من المجرم الحقيقي في إيران والشرق الأوسط؟| خالد البري| رواية صحفية في دقائق

من المجرم الحقيقي في إيران والشرق الأوسط؟| خالد البري| رواية صحفية في دقائق

17 Feb 2019
خالد البري رئيس تحرير دقائق نت
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

١

ذهب الشاه إلى إجازة، بناء على نصيحة من الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، وترك حكومته. كانت الأحوال مضطربة، لكن الحكومة لا تزال تسيطر على أجهزة الدولة ومؤسساتها. والجنرالات لا يزالون يدينون بالولاء للشاه، ومستعدين للتعامل مع الخطر المحمول جوا القادم إلى بلدهم، في طائرة من فرنسا.

أحاطت طائرات مقاتلة بالطائرة التي تحمل روح الله آية الله الخميني. لهج الملالي المرافقون له بالدعاء فرحا بالشهادة وأملا في الجنة. وأحاط باليساريين والليبراليين من مرافقيه صمت مطبق. لم يكونوا يأملون في أكثر من السلطة.

كل هؤلاء المسؤولين، وكثير من الرفقاء، لم يكونوا يعرفون أن الولايات المتحدة تراسلت سرًا مع الخميني، وأنه أعطاها ثلاثة تطمينات رئيسية:

[su_highlight background=”#00C5D6″ color=”#ffffff” class=””][/su_highlight] لا عداء مع الولايات المتحدة.

[su_highlight background=”#00C5D6″ color=”#ffffff” class=””][/su_highlight] لا تحالف مع الاتحاد السوفييتي، لأنهم ملاحدة وأنتم مسيحيون، فأنتم أقرب إلينا.

[su_highlight background=”#00C5D6″ color=”#ffffff” class=””][/su_highlight] لا تصدير للثورة، بل علاقات جيدة مع الجيران، مع عدم الاعتراف بإسرائيل.

تستطيع أن تراجع القصة بنفسك في هذه المقتطفات، ومنها وثيقة أفرجت عنها السلطات الأمريكية عن المراسلات.

الاتحاد السوفييتي والمصالح الامريكية.. وثائق كشفت عنها المخابرات الأمريكية قبل عامين ونشرها موقع بي بي سي فارسي

سفير أمريكا في إيران أخبر قيادته بأن الشاه لن يوافق على موضوع الإجازة إلا برسائل أمريكية. فأرسلت الولايات المتحدة رسالتين مذكورتين في كتاب End of Alliance

حادثة الطائرة كما ترويها الإيكونوميست

القوى الغربية تحدثت أيضًا إلى بعض المثقفين الإيرانيين، قبل عودة الخميني.

بعد سنوات سيقول هؤلاء المثقفون إنهم كانوا معذورين حين ظنوا، وأظنوا، أن الثورة وعودة الخميني ستكون مقدمة لحكم ديمقراطي عادل؛ فالخميني أكد لهم أنه يريد فقط العودة إلى قم. لا يريد حكم رجال دين في إيران، ولن يجبر الإيرانيين على شيء.

تبدو لك القصة مكررة. لولا أنني قرأتها في مطبوعة غربية، كانت متعاطفة مع “الربيع العربي”، لظننت أنها متأثرة بالأحداث، وتريد أن تجعلها “إيران يا مصر زينا، كان عندهم ما عندنا”.

بينما تقترب الطائرة من المطار، بعد أن أمنت أن الطائرات العسكرية لن تقصفها، حدث لغط آخر. لم يكن هذه المرة بسبب الخوف من الموت، بل اختلفوا على ذراع من يتكئ الإمام الخميني وهو ينزل سلم الطائرة. هل يتكئ على غيره من “رجال الدين”، أم يتكئ على واحد من السياسيين اليساريين.

لو كانت الأولى لأعطت الصورة للعالم بأن تلك ثورة دينية، وأن “رجالًا حول الخميني” يقودونها.

وإن كانت الثانية فسعيد الحظ بمرافقة الإمام ذي الشعبية الجارفة، والظهور إلى جواره وقد اختاره الإمام ليستند عليه، سينال نصيبا ضخما من ثقة “مقلديه”، صورة عصرية من صاحب الغدير، ولن يكون لحظوظه في السلطة بين نظرائه نظير.

هذه ليست ثورة إسلامية، عماد الثورة أكد لنا، ولا بد أن واحدًا من هؤلاء – اليساريين والليبراليين – سيكون هو القائد. ليس مجرد مشير، ولا مستشار، بل أمير.

هذه المشكلة الأولى حسمها الخميني بنفسه. الله عليك يا فخر الفرس.

٢

تتشابه إيران مع أي دولة أخرى في العالم، في زمن ما.

طبقة حاكمة وبطانة غنية، تمثل جزءًا ضئيلًا من الناحية العددية، طبقة وسطى تتزايد ببطء، ثم فقر بمستويات مختلفة في بقية الشعب.

هذه قصة روسيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر،

وقصة فرنسا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر،

وقصة إنجلترا وهولندا في النصف الأول منه.

بنفس الترتيب الزمني تقريبًا بدأت هذه البلاد في تغيير نشاطها الإنتاجي، من اقتصاد قديم يعتمد أساسًا على الزراعة الأفقية، حيث المساحة المزروعة ثابتة، والمحصول ثابت. وحيث زيادة ثروة طرف لا بد أن تسحب من ثروة طرف آخر، إلى اقتصاد معاصر، تتراكم فيه المنتجات والثروة تراكمًا رأسيًا، نوعيًا، اكتسب من ذلك اسمه الغربي Capitalism أي نمو رأس المال.

صار الاقتصاد المعاصر هو التجارة. نشاط قديم يعرفه الناس من آلاف السنين، لكنه اكتسب زخمًا وفرصًا مع التوسع في النقل البحري، ووصول الأوروبيين إلى الأمريكتين. ثم تحول إلى الثورة الصناعية.

في حالة أوروبا الغربية أدى هذا إلى توسع الطبقة الوسطى، ومهنها. لم يعد المخرج الوحيد أمام المزارع لكي يفر من ضيق العمل في الأرض الشاسعة، أن ينتقل إلى سعة غرف الدير الضيقة، أو أن يستبدل بضرب الفأس في الأرض تعلم ضربها في الرقاب. صارت هناك مهن أخرى يمكن أن تنقل المجتهد إلى الطبقة الوسطى. مهن بعضها فوق بعض، كلما برزت مهنة استدعت مهنًا أخرى. المغامر يركب البحر، فيشغل النجارين والحدادين وتجار البضائع التي يأتي بها. مستوعب العلوم يلتحق بالتعليم، مستغلًا انتشار الطباعة. الصناعة تتطلب عمالًا، ومحاسبين، وتجار جملة، وتجار تجزئة، ومهندسين، وبنائين.

ثورة فرانكنشتاين | خالد البري | رواية صحفية في دقائق

هذا التحول استغرق قرونًا، من أواخر الخامس عشر إلى أواخر التاسع عشر، في حالة إنجلترا/ بريطانيا. كانت هذه أمة رائدة. لم يكن لديها ابن خال يسبقها فتقول لها أمها “شوفي ابن خالك شاطر إزاي”. لم يكن عليها ضغط من الزمن. لم تكن مضطرة إلى العجلة/ الراديكالية، وفيها الندامة.

كل من أتى بعد بريطانيا اضطر إلى العجلة، متناسبة طرديًا مع عمق المسافة الزمنية التي فصلتها عن تقدم إنجلترا. فرنسا خاضت والمسافة بالكاد غاضت، فعادت. روسيا خاضت ومسافة تقدم بريطانيا عنها فاضت، فغرقت.

هل من سبب لهذا؟

نعم. التطور في العصر الحديث اعتمد على عامل مميز عن ما سبقه عبر العصور. اعتمد على اتساع الطبقة الوسطى؛ أي اتساع فئة الأفراد الذين يستطيع كل منهم أن يحقق كفايته وزيادة قليلة أو كثيرة. بحسبة بسيطة، هذا يعني أن تلك الطبقة والتي تعلوها تملك من القدرة الإنتاجية ما يسمح بتغطية نمو العدد. وتبتكر مع هذا النمو، وتخلق مهنا جديدة تستوعب الزيداة. لن يتضخم العدد أولا ثم يقف على محطة التاريخ في انتظار جود السماء والأرض والبشر.

لقد امتلكت إنجلترا الزمن.

مع انتشار القدرة على الاطلاع على أحوال الغير. صارت هناك أعداد متزايدة من المواطنين في دول أخرى قادرة على التعرف على ما لدى ابن خالتها. وحريصة على اللحاق به بأي ثمن. صارت دعوتها هي اللحاق به، أما الثمن فمختلف عليه. يقول لك الواحد منهم “انظر إلى إنجلترا أين صارت”. لماذا لا نصير نحن مثلها؟ عداك العيب. لماذا لا نصير مثلها. ولكن كيف؟

هناك حل سهل أمام محدثي التعلم.

ثورات وانقلابات.

سنة ١٧٩٨، نأخذ أموال الأغنياء ونوزعها، فيصير عدد كبير منا طبقة وسطى، كما صار عدد كبير في إنجلترا طبقة وسطى. (لم يكن ابن خالتهم يعرف بعد صناديق الاقتراع، وصوت لكل مواطن – له الحمد).
في ١٩١٧ تكرر نفس الحل في روسيا. لكن المسافة كانت أكثر اتساعا. وكانت تلك الكارثة؛ حيث مقاصلهم الأفقية المتمكنة قطعت رأس كل متميز. ولم تكتف – كمقاصل فرنسا الرأسية – بقطع رأس الأرستقراطية.
في ١٩٥٢ انقلاب عسكري في مصر. لا يحتاج المقاصل. يكفيه التلويح بالسلاح والسلطة. لكي تهمد الرؤوس.
في ١٩٧٩. إيران. لا تكتفي مقاصل الثورات الدينية بالتصنيف الاجتماعي الطبقي. المطلوب أكثر من ذلك لكي تحقق “الوعد الثوري”. ولن يسمح لك بحياة مختلفة عنه ولو كنت فقيرا.

أولئك هم الرابحون .. كيف يتفاعل الاقتصاد ونفسية المجتمع | خالد البري | رواية صحفية في دقائق

المساواة بحز الرؤوس العالية، ماديًا أو معنويًا، آفة العجلة، آفة الرغبة في القفز فوق الزمن. تلك التي يسمونها في السياسة الثورة. في اللغات الغربية الكلمة أكثر صدقًا مع نفسها وأوضح في التعبير عن معناها. Revolution أي إعادة الخلق. هدم الموجود والبدء من جديد. بدلًا من Evolution تطور الخلق.

في إيران سيهتفون الموت لإيران الشاه، لأول امرأة نالت منصبا وزاريا، لمظاهر “التغريب”، تمهيدا لخلق إيران الجديدة القديمة جدا. ثم سيهتفون الموت لأمريكا، كمقدمة لخلق عالم جديد ليس به “غطرسة”. يقوده “أساتذة عالم” إيرانيون..

فهل تجيب الحياةُ دعوة الدعيّ إذا ادعى؟!

إنفوجرافيك| تعلموا على يد “الشيطان الأكبر” وأسلموا إيران | دقائق.نت

٣

عاملان إذن تحكما في نفسية الأمم فجعلاها تريد أن تكون كبنت خالتها، فورًا.

انتشار القدرة على “الاطلاع” على أحوال الآخرين.

و ضغط الزمن.

ربما حان الوقت لكي ننظر إلى بنت الخالة. تلك التي سارت في طريقها دون ضغط نفسي. ننظر في حالها ببعض البصيرة التي تجعلنا بدل أن نقلدها، نقتدي بها. والفارق بين التقليد والقدوة كبير. التقليد يعني محاكاة الظاهر من الحركة. أما القدوة فتعني محاكاة الكامن وراء الفعل.

نحاول أن نعرف الجوهر في هذا التطور. وبالتالي نعرف سبب الفشل الحتمي لمن لم يفهموا هذا الجوهر.

التطور المعاصر، انطلاقًا من التحول الإنجليزي إلى البروتستانتية وقيمها، كان محوره الفرد. كيفما كان تشكل المجتمع.

 في الاقتصاد: لا بد، لكي تزدهر أمة، أن يكون كل فرد فيها قادرًا على تقديم منتج أو خدمة لها سعر، وأن يكون السعر كافيًا لكفالته وكفالة من يعول. هذا السعر لا يحدده الفرد بقيمة يفترضها، بل تحددها الحاجة إلى هذا المنتج أو تلك الخدمة. وبالتالي يضمن المجتمع أن يطور أفراده أنفسهم حسب تغيرات العصر. لا يفترض الحداد أن المجتمع سيظل محتاجًا إلى الحدادة بنفس الطريقة. ويعلم المتعلم أن السعر سيذهب إلى المبرمج وليس إلى صاحب شهادة يملكها ملايين غيره.

في المجتمع: الفرد حر في اختياراته. ليس من حق كتلة أن تسلب منه هذه الاختيارات. ما دام لم يثبت منها ضرر ملموس جنائي واقعي على فرد آخر. الطريق مفتوح أمام الفرد لكي يبتكر، ولكي يتحين الفرصة، فإن أصاب حصل على ثمرة هذا التعب وهذا النجاح، وإن فشل تحمل نتيجة فشله.

في السياسة: للفرد حريات أساسية. بداية من حريتك في الاعتقاد بما تشاء، إيمانيًا وفكريًا وسياسيًا، لأن الاعتقاد هو الذي يرسم خياراتك الأخرى. ومعها على نفس القدر – غير منقوص – حريتك في التملك، ما دمت حصلت على هذا دون اقتراف جريمة. لان حريتك في التملك ستعطيك الحافز على بذل مزيد من الجهد، وعلى مزيد من الابتكار. فإن كنت متميزًا إلى درجة التفوق ستتحول أنت إلى مركز نفوذ اقتصادي في دائرة صغيرة، تديرها بمهاراتك التي أثبتت نجاحها.

تعدد مراكز النفوذ الاقتصادي، وتعدد أساليب التفكير، يحتم خلق آلية لإدارة هذا التنوع.. الديمقراطية.

هذا التتابع المشار إليه، هذا الجوهر الاقتصادي الاجتماعي السياسي، يعني أن الديمقراطية بلا قيمة ولا معنى في مجتمع لا يسمح فيه بالتعدد الفكري، ولا بالتعدد الاقتصادي.

هل علمت الآن لماذا تركت آية الله روح الله الخميني في الطائرة، وقطعت هذه الدورة الكبيرة متحدثًا عن الفرد في مقابل الكتلة، ثم متحدثًا عن الديمقراطية؟

نعم. لكي أقول إن الدعوات الدينية، والشيوعية، التي تخاطب الكتلة، ولا تبالي بحريات الفرد، سواء الاعتقاد الفردي أو التملك الفردي، لا تعرف معنى الديمقراطية. إنما تستخدم اللفظ كما يستخدم محدثو التعلم في العائلة ألفاظًا “زي بلاد برة” لكي يبدوا في صورة “الإنسان” الحديث.

تنابلة السلطان … الحركة التعليمية التي لم تنل حقها | رواية صحفية في دقائق

ولفظ الديمقراطية، مع كل البرستيج، لن يكلفه شيئًا أيضًا. مجرد قشرة على خاتم زواج من صفيح، يقدمه شخص نصاب. يخادع به المعازيم حتى توقيع العقد وامتلاك الشرعية القانونية. وانتهت.

لا الإمساك كان بمعروف، ولا التسريح سيكون بإحسان.

في الطائرة اجتمع هذان النوعان. آية الله روح الله الخميني واليساريون. كل منهما يضمر استغلال الآخر. رجل الدين يريد واجهة معاصرة. واليساري يريد الكتلة التي يمتلكها رجل الدين.

اليساري يعتقد أنه – وقد حمل أطنانًا من نصوص الكتب في عقله – لن يخدعه شيخ كبير، لكنه سيكسب دعم الكتلة التي “تقلد” الإمام. فقط يحتاج إلى النزول إلى جوار الإمام، وأن يتكئ هذا الأخير عليه.

أنا

لا أنا

بل أنا

أما الإمام فيعرف ما فيها، وأن أيًا من هؤلاء لم يعد له قيمة لديه. لقد أدوا مهمتهم. طمأنوا الغرب، رطنوا بكلمتين من الكلام الفارغ الذي يدرسونه في أقسام الإنسانيات، ويحبه شمامو الكولة. والآن دورهم انتهى.

قرر الإمام ألا يستند في لحظات نزوله إلى إيران على أحد منهم. بل نزل مستندًا إلى أحد مضيفي الطائرة الفرنسيين. شخص خارج الحسابات ولا ينتظر مكسبًا سياسيًا.

هرول ذيول الإمام من اليساريين والليبراليين خلفه لكي يظهروا – على الأقل – في الصورة الفوتوغرافية التي ستلتقط له لحظة النزول.

التقطت الصورة.

لكن حتى هذه لم تسلم من إجراءات الإمام الثورية.

إيران الخميني.. 40 عامًا من دوران الرحى حول نفسها | تايم لاين | دقائق.نت

٤

لو نظرنا إلى الشرق الأوسط في القرن العشرين لرأينا أنه ينقسم إلى قسمين.

القسم الأول فيه حركة صعود اقتصادي وفكري وفني. انتبه: حركة صعود. المنحنى البياني صاعد. لم أقل أنه وصل الكمال وإلا لما كان هناك قصة أحكيها. الكمال يقتل الروايات، حتى الصحفية منها.

أما القسم الثاني  فشهد حركة هبوط. بدأت كلها بوعود محلقة.

الصعود والهبوط في هذه البلدان مرتبط عادة بتاريخ محدد: في مصر، في العراق، في إيران، في لبنان.. إلخ.

ستكونين أنت الحذاء.. أزمة الاقتصاد المصري في أغنية المهندس حسام | رواية صحفية في دقائق

هل في ما رويته سابقًا ما يقدم تفسيرًا لهذا؟

النصف الأول من القرن كان التركيز فيه على إصلاحات اجتماعية متعلقة بالمنجز الفردي. نستطيع أن نقول إن الإصلاحات كان جوهرها مزيدًا من الحريات للفرد.

أم كلثوم الفتاة الريفية حرة في أن تذهب إلى القاهرة وتغني. لا تستطيع الأغلبية منعها.

إن أراد طلعت حرب الاستثمار في قطاعات اقتصادية مختلفة فهو حر في ذلك. نعرف قصته لأنه نجح، لكن الأكيد أن كثيرين غامروا وفشلوا وتحملوا هم مسؤولية فشلهم.

وفي غير مصر من دول المنطقة حكايات شبيهة بهذا.

لكن عند النقاط المشار إليها تحول مفهوم الحريات هذا عن الحريات الفردية.

صارت الحرية تشير إلى تحرر “الجماعة/الكتلة”، تحت دعوى الاستقلال. وكأن أجيال الحريات الفردية لم تخض معركة الاستقلال. صودرت كلمة الحرية من الأفراد ونسبت إلى الجماعة، التي يحركها زعيم.

تغير آخر “طفيف”، لكنه شاسع، حدث.

اختفت كلمة الحريات من القاموس السياسي لصالح كلمة الحقوق. لم تكن تلك مصادفة. لقد سيطر على المجال السياسي كله جماعات ليست معنية بالفرد، بل معنية بالكتلة/الجماعة. الزعيم معني بالكتلة. ومعارضوه أيضًا معنيون بالكتلة.

صرنا نسمع عن حق الاعتقاد، وليس عن “حرية الاعتقاد”. والفارق بين الاثنين كبير. الثاني يعني حرية الإنسان في الاعتقاد، أما الأول يعني حق “الجماعة” في أن تحافظ على اعتقادها الكائن القائم. تحافظ عليه ضد من؟ ضد الفرد المختلف. وكأن حرية الفرد في الاعتقاد خطر على “حق الجماعة” في الاعتقاد.

صرنا نسمع عن “الحقوق الاقتصادية”، وليس عن “الحريات الاقتصادية”. والفارق بين الاثنين كبير. الثاني يعني حرية الإنسان في التملك دون مزاحمة من سلطة أعلى، أما الأول فيعني حق “الجماعة” في الحصول على حقوقها الاقتصادية! ممن؟ من الفرد. من ممتلكاته. من ثمرة مجهوده. هذا يعني حق الجماعة في الكفالة. تنجب العدد الذي تريد. وهذا العدد له “حق” عند الآخرين.

صار ما تريده الجماعة يحرم على الفرد. حق الجماعة أهم من حريةالفرد.

كل واحدة من هذه المفاهيم لها اسم يستخدمه “محدثو التعلم”. اسم جميل جذاب. مرة العدالة الاجتماعية، ومرة “الحقوق الثقافية”.

لكي تحصل الجماعة/الكتلة على كل تلك الحقوق الموعودة لا بد من إجراءات حاسمة. لا بد دائمًا من ثورة. وإجراءات ثورية.

هذا الفرق الضئيل، الملتبس، بين الحرية وبين الحق، هو الفارق الشاسع، الملتبس، بين إدارة السياسة في النصف الأول من القرن العشرين والنصف الثاني منه.

لقد صارت الكتلة، لا الفرد، بؤرة التركيز.

أين الفرد؟ ليس موجودًا. على العكس. صار متهمًا. إما أن ينضم إلى “الصورة” وإما خارج عنه

في هذا الإطار جاءت الثورة الإيرانية، بعد انقلابات الخمسينيات في الجمهوريات الناطقة بالعربية. وجاء تحالف تيارات الكتلة المتكرر بلا ملل. الدين السياسي، واليسار. متبوعًا بخصامهما المتكرر، بلا أمل. ثم تحالفهما. ثم خصامهما.

وبين شقي الرحى، كان الفرد الضحية.

وبالتالي كان جوهر التطور هو الضحية.

ليس الحجاب فقط .. المرأة الإيرانية قبل ثورة الخميني | الحكاية في دقائق

السينما الإيرانية بين ثورة الخميني وأوهام العالمية | حاتم منصور

العجيب في موضوع تحالف الدين السياسي واليسار أن اجتماعهما على استخدام الكتلة ضد الفرد يتغلب على اختلاف المنطلق لكل منهما.

الدين السياسي يريد الكتلة لكي يحارب التطور ويبقي الأمور على ما هي عليه، واليسار يخاطب الكتلة بوعد بأن يرفعها في قفزة واحدة إلى التطور.

لكن كليهما يحتاج كتلة يمكنها أن تعتقد في “الخوارق”. خارق القدرة على إيقاف قطار الزمن. أو خارق القدرة على تحويل الكيلومتر إلى ميلليمتر في مسافة الزمن.

كتلة تعتقد أن الحقد على المنجز الفردي دليل إثبات على “الظلم” الذي تتعرض له، أو دليل إثبات على “صحة الإيمان”.

بعد أن نزل اليساريون خلف الإسلاميين على نفس الطائرة، وظهروا في نفس الصورة. قررت الثورة أن تمحوهم منها، قبل أن تمحو بقية المنجزات التي حققتها إيران سابقًا.

خيانة الخميني الأولى بدأت بصورة ولم تتوقف بعدها . ٤٠ عاما على الثورة الإيرانية | س/ج في دقائق

٥

محدثو التعلم بحثوا في “كلام بلاد برة” عن مرادف للكتلة. بحثوا في الديمقراطية فعثروا على “الأغلبية”.

ثم روجوا لنا قشرة الفستق هذه وهم يقسمون أنها فستق. يقولون لنا كلوا فستق. مستوردًا من إنجلترا وفرنسا وأمريكا. يا عبيد. يا أعداء الديمقراطية.

أما جوهر الفستق. فلن يدركوه أبدًا. لأنهم لا يقيمون للفرد قيمة.

التطور في المجتمعات، في أي من أوجهه، لا يدعمه في البداية إلا قلة قليلة؛ لأنه ليس مظلة تنزل على الناس فتغطيهم كلهم مرة واحدة. لم يحدث هذا في إنجلترا. لم يحدث هذا في فرنسا. لم يحدث في أي مكان. لقد استغرقت القيم المعاصرة وقتًا طويلًا – قرونًا – لكي تُظل عددًا أكبر من “الأفراد”. إن استدعيت الكتلة (الأغلبية) ضد هذا التطور، ستهزمه. هذا حال الإسلامجية.

وإن استدعيت الكتلة لكي تتقاسم سريعًا ثمرة هذا التطور، كما يدعو اليسار، فهذا اعتقاد إعجازي، يشبه أن تستدعي ثلاثمئة شخص لكي يأكلوا سمكة. التطور هو أن يشمر كل فرد من هؤلاء ويكسب على قدر مهارته. أن يدرك المعادلة من البداية.

اليسار كان مسؤولًا عن ضياع مسيرة التطور في هذه المنطقة:

مرة بالترويج بجزرة هلوسة تقنع الجماهير أن الأرانب البيضاء كبيرة، كبيرة للغاية، تكفي الجميع.

ومرة بانتهازية التحالف مع الإسلامجية.

كان من الصعب على أصحاب المظهر القديم، والألفاظ القديمة، أن يقنعوا مجتمعات تتطلع إلى الغد. فكانوا يحتاجون إلى ذوي البذلات والقمصان.

كانوا يحتاجونهم أيضا ليتحدثوا إلى العالم بمفرداته المتداولة.

كانت الاشتراكية ومعتنقوها العامل الأكبر في خراب مصر.

خراب العراق.

المساهمة في تخريب إيران.

ثم غنوا لإيران بعد خرابها مستمرين في تمجيد ثورة الملالي.

ثم تحولوا هم أنفسهم في لبنان إلى صورة لإيران.

ثم روجوا لنموذج لبنان.

ثم تحالفوا مع الإسلامجية مرة أخرى في مصر غير معتبرين بتجربة إيران.

أكاديميو اليسار في العالم لا يزالون يروجون لاستدعاء رفيقهم الديني في “حب الكتلة” وكراهية الفرد لحكم بلدان في المنطقة.

هذا التيار من التفكير السياسي يحتاج إلى طبيب نفسي.


| ملف | ٤٠ عامًا على الثورة الإيرانية في دقائق


رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

التعليقات (2)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك