عمرو دياب.. الحُب وَحدهُ يَكفي جدًا

عمرو دياب.. الحُب وَحدهُ يَكفي جدًا

8 Oct 2018

أمجد جمال

ناقد فني

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

منذ بضعة أعوام، ظهر مقطع مصوّر لـ عمرو دياب في أحد حفلاته، يسخر فيه من أغنيته “رصيف نمرة 5″، ويقول إنه لا يفهم كلمات الأغنية. على الفور، تناقل بعض النشطاء والمثقفين هذا المقطع بغضب أدى لكتابة بعضهم مقالات ومنشورات طويلة على السوشال ميديا بها هجوم على المطرب، الذي لا يفهم كلمات الأغنية الوحيدة الشهيرة في مشواره غير المتعلقة بالحب، وبالطبع شملت ردود الأفعال اتهامات له بالسطحية والجهل.

لم يفكر أحد أن “رصيف نمرة 5” قد تكون بلا معنى بالفعل! أو أن هذا اللامعنى المزعوم هو “الإيفيه” من وراء غنائها في المقام الأول.

هي لم تكن المرة الوحيدة التي علق فيها عمرو دياب بنفس التعليق حول الأغنية، بل سبقها حادثة أخرى في إحدى حفلاته الصيفية بمارينا في نهاية العقد السابق، روى فيها دياب أن مؤلف الأغنية نفسه “مدحت العدل” قال إنه لا يفهم كلماتها حتى الآن!

الإيفيه في رصيف نمرة 5

هل كان دياب يبالغ أو يمازح جمهوره؟ الإجابة موجودة بوضع الأغنية داخل سياقها، وهي أولًا وأخيرًا أغنية فيلم “أيس كريم في جليم 1992″، أي أن لها توظيفا دراميا في قصة عن “سيف”، المطرب الناشيء المفتون بالثقافة الغربية، في اللبس والفن وأسلوب الحياة غير المعقد، شاب لا تفارقه أغنيات ألفيس بريسلي عن الحب، وحين يغني بالعربية يختار “بتلوموني ليه”.

يلتقي ذلك الشاب الطموح بنور، وهو شاعر مثقف وناشط ثوري، وبدوره يقنع سيف بضرورة تغيير نوعية الأغاني التي تستهويه، وأن يغني “كلام أهم من كدا”، لتتحول سريعًا “بتلوموني ليه” إلى “خلي السلاح صاحي” و”المسؤولية”.. من “لو شفتم عينيه حلوين قد ايه” إلى “صناعة كبرى، ملاعب خضرا، تماثيل رخام ع الترعة وأوبرا في كل قرية عربية”.

هكذا صارت نوعية الأغاني التي يسمعها سيف وهو مع نور على الدراجة البخارية، وكلها أغنيات يجمعها طابع البروباجاندا السياسية للحقبة الناصرية، بعكس الرومانسية البحتة وقصص الحب بكلماتها البسيطة التي تمس القلب بدون هدف تعبوي.

من هنا تولدت “رصيف نمرة 5″، وعلى نغمات موسيقار عجوز يدعى “زرياب”، قيل إنه مؤمن بالأفكار الماركسية، وقام بأداء دوره الممثل “علي حسنين” الذي يشبه كارل ماركس حتى في الشكل! لا ننسى ما قاله دياب في برنامج “الحلم” عن مصدر إلهامه الموسيقي في تلحين هذه الأغنية، وهي أغاني الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، واتجاهاتهما ليست بحاجة للتوضيح، لذا فالأغنية بدأت من آلة العود على الطريقة الإمامية، مع كلمات عن الغلابة والعجائز والمديونين والمكبوتين في زحام القاهرة.

قد يرى البعض أنه كلام له معنى، وفي رأيي هو كلام مبتور الصلة، ولا تخرج منه بفكرة متماسكة، حتما هناك شيء يغضب الشاعر، لكنه تائه وسط تجميع لعدة مظاهر سلبية على طريقة فقرات برامج التوك شو، حيرة تجعلك تتساءل ما هي المشكلة، أهي قضية السلام؟ أم الأفلام القديمة؟ أم إعلان الكاكولا؟ وما علاقتنا كمستمعين بمشاكل نصحي السروجي مع بقالة الأمانة وسبع أفندي وعم لمعي؟ وهل يعيب عبد الله رشدي أنه محامي قدير؟ وهل يحق لعم فكري أن يثير الضوضاء لمجرد أنه فقير؟ ولو كان علينا التسامح مع إزعاج لمعي، فلماذا كان الغضب من كلاكس التروللي في بداية الأغنية؟ وقد يكون أداء شحتة المزيّن سيئا في الحلاقة، لكنها مجرد تجربة شخصية يمكن تفاديها بتغيير المزيّن، وليس بالدعوة لقلب نظام الحكم مثلا!

عمقها في خداع المثقفين بعمقها

هذا ليس تقليلًا من الأغنية. على العكس، فالأغنية نجحت تمامًا في توظيفها الدرامي، كأغنية تدّعي تناول قضايا الشارع، لكنها في الوقت نفسه صعبة الفهم من رجل الشارع!

بلا شك”رصيف نمرة 5″ أغنية ذات معنى عميق؛ فقط لأنها استطاعت خداع المثقفين لما يزيد عن ربع قرن بكونها أغنية ذات معنى عميق، لا مجرد محاكاة ساخرة للأغاني العميقة أو محاكاة بقلة نضج متعمدة ، بهدف نقد هذا النوع من الأغاني وليس تمجيده.

هذا ليس تفسيري، بل يظهر بشكل مباشر خلال أحداث الفيلم التالية، سيف الذي ينفجر في وجه نور وفي وجه أغاني الشارع ويقول في أحد المشاهد: “عاوز أغني عن نفسي، عن حاجات تخصني، يمكن بسيطة يمكن تافهة بس حاسسها، مش عايز أبقى بطل”.

في نفس إطار رفض هذه الأغاني يقرر أن تكون وصلته الغنائية التالية بدون اعتماد على شاعر بالأساس.

بس انت تغني وإحنا معاك

“بس انت تغني وإحنا معاك”، شعار يرفعه جمهور عمرو دياب في حفلاته، وهو أيضًا منهج فني للمطرب، ينساه أو يتناساه الكارهون مع صدور كل ألبوم جديد له، فهم مصرون على توجيه نفس الانتقادات التي يؤكد الزمن والاستمرارية والنجاح الطاغي وتصدر القمة سقوطها كلها بالتقادم.

“إديني عقلك أغني إزاي كل اللي عندي آهات في آهات”، ثم يكمل سيف الكوبليه بهذه الآهات.. دون الحاجة لكلمات. يحاول نور أن يغريه بسطر على شاكلة “يا معوقين الدنيا اتحدوا .. الكون مشاع كان في البدايات” فيأتيه الرد “والله منا فاهم حاجة نقطني يابني شوية سكات”. نعم، فعمرو دياب لم يفهم “رصيف نمرة 5″، كما لم يفهم كيف كان الكون مشاعًا في البدايات. هو ببساطة غير مهتم بهذه الأمور، هو يستطيع أن يغني هذا الكلام بسهولة، لكنه يفضل عنه الآهات والعين والليل والشوق وحبيبي وتعالى، هو لن يرضى مرة أخرى بابتزاز نور ومن هم مثل نور في تعريفه ما هو المهم وما هو الأقل أهمية.

تجربة السلطنة

تجربة عمرو دياب الغنائية هدفها الأول موسيقي حسي بحت، في لغتنا الدارجة نسميه “السلطنة”، هي تجربة تهرب كل الهروب من دور الوصاية على المستمع أو من استخدام الموسيقى في الترويج للأيديولوجيات، أو من ادعاء العمق ومناقشة القضايا “الكبيرة”.

عمرو دياب يغني ما يصدقه ويحسه ولو كان في نظر البعض تافهًا، كما قال سيف. وهذا ما يصنع المصداقية ويكتب النجاح والانتشار الجنوني لكل حرف يغنيه.

قد يقول البعض إن هذا مجرد مشهد في فيلم، لكنه معبر تماما عن التجربة الديابية عبر تاريخها الممتد لخمسة وثلاثين عامًا، حتى أن دياب نفسه يقوم باسترجاع هذا المشهد في حواراته الصحافية، ويُسقط ما قاله سيف على عمرو، لذا فالفيلم ليس مجرد فيلم، بل تأسيس لمشوار فني، وبيان بسمات هذا المشوار.

يبحث عمرو دياب عن اللحن الجذاب، والتوزيع المتطور الذي يضع به الموسيقى العربية على الخريطة العالمية، وبعد ذلك تأتي الكلمة، التي لا يكتفي بأن تكون سهلة، بل ويجب أن تتمتع كذلك برنة موسيقية شجية في نطقها.

يعرف عمرو دياب جيدًا أن شعبيته تخطت الإقليم، وأصبح له مستمعون من كل دول العالم، هو يسترجع يوميًا الدرس الذي تعلمه من الانتشار العالمي الذي حققته أغاني “نور العين” و”تملي معاك”، الأجانب يستطيعون نطق “حبيبي”، مثلما نطقوا “ديدي” و”عايشة” للشاب خالد. كما يسترجع الدرس الذي تعلمه من فترة ما قبل “ميال” حين كان مجرد استنساخ باهت لمحمد منير، ولم ير القمة إلا وقت تمرد على هذا الشكل، وصنع مدرسته الغنائية الخاصة الذي قلده فيها معظم من ظهروا بعده.

لا أتحدث هنا عن الذكاء بل عن الحدس الفني، والفطرة المعجونة بالموهبة.

اقرأ أيضًا| أكثر المقولات إلهامًا حول صناعة الأفلام

الألبوم إمتى؟!

يستخدم الكثيرون “الذكاء” في حالة عمرو دياب تهمة. والعامان الأخيران خير شاهد بأن هذا الرجل لم يكن ينجح بسبب الذكاء. نعم ساهمت في شعبيته صورته كرجل العائلة المستقرة، الرياضي الذي لا يدخن، من الجيم للاستوديو ومن الاستوديو للجيم، الذي لا يسهر ولا يشرب ويرفض الظهور ويكره التجمعات، الصامت وقت البلبلة والبعيد عن توريط نفسه في مواقف قد تحد من شعبيته، الذي يخاف من التصريح بزمالكاويته قبل آرائه السياسية.

لكن، قيل وشوهد أنه دخل في العامين الأخيرين علاقات صداقة وارتباط عاطفي وفني، أثارت الجدل والغضب المبرر وغير المبرر، خطوات ربما دمرت جزءًا من صورته الذهنية السابقة، وكانت كفيلة بإنهاء تربعه على القمة، لكن هذا لم يحدث، فحتى أثناء كتابة هذا السطور يتصدر ألبوم “كل حياتي” المرتبة الأولى في مبيعات متجر أيتونز بكل دول الشرق الأوسط، والمركز الأول في السويد، والتاسع في كندا، والخامس عشر في الولايات المتحدة، والأهم، ما زالت شوارع مصر تعمل كمكبر صوتي لنغمات أغانيه، في كل متر ستسمع هذا الصوت. فلا يزال الملايين متلهفين لجديده، ولا يزال سؤال “الألبوم إمتى” مفهوم عند أصحاب متاجر الأسطوانات دون توضيح من السائل أي ألبوم يقصد.

زمن عمرو دياب

عمرو دياب لا يزال هو المطرب الذي يُعنفه جمهوره إن تأخر في إصدار ألبومه، وكأنه حق مثل الماء والهواء، فهو يصنع الحالة الفنية الأكثر تفردا في هذا العصر، والتي تحولت لطقس احتفالي، حالة ستجعلنا نحكي للأجيال القادمة أننا عشنا زمن عمرو دياب.

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك