هل يمكن للّغة العربية أن تستوعب العلوم؟

هل يمكن للّغة العربية أن تستوعب العلوم؟

10 Jun 2018
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

منذ بدأت الثورة العلمية وحتى اليوم، كان التأليف في مجالاتها يتباعد شيئا فشيئا عن الأسلوب الفلسفي، من حيث طبيعة المقدمات أولاً (فهي تجريبية أو رياضية، وليست عقلية).

وأيضا من حيث اللغات المستخدمة (حيث احتلت الفرنسية والألمانية، بدلا من اللاتينية، المكانة الرئيسة في القرنين الثامن والتاسع عشر، وتصاعدت أهمية الإنجليزية منذ أواسط التاسع عشر).

اللغة العربية والأسلوب العلمي

ولكن أياً تكن اللغة المستخدمة، فإن للأسلوب العلمي مميزات عديدة، أبرزها ثلاث:

  • – إيجاز العبارة
  • – سعة الاشتقاق
  • – البُعد عن الإبهام

وبالنظر إلى الجدل الذي أثير حديثا حول تعريب العلوم، وكتبت حوله العديد من المقالات القيمة (بعضها لأصدقاء أعتز بآرائهم)، فإن هناك زاوية لم يستهدفها العديد بالمعالجة أو البحث، هي “هل هذه الميزات الثلاث مما تتصف به العربية أو ينسب إليها”.

وهذا ما سنتحدث عنه هنا بالتفصيل.

1. هل في اللغة العربية قدرة كافية على الإيجاز؟

لا شيء أدل على ذلك من كتب المتون، التي ألفت لتجمع رؤوس المسائل وليحفظها الطالب المبتدئ.

لذا فهي تمثل الحدود القصوى التي فرضها العلماء والفقهاء على أسلوب النثر، كي يعتصر أكبر قدر من المعلومات في عبارة مفهومة.

ولنأخذ شاهدين من متنين مشهورين، عقدت عليهما الشروح والحواشي الوفيرة.

الأول

متن أبي شجاع (الغاية والتقريب) في الفقه الشافعي، حيث يقول مثلا:

“البيوع ثلاثة أشياء‏:‏ بيع عـَين مُشَاهَدَة فجائز، وبيع شيءٍ موصوفٍ في الذِمَّة فجائز إذا وُجِدَت الصِّفَة على ما وُصِفَ به، وبيع عين غائبة لم تُشَاهد فلا يجوز‏.‏

ويصِحُّ بيع كل طاهر منتَفَع به مملوك.

ولا يصح بيع عين نَجِسة، ولا ما لا منفَعَة فيه‏.‏”

جرب – بعد قراءة متأنية لهذه العبارات – أن تصوغها بأسلوبك الحر، ولا أظنك ستصل لمثل هذا الإيجاز مع وضوح العبارة وتناسق الأجزاء.

والثاني

ألفية بن مالك في قواعد اللغة العربية، حيث يقول في باب الفاعل:

الفاعل: الذي كمرفوعَي “أتى * زيدٌ – منيراً وَجهُهُ – نِعمَ الفتى!”

وبَعدَ فِعلٍ فاعلٌ، فإن ظهر * فهو، وإلا فضميرٌ استتر

وجرِّد الفِعلَ إذا ما أُسنِدا * لاثنينِ أو جمعٍ، “كفاز الشهدا”

لاحظ هنا كيف استغنى الناظم عن كثير من زوائد الكلام، كي تتناسق له الألفاظ مع وزن الرجز المألوف في مثل هذه القصائد.

ولو شاء أن يجعل البيت الثاني نثراً لقال: “والفاعل يجيء بعد الفعل: وهو إما اسم ظاهر يعرب، أو ضمير مستتر يقدّر”.

لكن تراصّ العبارة أغناه عن ذلك.

لم تكن هذه النصوص بدعا من الإنشاء أو ضربا من التلهي، بل هي كتب دراسية تعاهدها آلاف الطلاب خلال الأجيال بالدرس والإتقان.

كما أن حل ألفاظها لم يكن بالأمر المشكل أو المعقد على من ألمّ بطرف من النحو، وعوّد ذهنه على هذا المسلك في التعبير.

وطبيعة الكتابة الجادة تعينهم على ذلك، لأنها تخلو من الاسترسال الذي يسود المحاورة، والتخييل الذي يتردد في الأدب والشعر.

2. هل تملك اللغة العربية سعة ومرونة كافيتين للاشتقاق؟

أرى أنها تمتاز بخصائص تؤهلها لذلك جدا، فأبنية الأفعال المزيدة (كأَفعَلَ واستَفْعَلَ) ذات معانٍ ودلالات واضحة، لا يُحتاج معها إلى تعلّم معاني البوادئ واللواحق (كما في اللغات الأوربية عموما).

ولنأخذ مثلا صيغة “افْتَعَلَ” التي اشتهرت في ستة معانٍ: الاتخاذ، الاجتهاد والطلب، التشارك، إظهار الفعل، المبالغة في المعنى، ومطاوعة الفعل الثلاثي.

هذا بالإضافة إلى أبنية الأسماء الموضوعة لمعانٍ معروفة أيضا: كالمصادر (ولكل وزن معانيه أيضا)، اسم الفاعل والمفعول، الصفة المشبهة، وما شاكل ذلك.

والاختبار الأدق لهذه المقدرة إنما يكون في المصطلحات المتقاربة اشتقاقا والمختلفة استخداما، مثل “استضواء luminance”، “ضيائية luminescence”، و “قدرة ضيائية luminosity”.

وهذه الخصائص تمنح الكاتب والمترجم مقدرة واسعة على اصطناع الكلمات الجديدة، فضلا عن الإيجاز في ترجمة المفردات والتعابير الطويلة.

كما أن المصطلح العربي الذي يشتق بهذه الطريقة يكون أثبت في ذهن القارئ وأعلق بالمعنى، خلافا للمصطلح الإنجليزي ذي الأصل اللاتيني أو اليوناني، الذي تحتاج معه إلى تعلم جذر إضافي كي تدرك المعنى الصحيح لما يشتق منه.

3. ماذا عن البعد عن الإبهام إذن، والعربية معروفة بكثرة المرادفات؟

لاحظ أن الأسلوب العلمي في اللغات يعتبر صنفا جزئيا من الأسلوب الكتابي.

فطالما اتسم تأليف العلوم في اللغة العربية بالاعتماد على المصطلحات التي تختزن الكثير في تعاريفها، واتسع الباب إلى ذلك حتى احتاج العلماء إلى كتب مختصة بمعاني المصطلحات.

كالتعريفات” للجرجاني، “الكليات” لأبي البقاء الكفوي، و “كشاف اصطلاحات الفنون” للتهانوي، الذي يقول في مقدمته:

“إن أكثر ما يُحتاج به في تحصيل العلوم المدوّنة والفنون المروَّجة إلى الأساتذة هو اشتباه الاصطلاح، فإن لكل علم اصطلاحاً خاصاً به إذا لم يعلم بذلك لا يتيسّر للشارع فيه الاهتداءُ إليه سبيلاً ولا إلى انقسامه دليلاً.

فطريق علمه إما بالرجوع إليهم أو إلى الكتب التي جمع فيها اللغات المصطلحة. ولم أجد كتاباً حاوياً لاصطلاحات جميع العلوم المتداولة بين الناس وغيرها.

وقد كان يختلج في صدري أوان التحصيل أن أؤلِّف كتاباً حاوياً لاصطلاحات جميع العلوم، كافياً للمتعلم من الرجوع إلى الأساتذة العالِمين بها.”

اقرأ أيضا: أزمة تعليم بالعربية أم أزمة مصرية مع الهوية؟

وما دامت الحدود بين الأسلوب العلمي والأسلوب الأدبي قائمة، والمعاجم المختصة بكل منها حاضرة، فلا داعي للقلق من الاختلاط في المصطلحات، خاصة مع اقتصار بعض الألفاظ على دلائل فلسفية فحسب: كالأبد، الكلي، المطلق، الأصل.. الخ.

مشكلات العربية في العلم

ولكن بالرغم من كل ما ذكرناه عن مزاياها المستمدة من تاريخها الكتابي الطويل، فإن واقع اللغة العربية لا يرقى إطلاقا إلى المستوى المنشود.

فحركة الترجمة العلمية لا زالت “تمشي على استحياء”، والتعاون والتفاهم بين اللغويين والعلماء بشتى التخصصات لا أثر له.

والمناهج التعليمية لا تساهم في خلق مستوى كافٍ من الوعي اللغوي لدى الطلاب كي يقدموا على التعلم المستمر بجهدهم الذاتي، فضلا عن المساهمة بحق في إثراء الثقافة العربية.

فما نراه من عدم عناية الكليات العلمية بتجهيز الطالب بخلفية ضرورية في الإنجليزية العلمية، تؤهله للتعامل مع المصطلح التخصصي، هو أبرز أسباب العجز الأكاديمي الذي يعاني منه الخريجون في بلداننا، خاصة الراغبون منهم في إكمال تعليمهم أو العمل في الخارج.

وهكذا تترجم الإعاقة اللغوية إلى إعاقة اقتصادية.

حيث يضطر المتخرج إلى بذل مزيد من الموارد للوصول إلى رصيد اصطلاحي كان يفترض بالمؤسسة التعليمية أن تضمّه في منهاجها،

ولم تغب هذه المشكلة عن بال المشغولين بهموم الترجمة والتجديد، حيث قال أحمد شفيق الخطيب، واضع “معجم المصطلحات العلمية والفنية والهندسية” الشهير:

وكنت تمنيت على جامعاتنا [العربية] استحداث برامج دراسية مكثفة لإعداد اختصاصيين في الترجمة ووضع المصطلحات، يكون من شروط الانتساب إليها شهادة جامعية في العلوم أو الآداب، ويرتّب للمنتسبين فيها برنامج دراسي لمدة سنتين، يتلقون فيه دراسة معمقة في أصول اللغتين – لغة الأصل (المنقول عنها) ولغة الهدف (المنقول إليها) – وآدابهما وقواعد القياس والاشتقاق فيهما، ويطلعون على الترجمات الممتازة للروائع التي نقلت من إحداهما إلى الأخرى، ويدرسون دراسة مقارنة المفردات والمصطلحات التي وضعتها المجامع العربية وأصحاب المعاجم ورواد الترجمة.

من المستفيد؟

كما أن الدعوة للاكتفاء بالعربية والانكفاء عليها لا تصب في مصلحة أي طرف إلا دعاة الانغلاق والتراثية المحضة، الذين لا يرون بأسا – بل يطيب لهم في الواقع – أن يعيدوا هذه البلدان إلى عصر ما قبل الطباعة والجامعة، لعل سلطتهم المفقودة تعود إليهم ولا تفلت هذه المرة.

ويمكن للفطن أن يرى هنا فرصة يكسب فيها الحداثيون أرضا مهمة، حيث يمكنهم أن يسوقوا أنفسهم كحماة للغة العربية من براثن الجمود أو الانقراض، ومخلصين لها من ركام النزاعات والتفرعات التي لا يستفيد منها أحد، لكنها حشو أكثر الشروح والتعاليق.

والمشكلة الأهم هي أن الساحة العربية تخلو من جهد منظم لاستيعاب المصطلحات المستحدثة التي تتناثر في طيات الكتب الحديثة (نظرا لاتساع الرقعة التي تتحدث بالعربية أو تستخدمها كلغة كتابة، “من المحيط إلى الخليج” كما كان يقال).

وهي أمر نادى الخطيب بإصلاحه أيضا وتشكيل منظمة عربية للقيام بذلك.

بل بات اليوم أيسر بفضل الإنترنت – الذي يمكن بفضله تقليص الموارد اللازمة (فكل شخص يستطيع أن يساهم بما في رفوف مكتبته من ترجمات، دون الحاجة لإنشاء مكتبة موحدة ضخمة)،

ومع ذلك فنحن لا نعرف شيئا عن جهد بهذا الحجم، ربما لأن الرغبات والطموحات قد كرست للسياسة أو المصالح الخاصة.

من يتحمل المسؤولية؟

ولذلك فإن الاتهامات التي توجه لدعاة التحديث، من أنهم يكرهون العربية ويريدون لها الزوال، أجدر بأن توجه إلى من تركوا مسرح التعريب فوضى عارمة.

كما أن الاتهامات التي توجه لدعاة الأصالة اللغوية، من أنهم يريدون شرنقة العقل في قيود أسلوب ضيق من العصر العباسي، ضلت طريقها عن الخصم الحقيقي: وهم الإداريون المهملون الذين لا يعرفون قيمة مشروع كهذا.

فالعيب في الأصل مؤسسي وليس جوهريا.

يفترض بالشباب المثقف من هذا الجيل أن ينظر لهذه المسألة من جميع أبعادها، معترفا بما تحقق حتى الآن، ومنتبها لما لم يتحقق بعد.

وإن كان البعض يستثقل الاستدراك أو التعقيب بمفرده على جهود جماعية، فليتذكر أن أهم وأكبر الموسوعات في التراث العربي كانت جهدا فرديا.

كما أن توافر المعاجم والمصادر على الإنترنت يعني عمليا أن بوسع المرء اكتساب رصيد لغوي لا مثيل له دون تكلفة تذكر سوى الوقت.

عسى أن تكون هذه النصيحة حافزا للبعض على التقدم، وهي قصارى ما نبتغيه.

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك