مكر، يمكر، ماكرون. كيف خدع رئيس فرنسا الجمهور وألبسه البرنيطة | رواية صحفية في دقائق

مكر، يمكر، ماكرون. كيف خدع رئيس فرنسا الجمهور وألبسه البرنيطة | رواية صحفية في دقائق

20 Dec 2018
خالد البري رئيس تحرير دقائق نت
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

١

 إيمانويل ماكرون

بدأت الإيكونوميست تقريرًا لها عن أحداث فرنسا بجملة استفهامية تعجبية: أي نوع من القادة الذي ينحني أمام جمهور الشارع!

الإجابة على سخريتها صحيحة إحصائيًا، والسبب فيها واضح؛ أن فرنسا، على خلاف الديمقراطيات الكبرى، مثل بريطانيا وألمانيا وأمريكا، ينتخب فيها الرئيس انتخابًا شعبيًا مباشرًا، بالأغلبية المطلقة. في تطور عن الديمقراطية التمثيلية التي كان ينتخب بها سابقًا، والتي لا يزال معمولًا بها بأشكال مختلفة في الديمقراطيات الكبرى المشار إليها، سواء كان الاسم رئيسة وزراء أو مستشارة أو رئيس.

هذا يعني أنه بدلًا من ربط الانتخاب بالثقل الاقتصادي للدائرة، أو بمن تنتخب نيابيًا، فإن كل صوت في فرنسا له نفس النصيب في تحديد شخص الرئيس، تماشيًا مع المنحى الديمقراطي الاجتماعي الذي تتبناه الدولة.

فرنسا الكاثوليكية شبه جزيرة في جوار لوثري وبروتستانتي، قاومت تمدده إلى أرضها بالحديد والنار والمذابح، لتظل الذراع الضاربة للاتينية الكاثوليكية. صحيح أنها تعلمنت بمسلك عنيف وصارم ضد رجال الدين الروم الكاثوليك، لكن تبقى القيم المجتمعية أقوى من المسمى.

في عز الحرب الأيديولوجية خلال القرن التاسع عشر، الدول البروتستانتية كإنجلترا وأمريكا كانت دولًا رأسمالية، تقدس الحس الفردي، والاجتهاد، وتصر على فردية الجائزة والمسؤولية. بمعنى أن الحرية الاقتصادية للأفراد هي المنبع، لا تستطيع الجماعة أن تنزعها منهم. وهذه الحرية الاقتصادية هي التي تؤدي إلى الرخاء وتؤدي إلى الرفاهية. من القاعدة إلى القمة.

سميت هذه القيم: “الليبرالية الكلاسيكية”.

أما الدول الكاثوليكية فقامت بدور آباء كنيسة روما الذين أسقطتهم، الراعي الـ Patron، الذي يحدد الأولويات والمعايير، ويعبر عن “مصالح الجماهير”. باسم هذه الجماهير قطعت المقاصل رؤوس النظام القديم، وآخرين. الحرية السياسية تأتي قبل الحرية الاقتصادية، كما كان الإيمان الكاثوليكي قبل العمل. ورفاهية الدولة الراعية هي التي تؤدي إلى رفاهية الأفراد. من القمة إلى القاع.

سميت هذه الحزمة من القيم “الديمقراطية الاجتماعية”، وهي منصوص عليها في الدستور الفرنسي، كتعريف للدولة.

في بدايات القرن العشرين، ولا سيما بعد الحرب العالمية الأولى، وفي أمريكا بعد الكساد الكبير، سطت هذه القيم على لفظ “الليبرالية”، فصارت تسمي نفسها به. وزاد اللبس مع تحول جزء كبير من التنظير الاقتصادي البريطاني، التي كانت قلعة الرأسمالية، نحو مفاهيم قريبة من هذا، تعظم دور الدولة في دفع النشاط الاقتصادي.

هذه مجرد إشارة. لا تشغلوا أنفسكم بتفنيدها، فهناك عوامل أخرى جغرافية وطبيعية. لكنها جميعًا ليست موضوعنا في التقصي. ما يهمنا أن هذا الحس الاجتماعي، المنعكس في نظام الانتخاب المحدث في الستينيات، جعل الرئيس الفرنسي ملزمًا بالنزول على رأي الجماهير. بالسلطة العددية المطلقة.

وهو يعني أن مصير الرؤساء الفرنسيين صار “معروف الدية” في العالم كله. “المنتقدون يقولون”، حسب الصنداي تايمز، إن تراجع ماكرون مجرد تكرار للتقليد قليل القيمة للرؤساء السابقين الذين يبدؤون عهدهم بأفكار جريئة لتغيير بلدهم.

الصنداي تايمز أشارت هنا إلى مشكلة تتعدى الرؤساء في الحقيقة. هذه مشكلة نظام سياسي، ليس طويل العمر كما يعتقد أمثالنا ممن ولدوا وهو موجود في العالم، بل هو في الحقيقة نظام حديث جدًا، لا ندري هل كان سيستمر لو لم ينبن على الثروة التي بنيت في سابقه أم لا.

الثروة انبنت في سابقه بالليبرالية الكلاسيكية والثورة الصناعية، وفي أوروبا نستطيع أن نضيف إلى ذلك الاستعمار الذي كان قائما على نظام تفضيلي لمجموعة بعينها، منهم “شعب الحرية والإخاء والمساواة نفسه”. طوال تلك الحقبة لم تكن فكرة الصوت الواحد للفرد الواحد، بالتساوي، فكرة موجودة. لم يبدأ تصويت النساء في بريطانيا حتى انتهاء الحرب العالمية، وبشروط معينة. الرجال أيضًا كان التصويت بالنسبة لهم مرتبطًا بالملكية. ربما ملكية صغيرة. لكنها كانت شرطا لـ “المسؤولية” وضمان أن يكون الفرد متأثرا بقراره السياسي الاقتصادي.

في فرنسا بدأ تصويت النساء سنة ١٩٤٥.

يمكن لشخص في وقتنا المعاصر أن يرفض هذا مباشرة، معتقدًا أنه غير مطالب بتقديم حيثيات رفضه. الأمر بالنسبة له واضح و”طبيعي”.

لكنه – حتى وقت حديث جدًا – لم يكن كذلك. وحتى الآن في معظم الديمقراطيات هناك تحايل على موضوع الديمقراطية الشعبية المباشرة لتقليل آثاره السلبية على الاقتصاد.

ربما لو سألنا أحد عقول ذلك الزمن: كيف هذا؟!

لرد علينا ببساطة: بل أنتم كيف هذا؟!

مشكلة الديمقراطية الشعبية مع الاقتصاد بسيطة وعميقة. أن المصوتين حين يصوتون على قرار اقتصادي لا يصوتون على تبعاته، إن كانت فيه مظنة “النفع قصير الأمد”. وأن الرئيس الذي يتخذ قرارًا اقتصاديًا، غالبًا ما يرحل عن الكرسي قبل أن تظهر تبعاته على الأرض.

بالعكس، لو كان محظوظًا بالمجيء في أعقاب فترة من التطور الاقتصادي، يمكنه أن يستخدم هذا الإرث في “نغنغة” بعض المواطنين هنا وهناك. ثم يرحل، مصحوبًا بالحب والورود، ولا يظهر أثره الكارثي إلا في عصر من يأتي بعده، فتحل عليهم اللعنات.

هذه مجرد صورة مبسطة لكنها على مستوى الدول تحدث بدرجات مختلفة. إحدى أكثر الاتهامات التي تثير حنق الجماهير ضد ماكرون أنه “رئيس الأغنياء”. فهل هذه فعلًا المشكلة؟

 

٢

الطبقة الوسطى

في مدينة أَمْيَا Amiens نشأ إيمانويل ماكرون، ودخل المدرسة، وتعرف وهو طالب بالمدرسة على السيدة الأولى، مدرسته بريجيت، وأحبها، ثم تزوجها. لو حاولت أن تبحث عن متعاطفين معه فالفرصة هناك أكبر. وهكذا فعلت الصنداي تايمز في إطار تحقيقاتها عن الاحتجاجات في فرنسا، حيث التقت برفيق سابق تعرف إليه لوقت قليل أثناء زياراته للمدينة. قال للصحيفة إن ماكرون محق حين يطلب من الناس أن يتخلوا عن الوقود القديم ويستخدموا الحديث، وأن يقودوا سيارات جديدة، وأن يهتموا بالطاقة النظيفة. لكن هذا الرأي لا يمكن ترويجه وسط أناس

فلماذا اختار ماكرون أن يفعل ذلك؟

هذا السؤال يحتاج إلى طبيب نفسي ليجيب عليه. التعبير السابق ليس لي بل لصيحفة وول ستريت جورنال، وإن كانت هناك مؤشرات يمكن أن تساعدنا “نفسيًا”. البعد النفسي لن يغيب عن هذه الرواية الصحفية المعنية بالاقتصاد والسياسة.

“الحفاظ على البيئة” شعار حلو، لكن تحقيقه يحتاج تمويلًا. من أين تأتي بالأموال؟ كانت لدى ماكرون إجابة، ولدى “الجماهير” إجابة.

ماكرون يحملها للمواطنين في صورة ضريبة جديدة على الوقود. ستستهدف ملاك السيارات، وهي شريحة ممتدة من الطبقة الوسطى إلى الطبقة العاملة في الحضر والريف.

لذلك بدأت المظاهرات في ما يعرف ب “قُطر الفراغ”، وهو شريط مائل يمتد من شمال شرق فرنسا إلى جنوبها الغربي، حيث الطبقة الوسطى المسحوقة، التي تعيش على الأطراف، وتستخدم السيارات في التنقل لكي تصل إلى أعمالها أو بالقرب منها.

المتظاهرون، وقد توسعت قاعدتهم، إجابتهم مختلفة تمامًا عن إجابة ماكرون. نفقة هذه السياسة يجب أن تحصل من الأغنياء. ماكرون ألغى ضريبة الإرث، وخفض ضريبة الشركات، فليتراجع عن هذا.

يبدو الأمر ظاهريًا وكأنهم يقدمون الحل المنطقي.

لكن الحقيقة أن إجابتهم هم أيضًا مخطئة. قبل أي جدل نظري، لقد فعلها أولاند من قبله ولم تأت بنتيجة. ماكرون يعرف ذلك جيدًا؛ لأنه كان وزيرًا في ظل أولاند.

فاحشو الثراء طبقة قليلة جدًا في أي مجتمع. لكي تستهدفها بالزيادات الضريبية، بحيث يكون هذا الأثر محسوسًا، تحتاج إلى نسبة كبيرة من الزيادة. هذا حسابيًا.

إنما اقتصاديًا النتيجة أسوأ. ستفاجأ بأن الضرائب حين تزيد عن نسبة معينة تقل حصيلتها. جون-فيليب ديلسول، محامٍ فرنسي يعمل في مجال الضرائب، بسط المعادلة التي يعرفها الاقتصاديون منذ نشأة الحرفة:

“كلما ارتفعت الضرائب أكتر من حد معين (عتبة معينة) فحصيلتها في الحقيقة تنخفض. كلما زدت الضرائب على الأغنياء كلما حصلت أقل؛ لأن الأغنياء يتكيفون مع الوضع الجديد، يغادرون البلد، يحولون أموالهم إلى ممتلكات، يتخلصون منها بالبيع، يعملون أقل، ينقلون استثماراتهم.

ديلسول أخبر صحيفة الجارديان البريطانية في يوليو ٢٠١٢، بعد قرارات فرانسوا أولاند برفع الضرائب، أن ١٠ من أثرياء فرنسا زاروه خلال الشهرين الأخيرين لتجهيز أنفسهم للرحيل، وذلك بالمقارنة باثنين فقط طوال الـ ١٢ شهرًا الذي سبقهما، وأن رجال الأعمال الشباب يتجهون إلى لندن.

فرنسا المتقلبة ترحب بالاستثمار، يأتي الاستثمار، يصطدم بالاحتجاجات النقابية، يغادر، تسوء الحالة الاقتصادية، تشتعل الاحتجاجات المعيشية، تتغير النخبة، ترحب بالاستثمار، يأتي الاستثمار، يلعنون الاستثمار. وهكذا.

السمعة المنتشرة عن فرنسا عالميًا أنها بلد محبة لمنتجات الثروة، من ملابس سينييه وطعام فاخر ونبيذ خاص، لكنها كارهة للأثرياء. بلد مستسلمة لشعور الحسد، لم تتجاوز بعد نفسية التهليل لوضع الأرستقراطية تحت نصل المقصلة. ولكن بطريقة أكثر عصرية.

ماكرون بنى رئاسته على تغيير هذه الفكرة. أن فرنسا بلد “صديقة للأثرياء” وليست كارهة لهم.

ليس لأنه “رئيس الأغنياء”، بل لأسباب براجماتية. يعرف هذا المصرفي السابق، الوزير في الحكومة الاشتراكية السابقة، أن الأحوال الاقتصادية لن تتحسن في بلد طاردة للمستثمرين.

إنما هناك شيء عجيب في هذا الجدل. لم يقل أحد من طرفيه: “ليس لدينا أموال لتمويل هذه السياسة البيئية الآن، فلنؤجلها”.

تعاملوا معها كأحكام الدين، في العسر واليسر، والمنشط والمكره. مكلف أنت بها ولو لا تملك وسعها. بل إنك، حين لا تملك وسعها، تتباهى بها أكثر من غيرها. كمريض يصوم، أو كسيح يصر على الصلاة في المسجد.

فرنسا نفذت بالفعل أكثر من غيرها من الدول الأوروبية في مجال البيئة، وكان يمكن سياسيًا أن تعلن أنها ستنتظر حتى يحذو الآخرون حذوها.

التوقيت الذي اختاره ماكرون لفرض الزيادة الضريبية قبيل ذهابه إلى “قمة العشرين” لم ينل حقه من “التفهم النفسي” السياسي. هذا شخص صعد إلى الحكم وأوباما يختفي من الصورة ويحل محله دونالد ترامب. ثم حاملة راية النظام الليبرالي العالمي تجبر على الإعلان عن تخليها عن زعامة حزبها، وبريطانيا على وشك الاحتفال بآخر “عيد ميلاد مجيد” في ظل الاتحاد الأوروبي، قبل أن يبدأ ربيع البريكزيت في مارس، موسم بداية السنة الطبيعية في حضارات ما قبل الدين العالمي الأول – المسيحية.

أراد ماكرون أن يصعد الساري وينادي الجماهير التي لا تنام الليل قلقًا على مستقبل الأرض: أن هلموا إلي. إن كان أوباما غاب، وميركل غابت، وبريطانيا هربت مع ترامب، واتفاق باريس في خطر، فإن النظام الليبرالي العالمي باقٍ، لن يغيب.

آخ!! يبدو أنه ارتاح على عمود الساري أكثر مما يجب.

وفي ألمه تعلم درسًا آخر عن “الجماهير”.

٣

الجماهير

قبل سنوات عاصرت حملة في بريطانيا للتخلص من شنط التسوق البلاستيكية، على أساس أن البلاستيك مضر بالبيئة. ما من أحد يرى الحملة ضد البلاستيك إلا ويتعاطف معها. البيئة يا جماعة. هو فيه أغلى من البيئة!! وأمنا الأرض.

الحملة الوعظية نصحت الناس بالإقلال من شراء الشنط. وكانت حملة إعلامية ناجحة. وبدأ الباعة يسألونك: هل تريد الشنطة البلاستيكية؟ لكي يوقفوا العادة ويشجعوك على التفكر في الأمر.

لكن الواقع أن هذا لم يغير شيئًا، رغم كل التحذيرات من الشنط البلاستيكية حولنا. ففي ذهن كل فرد من الجمهور أن جهة ما ستتحمل عبء تخليص أمنا الأرض من هذا البلاستيك الواقف في حلقها. أما الشنطة المجانية التي ناخذها من السوبر ماركت فأقل واجب من هذا الرأسمالي الجشع مقابل شرائنا للبضاعة من عنده.

متى آتت الحملة ثمارها، وتحول حب الأرض إلى أفعال؟

حين بدأت المتاجر تبيع الشنط البلاستيكية بمقابل مادي. عندها فقط صار القرار فرديًا.

الجمهور قال للسيد ماكرون: تريد تضبيط البيئة؟! أستاذ وكفاءة. تريد منا أن ندفع الأموال لتضبيطها؟ لا. فلتذهب إلى الأغنياء. خذ التكلفة من الشركات التي تجمع أموالًا على قلبها قد كذا.

تعالوا نتخيل أن هذا حدث. ما معناه اقتصاديًا؟

أولًا: سترتفع تكاليف الإنتاج. فإما أن يعكس أصحاب الشركات هذا في أسعار المنتجات، لكي يحافظوا على مستوى الأرباح فيدفعها الجمهور أيضًا ولكن في صورة مختلفة. أو أن يرضى أصحاب الشركات بأرباح أقل، وهذا ينعكس على حسابهم لمدى تنافسية السوق الفرنسي.

ثانيًا: أن فرنسا، كبلد، عادت إلى عادتها القديمة. تعالى يا بزنس. لا أنت سيئ يا بزنس.

رد فعل ماكرون، بعد فترة طويلة من الصمت، أظهر أنه تعلم الدرس من الجمهور. ليس الدرس الذي يروج له فيتيش “تقبيل أقدام الجمهور” المنتشر في العالم. بل درس “كيف تخدع الجمهور”؟

أولًا: هل تغضبون من رفع سعر الوقود؟ نلغيه.

ثانيًا: هل تريدون زيادة الحد الأدنى؟ نزوده.

ولكن، على حساب الدولة الفرنسية. أي على حساب حضراتكم. كل الموضوع أنني بدلًا من توجيه الزيادة إلى هذا المواطن الذي يستخدم “الشنطة البلاستيك” بالتحديد، سأوزع الثمن على جميع المواطنين.

وتريدون أن ترضوا فئة “من لديهم وظيفة متدنية الأجر” برفع رواتبهم؟ تمام. أيضًا على حسابكم جميعًا.

هذه الإجراءات أضافت إلى إنفاق الدولة ١٠ مليارات يورو، سترفع العجز إلى ٣.٤٪، أي فوق القواعد التي شاركت فرنسا في وضعها لدول الاتحاد الاوروبي.

لو كان القرار أن تدفعها الشركات، فبالإضافة إلى ما تقدم من أثر سيئ على فرص الاستثمار، فإن هناك نتيجة أخرى لا تلفت أنظارنا. زيادة تكلفة بند الأجور، في أي شركة، معناها تقليل فرصة تعيين آخرين. أي أن المكسب الذي تحصل عليه فئة “الحاصلين بالفعل على وظيفة” يضر فئة “الباحثين عن وظيفة”.

سلعة العمال ستصير أغلى تكلفة، وسيقل الطلب عليها. والعاطلون في النظام الديمقراطي الاجتماعي يحصلون على إعانات من ميزانية الدولة. أي يدفعها الجمهور أيضًا.

تحميل الدولة التكلفة، على كل عيوبه، كان أقل ضررًا من أن يحمل ماكرون هذه النفقات الاسترضائية للمستثمرين، فتنخفض أرباحهم، وتنخفض قدرتهم على التوسع وخلق فرص عمل. والأهم. تنخفض ثقتهم في الاستثمار في فرنسا أكثر. ويدفع الجمهور الثمن أيضًا بسبب تناقص النشاط الاقتصادي.

وشربها الجمهور.

انتبهنا إلى ما أعلنه ماكرون. قرأنا ما أملى. لكننا لم نقرأ ما بين السطور. أكثر من ذلك. لم نلتفت إلى 

لم يتراجع عن إلغاء ضريبة الإرث.

ولم يرفع الضرائب على الشركات، ولا حملها أيًا من الإجراءات.

نجحت خطة المكر التي مارسها ماكرون على الجمهور. وتراجعت المظاهرات قليلًا، لكن شيئًا ملفتا للنظر ظهر في شعاراتها. شيء يخصنا في موضوع هذا المقال.

كان شعار الجمهور الأكثر إصرارًا، الـ Die Hard، الذي ظهر بعد إجراءات ماكرون هو المطالبة بمزيد من تدخل الجمهور المباشر في السياسة. ليس فقط في انتخابات الرئيس، هذا حصل عليه الجمهور بالفعل في ١٩٦٢، بل في القرارات الاقتصادية، 

هل هذا هو التطور الطبيعي للديمقراطية الاجتماعية؟

بمعنى أدق: هل يمكن الجمع بين الديمقراطية الشعبية العددية وبين سوق حر جذابة للاستثمار ومشجعة عليه؟

هل تسير الليبرالية الأوروبية، الديمقراطية الاجتماعية، حتمًا نحو الاشتراكية؟

ربما تسير نحو الجنة النظرية التي تخيلها “الاشتراكي المثقف”. أن يكون له الحق في الحكم المباشر، بالغلبة العددية التي يمكن أن يحققها من خلال مهنه المفضلة المؤثرة في الجماهير، كالإعلام.

لكنها – اقتصاديًا – لن تتحرك من مكانها. كما حدث في بريطانيا في النصف الثاني من القرن الماضي حتى جاءت ثاتشر. وكما يحدث حاليًا بعد الارتداد إلى دولة“الرفاه”، الراعية. بل إن الجماهير مرة بعد مرة تطالب بأن “داوني بالتي كانت هي الداء”. مزيد من الضرائب، ولكن على المستثمرين المخاطرين بأموالهم إن ربحوا (لو خسروا مالناش دعوة بيهم).

لا يجيب الأوروبيون على السؤال البسيط: لماذا تراجعت بريطانيا التي كانت رأس حربة العالم في الابتكار والاختراع حتى منتصف القرن الماضي، بينما الولايات المتحدة تغرد وحدها في هذا المجال؟

المشكلة مشكلة نظام سياسي اقتصادي، إما قائم على الفرد ومشجع لابتكاره المستقبلي. أمريكا – وقاها شر الرؤساء الأكاديميين – هي الأقرب إلى هذا. وإما قائم على الكتلة العدية ورغباتها الحاضرة. وأوروبا تتجه أكثر فأكثر نحو هذا.

لكن الكتلة تتصدع. وما حدث في فرنسا، على حسب نتيجته، سينعكس على الاتحاد الأوروبي. فقد جاء في توقيت ولا أسوأ. كانت أعين دافع الضرائب الألماني تنظر بقلق إلى إيطاليا وإسبانيا خشية أن يدفع لهما من جيبه كما فعل مع اليونان. فإذا بفرنسا – أكثر من خمس اقتصاد منطقة اليورو – هي الأخرى تتجاوز العجز في الميزانية.

ربما لهذا كان إعلام “الليبراليين المزيفين” حائرا في تغطيته لأحداث فرنسا. يتابع الأحداث. لكنه لا يسأل الأسئلة الأساسية. الأسئلة التي تلقي ظلال الشك على مستقبل هذا النظام الذي تتزايد الأصوات المشككة فيه في أوروبا.

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك