فايز السراج جديد على السياسة رغم تاريخ عائلته. والده مصطفى السراج كان وزيرًا لعدة حقائب بين عامي 1951-1969 في عهد الملكية الليبية، ويصنف كأحد مؤسسي ليبيا الحديثة،
لكن السراج الابن انشغل بعمله كمهندس لحساب وزارة الإسكان وشركات خاصة طوال حقبة القذافي، قبل دخول الصراع السياسي في الخمسينات من عمره.
ولأنه وصل منصبه كـ "حالة توافق"، لم يحصل على شيك بلا شروط. في 17 ديسمبر 2015، وقعت أطراف الصراع الليبي على وثيقة الاتفاق السياسي في مدينة الصخيرات المغربية.
نصوص الاتفاق منحت السراج صلاحيات واسعة، لكنها قيدتها بسلطة تشريعية حصرية لمجلس النواب، شاملة منح حكومته الثقة أو حجبها عنه، خلال الفترة الانتقالية ولحين انعقاد الجلسة الأولى للسلطة التشريعية الجديدة.
الشروط تضمنت احتكار الدولة للحق الحصري في الاستخدام المشروع للقوة، واحتكار الدولة لمؤسستي الجيش والأمن، وحظر إنشاء تشكيلات عسكرية أو شبه عسكرية خارج شرعية الدولة، وملاحقة مرتكبي جرائم القتل والتعذيب، ومحاربة التجار بالبشر والهجرة غير الشرعية.
وحدد الاتفاق ولاية حكومة الوفاق بعام واحد "من تاريخ نيلها ثقة مجلس النواب".
دخول طرابلس لم يكن يسيرًا على السراج. وصلها في مارس 2016 على متن سفينة عسكرية مجهولة (ترجح تقارير أن تكون إيطالية)، واستلم السلطة من المؤتمر الوطني العام (المنحل بقرار قضائي) في 5 أبريل 2016، لكن انقلابًا بدأ في 14 أكتوبر، حين حول الحرس الرئاسي ولاءه للمؤتمر الوطني العام، وأعلن عودة حكومة خليفة الغويل.
منذ ذلك الحين، اندلع قتال منتظم داخل طرابلس استمر حتى 16 مارس 2017، عندما استولت ميليشيات متحالفة مع السراج على مجمع فنادق تحتله ميليشيات الغويل، ليستتب له أمر العاصمة.
بدخول طرابلس، اعتمد السراج على ميليشيات مسلحة في حماية العاصمة وضبط الأمن فيها، لتقوم عمليًا بمهام وزارتي الداخلية والدفاع.
تلك الميليشيات باتت تمثل القوة العسكرية المساندة للسراج في مناطق نفوذه في غرب ليبيا.
حكومة السراج حاولت تشكيل نواة لقوة نظامية بتأسيس القوة المشتركة لفض النزاع وبسط الأمن من تلك الميليشيات. أصدرت أوامر بحل بعضها، لكن الميليشيات رفضت تنفيذ الأوامر.
بقاء الميليشيات "التي تواجه معظمها اتهامات بالإتجار بالبشر وارتكاب جرائم، وبعضها مهتم بالإرهاب" وضع السراج في موقف حرج؛ بالنظر لنصوص اتفاق الصخيرات.
هنا، باتت طرابلس هدفًا للجيش الوطني الليبي، بزعامة خليفة حفتر، المعتمد على شرعية مصدرها مجلس النواب، بهدف "تحريرها من العناصر الإرهابية" التي باتت السراج رهينة لديها.
لا تركيا ولا قطر كانتا ترحبان بحكومة السراج منذ اليوم الأول. الدولتان كانتا داعمتين بشكل مباشر لميليشيات فجر ليبيا، الداعمة لحكومة خليفة الغويل.
فتحتا أبوابهما للإسلاميين الفارين من ليبيا، واحتفظت تركيا بتمثليها الدبلوماسي في مناطق خاضعة لسيطرة حكومة الإسلاميين، التي لم يعترف بها أحد سوى أنقرة وحلفائها.
لجنة الخبراء الأممية أكدت تورط شركات تركية في تسليم أسلحة إلى المسلحين الإسلاميين، بينما حافظت قطر على روابط مع سياسي ليبي وجهادي سابق - عبد الحكيم بلحاج - منذ 2011.
لكن مع خروج حكومة الإسلاميين "الإنقاذ الوطني" من المشهد، واستقرار طرابلس للسراج، نقلتا الدعم إليه، الأمر الذي تكلل رسميًا باتصال هاتفي بين إردوغان والسراج في أبريل 2019، أعلنا خلاله تفعيل الاتفاقات الأمنية، وحشد موارد تركيا لدعم حكومته.
توسعت المساعدات التركية العسكرية المباشرة، وبدأ توافد العسكريين الأتراك بشكل غير رسمي، وفق مراقبين، حتى وقع السراج وإردوغان، بنهاية نوفمبر 2019، اتفاقيات لترسيم الحدود البحرية، ونشر العسكريين الأتراك رسميًا، إلى جانب مقاتلين من "العناصر المحلية الداعمة" في سوريا؛ لتأمين حكومته أمام زحف الجيش الوطني.
استعدى مجلس النواب أولًا بتشكيل حكومة دون الحصول على ثقته (أحد شروط منحه الشرعية وفق اتفاق الصخيرات)؛ اعتمادًا على دعم سياسي وعسكري تلقاه بفضل نوابه (سنشرح لاحقًا)، وعلى دعم فرنسا والولايات المتحدة وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا.
هنا، فقد السراج السلطة فعليًا على معظم أنحاء ليبيا، التي يسيطر عليها الجيش الوطني الليبي المدعوم من مجلس النواب (الجهة التشريعية الشرعية الوحيدة وفق اتفاق الصخيرات).
صراع الشرعيات في ليبيا.. من سقوط القذافي إلى معركة طرابلس | دقائق.نت
المجلس الرئاسي يتكون من تسعة أعضاء. قاطع اثنان منهم اجتماعاته مبكرًا، بينما أصبح الآخرون غير نشطين بمرور الوقت، ليقتصر الأعضاء المؤثرين على السراج ونائبه أحمد معيتيق.
ولأن السراج لا يتمتع بقوة تدعم شخصه، اعتمد على بعض أعضاء مجلسه الآخرين ذوي العلاقات الوثيقة مع أصحاب المصلحة الأقوياء.
نائبه، معيتيق، الذي كان رئيسًا سابقًا للحكومة، ضمن له دعم مصراتة القوي سياسيًا وعسكريًا، كما احتفظ له عبد السلام كاجمان بدعم الإخوان، حتى استقالته من حزب العدالة والبناء الموالي للجماعة، بينما توالت انسحابات بقية الأعضاء؛ علي فرج القطراني، قاطع المجلس مبكرًا، مبديًا دعمه لحفتر، وكذلك عمر أحمد الأسود، الذي ينتمي إلى بلدة الزنتان في غرب ليبيا، وممثل جنوب ليبيا موسى القوني.
السراج وأخواه.. هذا ما تبقى من حطام المجلس الرئاسي الليبي
لأنه بلا قوة عسكرية تسانده، اعتمد السراج فورًا على دعم ميليشيات مسلحة، غالبيتها من المتطرفين الإسلاميين، ليفقد ثقة الجيش الوطني الليبي مبدئيًا، وقوى إقليمية ودولية أخرى (سنبينها لاحقًا).
بخلاف ذلك، فقد السراج دعم مؤسستين تلعبان دورًا رئيسيًا في السياسة الليبية: البنك المركزي، الذي تعهد بالولاء للمجلس الرئاسي، لكن العلاقات بينهما لم تكن مريحة مطلقًا، وشركة النفط الوطنية الموالية له رسميًا، لكنها تتمتع بعلاقات عمل جيدة نسبيًا مع حفتر بعد استيلائه على موانئ النفط في الشرق.
مصر – أهم دول جوار ليبيا – بالنظر لامتداد الحدود – أبدت دعمها لعملية الصخيرات، لكن اعتماد السراج على الميليشيات، التي يسيطر متطرفون إسلاميون على أغلبها، وضع القاهرة في خندق مشترك مع حفتر في مشروع واحد: تحجيم انتشار المتطرفين المسلحين في ليبيا؛ لخلق منطقة عازلة تؤمن حدود مصر الغربية من داعش وأخواتها.
تحالف السراج مع تركيا زاد المسافة بينه وبين القاهرة؛ ليس فقط بسبب مشروع إردوغان السياسي المناقض للمشروع المصري، بل لمحاولة الإرباك التي يحملها لمشروع غاز شرق المتوسط الاقتصادي الذي تعول عليه القاهرة كثيرًا في تحويل مصر إلى مركز إقليمي للطاقة.
مذكرة تفاهم السراج – إردوغان: هل هي ضربة سياسية لمصر؟ | س/ج في دقائق
س/ج في دقائق: من هو هشام عشماوي.. من الصاعقة إلى درنة إلى حبل المشنقة؟
الإمارات والسعودية شاركتا مصر موقفها من الصراع الليبي؛ دعمتا العملية السياسية التي رعتها الأمم المتحدة، لكن نموذج الإسلام السياسي الذي يمارسه الإخوان وتدعمه قطر وتركيا، ووضع السراج لنفسه في نفس الخندق مع الإسلاميين المتطرفين والفصائل السياسية المرتبطة بالإخوان، والتي تنظر لها الدولتان كتهديد إقليمي، أمال الكفة لصالح حفتر، الذي قدم نفسه كخط الدفاع الوحيد في ليبيا ضد الإسلاميين المتهمين ببث الفوضى الإقليمية.
الوضع في تونس معاكس. حركة النهضة الإخوانية تملك الأغلبية البرلمانية النسبية، والرئيس الجديد قيس سعيد ليس بعيدًا عن الإسلاميين بالدرجة. إردوغان كان أول رئيس يزور تونس في “زيارة مفاجئة” بعد انتخاب قيس سعيد، تحدث الرئيس التونسي عن تنسيقات أمنية بين الطرفين، لكن الانتقادات الداخلية والخارجية دفعته للتراجع، ليقول إنه على الحياد.
قيس ابن عمي .. عندنا؟ عندهم؟ على الحياد؟.. تونس فوق صفيح ليبيا الساخن| محمد زكي الشيمي
انخرطت باريس بهدوء منذ 2015 على الأقل في دعم الجنرال خليفة حفتر في بنغازي كرجل قوي تأمل أن يفرض النظام، يؤمن إنتاج النفط، ويتخذ إجراءات صارمة ضد الجماعات الإسلامية التي ازدهرت في المناطق غير الخاضعة للحكومة “الفاشلة” بوصف بوليتيكو.
بتوقيع اتفاقية الصخيرات، دعمت فرنسا عملية السلام التي تتوسط فيها الأمم المتحدة، لكنها ميدانيا تدعم تقديم السلاح والتدريب والمعلومات الاستخبارية لحفتر.
تشير بوليتيكو إلى المساعدة حتى بالقوات الخاصة، مستدلة بمقتل ثلاثة جنود فرنسيين سريين في حادث طائرة هليكوبتر في ليبيا في 2016.
بوصول ماكرون للإليزيه، دعا حفتر والسراج في 2017 إلى باريس أملًا في التوسط نحو اتفاق لتقاسم السلطة.
لكن وزير الخارجية جان إيف لو دريان هندس استراتيجية “عودة حفتر”، بعدما أقنع الرئيس بأن الاعتماد عليه بدأت تؤتي ثمارها.
مسؤول رفيع المستوى قال إن دعم حفتر مدفوع جزئيًا بضرورة وقف إمدادات الأسلحة والجماعات الجهادية التي تهدد الحكومات الهشة في النيجر وتشاد ومالي، والتي تدعمها فرنسا، بخلاف تركيز باريس على تحالفات الشرق الأوسط الأوسع، التي تتقارب فيها مع مصر والإمارات والسعودية ضد تحالف تركيا وقطر والإخوان؛ خصوصًا مع حرب فرنسا ضد التمرد الإسلامي في حزام الصحراء والساحل والإرهاب في الداخل، وهما الأولوية الأولى للأمن القومي، خصوصًا منذ هجمات باريس 2015.
أصرت إيطاليا طويلًا على أنها أكثر قدرة من فرنسا على فهم الديناميات الاجتماعية المعقدة في ليبيا، وعلى أن حفتر لن يكون قادرًا على ضمان ولاء قبائل التوبو والطوارق التي تهيمن على جنوب ليبيا، أو الفصائل المحلية المتعددة في شمال غرب البلاد.
تمسكت بدعم السراج لفترة طويلة، لكنها غيرت موقفها فجأة إلى الحياد على الأقل.
بدعم السراج رسميًا، حاولت إيطاليا حماية مصالحها فيما يتعلق بالأمن والاقتصاد والطاقة في ليبيا، وموقع نفوذها القديم في مستعمرتها السابقة.
لكن فشل السراج في تأمين أي من المصالح، والتدخل العسكري متعدد الأطراف في ليبيا، أشعر روما بأن مصالحها باتت مهددة بشكل حقيقي، ففضلت الانتقال إلى مربع الحياد لحين استكشاف الأقدر على حسم الصراع لصالحه.
انضمت إيطاليا إلى الأوروبيين الآخرين في الدعوة للحوار ووقف إطلاق النار دون شروط مسبقة، واكتفت بالصمت بعد قصف حفتر لمصراتة – حيث تدير إيطاليا مستشفى عسكري – في يوليو 2019.
وفي بيان بعد الهجوم، قالت روما إنها لا تدعم حفتر ولا السراج، لكنها تدعم الشعب الليبي.
وقدم السراج سلسلة من الطلبات للحصول على دعم أكبر من إيطاليا، دون جدوى.
وفي 7 يناير، حاول رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي الدفع باتجاه اجتماع مفاجئ في روما بين طرفي الصراع، لكن السراج ألغى رحلته بسبب استقبال روما لحفتر.
أوروبا كانت بطيئة للغاية في ليبيا. صحيح أنها دعمت السراج رسميًا، لكنه وضع التكتل في وضع حرج حين انحاز لإردوغان، لتضغط اليونان وقبرص على التكتل لحفظ حقوقهما في غاز شرق البحر المتوسط. اليونان ردت باستقبال حفتر في أثينا، مع وعد بدعمه عسكريًا إن لزم الأمر.
ليبيا وأخواتها.. هل أظهرت عجز الاتحاد الأوروبي أم قوته؟ وهل يمكن التعويل عليه؟ | س/ج في دقائق
ميليشيات طرابلس تتاجر في البشر بأموال أوروبا.. وتونس تغسل الأموال | الحكاية في دقائق
احتفظت واشنطن بالحيادة لفترة، لكنها دعمت حفتر في أبريل 2019، بعد مكالمة هاتفية بين الرئيس دونالد ترامب والقائد الليبي، الذي عاش في المنفى في الولايات المتحدة لسنوات عديدة.
ناقش الرجلان “رؤيتهم المشتركة لليبيا” خلال المحادثة، وفق بيان البيت الأبيض. واعترفت واشنطن بـ “دور المشير حفتر المهم في مكافحة الإرهاب وتأمين موارد ليبيا النفطية”.
في أوائل يوليو، اتضح الدعم الدبلوماسي الأمريكي الكامل، بعدما صوتت لمنع مجلس الأمن من إدانة غارة جوية ألقى السراج اللوم فيها على قوات حفتر.
دخول أمريكا على خط غاز المتوسط: هل ينهي مشروع إردوغان وعناصره المحلية؟ | محمد زكي الشيمي
تدرب حفتر عسكريًا في الاتحاد السوفيتي السابق. زار موسكو في عدة مناسبات على مر السنين.
كغالبية الدول، دعمت روسيا حكومة السراج، لكن دعم حفتر رمزيًا ظهر خلال زيارته إلى روسيا في يناير 2017، قبل أن تمنع قرارًا أمميًا في 7 أبريل يأمر حفتر بوقف تقدمه إلى طرابلس.
لاحقًا، توالت التقارير حول تقديم روسيا دعمًا عسكريًا مباشرًا لحفتر عبر مسلحي واجنر، لمواجهة الدعم العسكري الروسي للسراج.
هل ترث روسيا حلف الناتو في ليبيا؟ وأين مصر من الواجهة الدبلوماسية للأزمة؟ | س/ج في دقائق
بعد سوريا.. بوتين روسيا يلاحق إردوغان في ليبيا | س/ج في دقائق
للصين مصالح في ضمان سيطرة حكومة السراج على طرابلس. في مايو 2018، وقعت عقدًا ضخمًا لمساعدة ليبيا على زيادة إنتاجها من النفط، ممهدة الطريق لقرار السراج بالانضمام إلى مبادرة الحزام والطريق في يوليو 2018، والذي وسع نطاق الاتصالات مع بكين، التي أثنت على “جهود حكومته لتحسين الوضع الأمني في طرابلس”، وكشفت خططًا لتوسيع وجودها الاقتصادي في ليبيا سريعًا.
مع ذلك، فضلت الصين شغل مقعد خلفي، ولم تقدم دعمًا ملموسًا لحكومة السراج، حيث رفضت طلبه بالحصول على دعم بكين لرفع الحظر الدولي على تصدير الأسلحة إلى ليبيا، وكذلك طلبه المساعدة في فك تجميد الأصول المالية.
الصين لا روسيا.. صراع وراثة أمريكا في الشرق الأوسط | س/ج في دقائق
إردوغان والسراج.. قشة اليائس | خالد البري
تحركات تركيا والإخوان في البحر المتوسط.. كيف تؤثر اقتصاديًا على المواطن المصري؟ س/ج في دقائق
من الدفاع عن القذافي لتسليح ميليشيات طرابلس.. كيف تورط أردوغان في ليبيا؟ | س/ج في دقائق
منتدى غاز شرق المتوسط.. خبر صغير في الجرائد وتطور كبير في السياسة | س/ج في دقائق
لعبة القيصر والسلطان.. نزاع “النسر والهلال” الممتد بين روسيا وتركيا | الحكاية في دقائق