ماذا لو قال أحدهم أنك تفكّر بمخ نملة؟ | شادي عبد الحافظ

ماذا لو قال أحدهم أنك تفكّر بمخ نملة؟ | شادي عبد الحافظ

9 Jun 2020
شادي عبد الحافظ دقائق.نت
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

عادة ما يستخدم “مخ النملة” للتهكم على سذاجة أحدهم في موقف ما. النملة كائن بسيط بالفعل، ذات جسم ضعيف، ودماغ يحتوي فقط على ربع مليون خلية عصبية، بينما تحتوي أمخاخنا نحن البشر على أكثر من ثلاثون ألف ضعف هذا العدد. لو قررت أن تترك نملة في طبق بلاستيكي مغلق ستدور حول نفسها لساعات حتّى تموت من الإرهاق.

لهذا السبب سنفترض أن آليات تعامل النملة مع مواقف حياتها اليومية ستكون بنفس السذاجة. يمكن بالفعل أن نقول هذا عن عشر نملات أو مئة نملة، لكن ما أن نقرر التحدث عن مستعمرة بها عشرات إلى مئات الملايين من النمل، فإننا بحاجة للهدوء قليلًا، والتحدث معًا.

مستعمرة النمل

مستعمرة النمل

لفهم الفكرة، دعنا نبدأ من دراسة نشرت مؤخرًا في دورية “اي-لايف eLife” حاول العلماء خلالها مقارنة قدرات قطيع من النمل مع الكمبيوتر في حل مجموعة من الألغاز.

الفكرة ببساطة أن توضع مجموعة من المكعبات الخشبية أو المعدنية لصنع متاهات تتدرج في التعقيد، بين النمل وموضع الطعام الخاص به، ثم يبحث الفريق كيف ستتمكن هذه المجموعة من حل تلك المتاهات.

نتائج الدراسة خرجت لتقول إنه كلما ازداد تعقيد المتاهة كان النمل أقدر من الكمبيوتر على حلها سريعًا!

لم يكن ذلك مفاجئًا للعلماء، فقد توقعوا حدوث ذلك، لكن هدفهم كانفهم التكنيك الذي استخدمه النمل لحل تلك المتاهات. وقد تبيّن أن النمل القائد يقوم بمناورة ذكية أثناء الرحلة ناحية الطعام، حيث يستكشف الحلول المتاحة لها في دوائر أوسع من تلك الخاصة بالنمل حامل الطعام.

لكن.. لماذا لم تكن تلك النتائج مفاجئة؟

عالم النمل يختلف عن عالمنا بشكل جذري. نتبع نحن البشر آلية هرمية في تنظيم أمورنا، فتجد القائد واضع الخطط العامة في قمة الهرم، وأسفل منه فرق أخرى تتدرج في التخصص، وصولًا إلى كل فرد صاحب مهمة محددة. يبدو ذلك بديهيًا جدًا، لكنه ليس الطريقة الوحيدة الصحيحة لتنفيذ الأمور.

لنفترض أن هناك طريقان فقط للحصول على الطعام، “أ” و”ب”، الأول يبتعد مسافة ثلاثة أمتار عن بيوت النمل، والآخر يبتعد مسافة متر ونصف فقط، حينما يعرف النمل بوجود هذا الطعام، فإنه ينتشر في الطريقين بطريقة عشوائية، لكن – كما تعرف – فإن النمل يفرز مواد كيميائية تدعى الفيرمونات ويتركها على الأرض.

مخ النملة

الآن ركّز قليلًا معي. تركيز الفيرمونات سيكون أعلى لا شك في الطريق الأقصر لأن عدد مرات الذهاب والعودة خلاله تكون أكبر. إذا كنت نملة، فإنك تعتمد في حياتك على قاعدة واحدة فقط تقول: “اتبّع تركيز الفيرمونات الأعلى”.

هنا – وبعد وقت قصير – ستجد أن كل النمل قد تحوّل إلى أقصر طريق تلقائيًا لتسأل نفسك بعدها: كيف فعلوا ذلك؟!

حكمة المجموع

بنفس الطريقة، تمكنت النملات من اجتياز المتاهات الصعبة أسرع من الكمبيوتر؛ لأن نملة واحدة ليست هي ما يحاول إيجاد حل للمشكلة، بل كل النمل ككائن واحد، لفهم الأمر بصورة أعمق نذهب إلى نايجل فرانكس.

إنه أستاذ علم البيولوجيا من جامعة بريستول، الذي قضى أكثر من نصف عمره في محاولة فهم هذه الحالة البديعة ذكاء العقول الصغيرة جدًا: كيف يمكن لقوانين بسيطة جدًا أن تصنع أنظمة ذكية بهذا الشكل؟

في تجاربه، قبل حوالي عقد من الزمان، عزل فرانكس مجموعات من النمل عن مستعمراتها، بعد ذلك صمم تجربة تتضمن عدة غرف صغيرة لا تختلف عن بعضها البعض إلا في المساحة فقط، وهو يعرف أن إحدى القواعد الأساسية لعالم النمل هي أنه كلما كانت مساحة المكان أكبر كانت مناسبة أكثر للقطيع.

خلال فترة قصيرة، كان كل النمل قد اختار بالفعل البيت صاحب أكبر مساحة، ومهما كان هذا المكان متعرجًا يصعب قياس مساحته، فإن النمل كان قادرًا على إيجاد المساحة الأكبر، بعد فترة من البحث اكتشف فرانكس السر.

حينما تدخل نملة واحدة إلى مكان ما، فإنها تبدأ بالتحرك في المكان عشوائيًا. تتقدم للإمام ثم تقف بسبب وصولها للجدار، فترجع للخلف في حركة عشوائية أخرى قد تكون يمينًا أو يسارًا، وتستمر في ذلك لفترة، ثم بعد ذلك تحسب مساحة المكان بناءً على تقاطعات خطوط الفيرمونات التي تركتها في كل خط سير. إذا كانت نقاط التقاطع أكثر فالمكان ضيّق، وإذا كانت أقل فالمكان واسع.

ليس ذلك فقط، بل كان فرانكس قد اكتشف أن قطعان النمل تمتلك درجات من التفضيل، فهي تفضل اتساع البيت، لكن كذلك تفضل أن يكون بعيدًا عن مصادر الضوء، وأن يكون مدخله ضيّقًا قدر الإمكان.

لكن، لابد وأنك تسأل نفسك الآن: كيف تبلّغ النملة بقية الفريق أن هذا المنزل الجديد أكثر اتساعًا من غيره؟

ديمقراطية نحل العسل

في تلك النقطة دعنا نترك النمل قليلًا، ولنتأمل ما يتحدث عنه توماس سيلي، أستاذ البيولوجيا واسع الشهرة من جامعة كورنيل في كتابه “ديمقراطية نحل العسل” Honeybee Democracy، فهي نفس المشكلة تقريبًا.

حينما يفقد قطيع النحل منزله، فإنه يبحث عن مكان مناسب لإقامة منزل جديد، هنا تنطلق النحلات في اتجاهات متفرقة وبصورة عشوائية، وإذا وجدت أحد النحلات مكانا مناسبا فإنها تعود إلى القطيع وتمارس ما نسميه بـ “رقصة الهز” (Waggle Dance)، هذه الرقصة دقيقة جدًا لدرجة أنها تدل بقية النحل على الموضع بالضبط.

بشكل عشوائي تنطلق مجموعات متفرقة من النحل إلى الأماكن المقترحة. إذا وجدت المكان مناسب أكتر فإنها ترجع إلى القطيع وتمارس نفس الرقصة بقوة، ما يجذب بدوره الكثير من النحلات، أما إذا لم تكن مقتنعة بالمكان فإنها لا تفعل ذلك، بل تجرب الذهاب إلى مكان آخر، وهكذا.. يستمر الأمر حتّى يحدد القطيع كله أفضل منزل ممكن.

هلا تلاحظ ذلك؟

في عوالم النمل والنحل، والقطعان الشبيهة من المجتمعات العليا Eusociality، لا يوجد مفهوم القائد المركزي الذي يحدد خطوط السير، بل يمكن أن تجد مفهومًا آخر أكثر لفتًا للانتباه. إنه “الذكاء الجمعي” Collective intelligence، ويعني ذلك أن كل نملة أو نحلة مفردة تعمل بقوانين بسيطة جدًا، لكن بشكل كلّي فإن الحشد يصبح أكثر ذكاء من مجموع أفراده.

حسنًا، إذا قال أحدهم لك بعد ذلك أنك تمتلك مخ نملة، ربما تكون أذكى منه!

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك