمطابخ والمراحيض وغرف التخزين والأمن، وفتح خزانات الملفات وأزاح الألواح الخشبية التي تغطي وحدات تكييف الهواء.
بالوصول لتلك النقطة، انتقلت الرواية إلى المرحلة الثالثة، إلى الحديث عن قتل خاشقجي وتقطيع جثته إلى أجزاء، ثم تهريبها إلى خارج المبنى.
هنا تكشفت ثغرة جديدة؛ فحي ليفانت، حيث تقع القنصلية السعودية، ليس نائيًا. هو أحد الأحياء الأكثر حيوية في منطقة الأعمال المركزية في إسطنبول، ما يجعل من المستحيل القيام بتحرك بهذا التعقيد دون أن ترصد معالمه كاميرات المراقبة المنتشرة بكثافة في جميع شوارع الحي، بخلاف حواجز الشرطة المنتشرة لتأمين المبنى.
هنا ظهرت رواية جديدة في الإعلام التركي.
تقول الرواية إن فريق إعدام مكونا من 15 سعوديًا بينهم مسؤولون، وصلوا إسطنبول على متن رحلتين خاصتين، بجانب السيارة السوداء، التي قالت إن كاميرات المراقبة رصدت تحركها من مبنى القنصلية إلى منزل القنصل السعودي.
في محاولة لإثبات صدقية الرواية، سربت السلطات التركية صورًا قالت إنها لطائرتين سعوديتين خاصتين وصلتا إسطنبول يوم الاختفاء، ثم غادرتا في المساء، وصورًا لـ15 سعوديل قالت إنهم وصلوا المدينة على متن الرحلتين.
يفترض أن “فريق الإعدام” كان يضم العقيد صلاح محمد الطبيقي، مدير الطب الشرعي بالإدارة العامة للأدلة الجنائية بالأمن العام السعودي.
نشر الإعلام التركي صورة قال إنها تثبت وصول الطبيقي على الطائرة الخاصة، لكن الصورة كانت مقصوصة؛ لأن الصورة الكاملة تظهر المسؤول السعودي لدى وصوله المطار بالفعل، لكن رفقة زوجته في زيارة سابقة لتركيا بغرض السياحة.
الطائرة الثانية يفترض أنها وصلت إسطنبول في الخامسة مساءً؛ أي بعد إكمال عمليتي الخطف والقتل.
لقطات الطائرتين نفسها تظهر ثغرة أخرى؛ فإحداهما ظهرت في لقطة رفعها مستخدم لموقع فليكر في مارس 2016، بخلاف الثلوج الكثيفة التي تظهر بوضوح في خلفية الصورة، التي يفترض أنها التقطت يوم 2 أكتوبر، الذي وصلت فيه درجة حرارة إسطنبول إلى 17 درجة مئوية، ووصفت مواقع الأرصاد الأجواء فيه بالمشمسة، وهو ما تؤكده اللقطات التي ظهرت لمبنى القنصلية حينها.
بجانب ذلك، أكدت “حرييت” التركية أن الطائرة الثانية تعرضت لتفتيش دقيق لم يصل إلى شيء، فسمح لها بالمغادرة، دون التطرق لما حدث مع الطائرة الأولى المفترضة.
كان يمكن لتركيا بصورة أبسط أن تلجأ لسجلات الوصول والمغادرة في المطار المخصص للطيران الخاص، وكذلك سجلات فندق موفنبيك، الذي يفترض أنهم أقاموا فيه لساعات، والتي ستتضمن بالتأكيد أسماء أي مسؤولين سعوديين تزعم أنهم وصلوا المدينة وغادروها يوم الحادث المفترض، وهو ما لم يحدث لسبب ما.
رواية فريق الإعدام تقودنا إلى صحيفة نيويورك تايمز
صحيفة نيويورك تايمز نشرت خبر “فريق الإعدام” ثم سحبت التغريدة واعتذرت عن نشرها لأنه لا يمكن التحقق من المعلومات الواردة فيها بصورة مستقلة.
Editors’ Note: We have deleted an earlier tweet to this story. pic.twitter.com/oJr2NERr1N
— The New York Times (@nytimes) October 11, 2018
في ما عدا ذلك تبنت نيويورك تايمز بشكل عام الرواية التي ينقلها “مصدر تركي لم يكشف اسمه”.
مضت واشنطن بوست في مسار مختلف. الاستخبارات الأمريكية، بحسب رواية الصحيفة، كانت على علم بمخطط سعودي لاعتقال خاشقجي، بعدما اعترض مسؤولون أمريكيون محادثات لمسؤولين سعوديين يخططون لاستدراج خاشقجي من مقر إقامته في ولاية فرجينيا بالولايات المتحدة واعتقاله.
الرد هنا رسميًا وحازمًا. المتحدث باسم الخارجية الأمريكيّة روبرت بالادينو قال إن بلاده لم تكن على علم مسبقًا بأي مخاطر تهدد خاشقجي، مضيفًا: “بالرغم من أنه لا يمكنني التكلم في مسائل الاستخبارات، إلا أن بوسعي أن أجزم بشكل قاطع بأن الولايات المتحدة لم تكُن لديها معلومات مسبقة عن اختفاء جمال خاشقجي”.
الرواية الثانية تتعلق بإبلاغ الحكومة التركية مسؤولين أمريكيين عن حيازتها ما تزعم أنه أدلة تشمل تسجيلات صوتية ومصورة، تثبت بأن خاشقجي قتل داخل القنصلية السعودية في إسطنبول. وهي أيضا رواية لمصدر لم يكشف اسمه.
وتظهر التسجيلات المزعومة، فريقًا أمنيًا سعوديًا يقوم باعتقال خاشقجي في القنصلية، ثم لحظة قتل خاشقجي.
الاحتمال الوحيد لأن تكون هذه الرواية صادقة يقضي بأن تركيا تتجسس على القنصلية، بافتراض أن الرواية صحيحة بالأساس. فهل يمكن أن يسرب مسؤول تركي إلى صحيفة أمريكية ما يفيد بأن بلاده تخالف القانون الدولي الملزم للدول وتتجسس على البعثات الدبلوماسية؟! ربما. لكن هذا يعني أن الدليل لن يخرج إلى العلن.
ومع تجاوز هذه النقطة يظهر سؤال جديد: طالما أن تركيا تملك أدلة بهذه القوة، لماذا أعلنت في وقت لاحق إشراك فريق محققين سعوديين في التحقيقات الرسمية.
لقطات فيديو أخرى ظهرت لكاميرات المراقبة تزعم إخراج خاشقجي “أو جثته” من المبنى في سيارة سوداء تحركت إلى منزل القنصل.
السيارة المزعومة تحركت من القنصلية في الثالثة وثمان دقائق يوم الثاني من أكتوبر، بحسب لقطات الفيديو، لكنها قطعت 500 متر إلى منزل القنصل، لتصل في الثالثة وسبع دقائق؛ أي قبل الموعد المفترض لتحركها بدقيقة.
ثغرات أخرى تظهر في رواية خديجة جنكيز، خطيبة خاشقجي المفترضة.
علاقة جنكيز بخاشقجي نفسها كانت محل تشكيك مغردين سعوديين، كونها لم تظهر معه في أية صور قبل الاختفاء، باستثناء صورة واحدة يقولون إنها خضعت لبرامج تعديل الصور؛ بسبب اختلاف درجات الألوان في نقاط الالتصاق بينهما، ما دفعهم لاعتبارها مركبة.
بعد تساؤلنا في وسم #جميل_جمال لماذا لا توجد صورة واحدة تنفرد بها خديجة مع #جمال_خاشقجي، نشرت خديجة في صحيفة الواشنطن بوست هذه الصورة، والتي أثارت الشكوك، أشارككم بعض هذه الشكوك عبر #كشف_المسعور pic.twitter.com/TcEiACVSLR
— نايفكو NAIF (@naifco) October 11, 2018
التشكيك تزامن مع نفي أسرة خاشقجي معرفتهم بأي علاقة كانت تجمع الصحفي المختفي بخطيبته المزعومة.
نعود للرواية نفسها، قالت جنكيز إنهما وصلا مقر القنصلية سويًا عند الواحدة ظهرًا، لكن كاميرات المراقبة أظهرت وصول خاشقجي، برفقة شخص لم يظهر في اللقطات، في الواحدة و14 دقيقة ظهرًا، ولم تظهر السيدة في أي مقطع فيديو قبل الخامسة و33 دقيقة مساءً.
تقول جنكيز أيضًا إن خاشقجي كان متخوفًا من زيارة القنصلية، وأنه طالبها بإبلاغ صديقه المقرب ياسين أقطاي، مستشار أردوغان، حال تأخر في الداخل.
الزيارة بالأساس كانت للحصول على وثيقة طلبها خاشقجي يوم الجمعة 28 سبتمبر، بالتالي يفترض ألا تستغرق الزيارة أكثر من دقائق، لكن جنكيز، وفق روايتها، لم تتحرك إلا الساعة 4:30 مساءً. جنكيز كانت موجودة في محيط القنصلية، ومن المفترض أنها رأت التحركات “المريبة” للسيارتين السوداوين، و”فريق الإعدام”، لكنها لم تتصل بأقطاي إلا بعد ثلاث ساعات وربع الساعة من دخول خاشقجي إلى السفارة.
تتضارب رواية جنكيز من جهة أخرى مع روايات وسائل إعلام إخوانية، ادعت أن القنصلية أعطت إجازة مفاجئة لموظفيها الأتراك يوم قدوم خاشقجي إليها. لكن خديجة جنكيز تقول بصوتها إنها ذهبت وسألت موظف أمن تركيا في القنصلية إن كان رأى خاشقجي يخرج.
فهل أعطت القنصلية إجازة لموظفيها الأتراك أم لا؟
كل الروايات السابقة تأتي من وسائل إعلام تتبنى رواية أن السعودية قتلت خاشقجي داخل قنصليتها في إسطنبول. فماذا عن الرواية السعودية! وهل فيها ثغرات أيضا؟
الإجابة نعم.
السعودية موضوعة في هذه القصة في موضع المتهم الذي يصر على براءته. فريق الادعاء قدم قضية وفر فيها شهودا، هي خديجة التركية، ودافعا لـ “الجريمة”، كون خاشقجي كان معارضا لتوجه السعودية ضد الحلف العثماني (قطر والإخوان المسلمين وتركيا)، ومنفذين، في صورة فريق الإعدام المدعى، ومسرحا لـ “الجريمة”، القنصلية.
بالنسبة للمتهم، لا بد من تقديم رواية مقابلة، تفند عناصر الادعاء. على سبيل المثال
١- تقديم دليل على أن خاشقجي خرج. ربما عن طريق كاميرات التصوير، أو عن طريق شهود رأوه يخرج.
٢- دحض رواية فريق الإعدام. وهذا سهل للغاية لو كان هؤلاء مجرد مواطنين. يمكن الالتقاء بهم في حوارات إعلامية لكي يتحدثوا عن ظروف توجههم إلى تركيا.
حتى حدوث ذلك فالرواية “الإعلامية” السعودية نفسها ليست رواية بالمعنى المعروف، وإنما مجرد نفي في انتظار أن “البينة على من ادعى”. السعودية تقول إنها لا تتعامل في مثل هذه المواضيع مع الإعلام. والآن وقد بدأ فريق تركي سعودي أمني مشترك تحقيقاته، ما علينا سوى الانتظار لكي نرى إن كان لدى السعودية ما تقدمه.