إحباط الواقع السياسي في مجتمعاتنا العربية.. متى ننصت لصوت العقل؟ | حيدر راشد

إحباط الواقع السياسي في مجتمعاتنا العربية.. متى ننصت لصوت العقل؟ | حيدر راشد

11 Jul 2018
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

من ينظر اليوم إلى واقع السياسة في المنطقة العربية، يصعب جدا ألا يلازمه الإحباط. ذلك أن التفكير السياسي فيها لم ينفك بعد عن الانفعالية، ولا زالت مفاهيم الطائفية والفئوية تحز في جسد المجتمع إلى حد التصدع. فالثقافة لا تزال عالقة حيث ودّعتها الحضارة، بعد سقوط الخلافة العباسية وبداية قرون الاضمحلال، ولم تتبلور فيها حتى اليوم مفاهيم مناظرة للفردية والمسؤولية الشخصية في الغرب.

ركود معرفي

وحتى المؤسسات التي أريد لها أن تستنهض العقول وتبني المعارف، كالتعليم الرسمي، اكتفت بالتعامل مع التراث بأكف حريرية، وامتنعت عن تقديم الدروس النقدية أو حث الأدمغة الناشئة على إدارة التفكير وإتقانه، ولذا فقد بقيت أزمات الماضي وأوهامه بكل أتربتها وجراثيمها ناشبة بعمق في الوعي الجماعي. وهكذا لم يعد مستغربا أن نجد دكاترة يصدقون بالتنمية البشرية، وآخرين يروجون بذاءات الطائفية، وعشرات القنوات التي تحظى بتمويل سخي لا يهمها شيء غير إحياء الأحقاد وتهييج الثارات وإدامة الركود المعرفي.

كما أن إضافة الإيديولوجيا إلى هذا الخليط القلق زادت الطين بلة، كما لم تصلح من مشاكلنا شيئا على الإطلاق. فالأفكار الغربيّة التي كتب لها الانتشار بيننا (بقصد أو بغير قصد) كانت قادمة من بلدان صناعية، ونشأت رداً على مشكلات عصر الصناعة – كالماركسية فلسفيا والاشتراكية سياسيا وميدانيا. على أن مجتمعاتنا لم تكن قد تعودت على النور بعد، أو أدركت أنها إقطاعية أو زراعية من الأساس، فضلا عن وعيها بضرورة الانعتاق من الإقطاع والتقدم نحو عصر الصناعة!

فأصبح مشهد التنمية لدينا أشبه بطفل يافع يريد المشاركة في سباق 100 متر، وهو لا يستطيع المشي لساعة كاملة دون توقف. فالحديث عن الاشتراكية – الذي استغرق العقود الأهم في القرن الماضي، من الخمسينات حتى الثمانينات – كان يتطلب أصلا وجود بنى صناعية عريقة ورؤوس أموال مؤثرة، بالإضافة إلى تمايز طبقي واضح بين الرأسمالي والبرجوازي والكادح، كي نتحدث عن مشكلات العمال أو ننحو باللوم فيها على جور الاقتصاد الحاكم، وليس على مسلّمات ثقافية كالحطّ ممن يقتصد في مصرفه أو التشجيع على الإنجاب بغير حساب.

اقرأ أيضا: اللقاح الفكري.. ما تحتاجه لتكون قارئا واعيا (إنفوجرافيك)

الاشتراكية والمجتمعات العربية

وقد وجدت الحماسة الاشتراكية نحو القمع خير بيئة راعية في الثقافة التسلطية العربية، حيث يقمع الأب أولاده والشيخ عشيرته والوالي رعيته، منتجةً بذلك حصيلة أليمة لم تغادر أذهان الملايين من سكان الشرق الأوسط – خاصة حين تعود إلى الأذهان موجات هجرة العقول أو ملاحقة واعتقال الشباب الواعد لمجرد اختلافه الفكري، ليذهب من ثم إلى مصير مجهول.

ولعله يمكن القول – دون أدنى تحيز – بأن الانفتاح على هذه الموجات التحريضية كان شرا خالصا من البدء وحتى المحصّلة، المتمثلة بتهاوي الأنظمة الاشتراكية في منطقتنا من اليمن الجنوبي وحتى الجماهيرية الليبية، التي أعقبها دون استثناء غوص عميق في رمال الماضي، وإحياء لكل المؤسسات التي أشفقت تلك الأنظمة من الإجهاز عليها رأفة بها، وكانت تأمل أنها ستتلاشى من تلقاء نفسها في هذا المناخ “التقدمي الخصب”. ولا تزال نتائج هذا الخوض تتفتق أمامنا وتكتب فصولا جديدة من الدم والهدم.

                                

دور الأيديولوجيا والتعليم الخداعي

فالأيديولوجيا في الأساس غشاوة معتمة تشوه الواقع في نظرنا، تحرص على دفع المعتنقين للتشكيك في كل القناعات سواها، والدفاع عنها في وجه الواقع بكل عناد. ولئن لم تترك عقود الهيمنة الاشتراكية في الأذهان إلا مزيدا من التعصب والاستقطاب، وولعا مريضا بأوهام المؤامرة، فقد آتت أكلها وأكثر. ذلك أن طور الصحوة الذي بدأت قبضته تستحكم بالتزامن مع تراخي القبضة الاشتراكية في العالم العربي، استطاع بنجاح مذهل أن يحشر العقل العربي تحت قبة مصمتة، كرّست لجو الانغلاق الأيديولوجي وفرض الاحتكار على القارئ والمثقف، بحيث لا يملك خيارا سوى ما بين الاشتراكية والإسلام السياسي.

وهنا لا بد أن نشيد بالتضامن المذهل لتقاعس التعليم الرسمي وانتقائية المترجمين العرب. فمع تحول درس اللغة الإنجليزية إلى “إسقاط فرض” لا أكثر، بفضل تصاعد المد القومي والمناداة بالقطيعة المبرمة مع الغرب، بات عامة القراء متكلين في معرفتهم عن العالم الخارجي (وذلك لقلة فرص السفر والاطلاع) على ما تجود به أٌقلام المترجمين وأناملهم.

ونظرا لأن أكثر المشتغلين في المجال الثقافي ذوو ميول يسارية خالصة، فإن المرء يفاجأ حين يدخل للمكتبات القديمة وينظر للعناية التي شملت بها مجلدات من “الأعمال الكاملة للينين” أو “خطب الزعيم ماو تسي تونغ”، أما الرأسمالية بكل جذورها الفلسفية والأخلاقية، والمدارس والتوجهات التي نمت وتشابكت في ظلها، فقد كان حظها من الترجمة نزراً لدرجة أن رجل دين شهيرا يصدر في أوائل كتابه الناقد للشيوعية هذا التصريح الجازم:

“… فالنظام الرأسمالي مادي بكل ما للّفظ من معنى، فهو إما أن يكون قد استبطن المادية، ولم يجرؤ على الإعلان عن ربطه بها وارتكازه عليها. وإما أن يكون جاهلا بمدى الربط الطبيعي بين المسألة الواقعية للحياة ومسألتها الاجتماعية. وعلى هذا فهو يفقد الفلسفة التي لا بد لكل نظام اجتماعي أن يرتكز عليها. وهو – بكلمةٍ – نظام مادي، وإن لم يكن مقاماً على فلسفة مادية واضحة الخطوط.”

أسلمة العلوم

وقد كانت حصيلة هذا الإهمال المقصود هائلة، حيث أضيفت النقمات واللعنات الاشتراكية لكل ما هو رأسمالي اقتصاديا أو برجوازي ثقافيا، إلى أحكام التكفير والتضليل الجاهزة في الثقافة الإسلامية ضد نظرية التطور والفلسفة الطبيعية وانتقاد عيوب المجتمع. وأنتج هذا المزيج القلق موجة من التنكر الصريح للمناهج المعتمدة على الفلسفة والعلم الحديث – كالليبرتارية في السياسة أو المنهج التطوري في الإنسانيات – أما البحث العلمي فوجوده كالعدم. وهكذا بات المثقف الاقتصادي اشتراكيا بلا نقاش، والمفكر الاجتماعي بنيويا دون بدائل، وأسهل الطرق إلى الوجاهة الإعلامية يتمثل بالمواءمة بين هذه المفردات الجديدة والتراث القديم، فيما يعرف “بأسلمة العلوم” أو “الإعجاز العلمي”، وهما وجهان لنفس الدرهم الزائف.

                               

بالنظر لكل هذا، لم يكن مستغربا أن ينجرف الملايين في ثورات الربيع العربي – بغض النظر عن دوافعها وأهدافها – حين رأوا فيها متنفسا لمشاعر السخط والحنق، التي ربّتها عقود من الفشل والاندحار والنكوص للماضي. ولكن إن أثبتت هذه السنوات الثمان شيئا، فهو أن العيب يكمن في الثقافة الأصيلة، التي أنتجت جزءا غير يسير من مشكلات المجتمع التي يشكو منها:

فطاعة الكبراء ترفض الاحتكام للعقل والواقع، والارتهان للغيب يعطّل التخطيط للمستقبل، والنظر للتراث كخصم للعلم يحرمنا من التقدم الحقيقي.

رؤية جديدة

لو كنا نرغب حقا في تحقيق تغير مستدام نحو الأفضل، فنحن بحاجة إلى رؤية جديدة لأنفسنا وللعالم دون أحكام مسبقة. إذ كيف يمكن أن نشخّص أخطاءنا ونحن لا نملك شجاعة الاعتراف بأنها موجودة، وأن آثارها تجري منا مجرى الدم في العروق؟ يجدر بنا أن نلقي نظرة جديدة على التاريخ، المذاهب، التقاليد، والمسلّمات، ويكون المحكّ الوحيد فيها هو مدى انسجامها مع الواقع إن كانت ادعاءات واقع، أو نفعها لديمومة المجتمع إن كانت نصائح إيمان وأخلاق. وإلا فهنيئا لنا الخمود الطويل.

لو أقدمنا على هذا ووصلنا فيه أشواطا بعيدة، عندئذ فقط يمكننا البدء بمرحلة “تصحيح الأسماء” كما سماها فلاسفة الصين، والإنصات فعلا لصوت العقل.

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك