وفاة مارسيل نينيو بطلة فضيحة لافون.. دروس في التاريخ والسياسة | مينا منير

وفاة مارسيل نينيو بطلة فضيحة لافون.. دروس في التاريخ والسياسة | مينا منير

29 Oct 2019
مينا منير دقائق

مينا منير

باحث بجامعة لوزان - سويسرا

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

هذا الأسبوع، تناقلت الصحف الإسرائيلية خبر وفاة مارسيل نينيو، إحدى عملاء ما عُرف لاحقًا بخلية فضيحة لافون.. العملية المخابراتية الشهيرة التي فشلت فيها الاستخبارات الإسرائيلية في مصر، لتترك أثرًا بالغًا على الخريطة السياسية في المنطقة.

حياة وشهادة مارسيل نينيو على تلك الحقبة من تاريخ مصر مليئة بالأمور المفيدة حتى في قضايا سياسية معاصرة، كيف؟ هذا ما ستعرفه في هذه المقالة.

العملية سوزانة

إذا كنت شاهدت الحلقة الرابعة في الجزء الأول من مسلسل رأفت الهجان، تبدأ الرواية بعرض تاريخي سليم لأعضاء خلية يهودية تنتمي للوحدة 131 السرية في مصر، والتي كانت تخطط لعمليات تخريبية تستهدف منشآت أمريكية وبريطانية.

غرض العملية (التي سميت سوزانة) كان إحراج النظام الجديد في مصر وتصويره كفاقد للسيطرة، وغير قادر على أن يكون شريكًا مسؤولًا للغرب، وتعطيل إجراءات الانسحاب البريطاني الكامل من مصر. المنفذون اختاروا شهر يوليو، تحديدًا الأيام التي تسبق وتلي عيد الثورة، عام 1954.

اللطيف هنا أن العمليات التي استهدفت منشآت في الإسكندرية تزامنت مع محاولة اغتيال عبد الناصر على يد تنظيم سري آخر، وهو التنظيم الخاص للإخوان المسلمين في نفس الوقت وفي نفس المدينة.

بدءًا من الثاني من يوليو 1954، ينجح أعضاء الخلية في إشعال حرائق في مكتب الاستعلامات الأمريكي في القاهرة، ومكتب البريد الرئيسي في الإسكندرية، ومسرح مملوك لبريطانيا، لكن العملية التي استهدفت سينما ريو يوم عيد الثورة فشلت، بعدما تفاعلت المواد الكيميائية في قنبلة أخفاها الشاب فيليب ناتانسون في بنطاله وأحرقته قبل أن يلقيها في السينما، وبينما كان يحترق تلقفته الشرطة المصرية.

روايات السقوط

الرواية الرسمية المصرية تقول إن ناتانسون اعترف على جميع زملائه بعد القبض عليه، فسقطوا جميعًا وقدموا للمحاكمة.. تلك الرواية لم تجد أصداء إيجابية عند المحللين الذين رأوا أنها غطاء لحقيقة أن جهاز المخابرات العامة المصرية اخترق الخلية مبكرًا وكشف جميع أعضائها.

الاختراق بدأ بتجنيد قائد العملية نفسه: أفري إلعاد الذي صار عميلًا مزدوجًا؛ فقد رصدت المخابرات الإسرائيلية – بعد ذلك بثلاث سنوات – لقاءات بين إلعاد (بهويته الألمانية باول فرانك) وضابط المخابرات المصري وأحد مؤسسي الجهاز عثمان نوري (الذي سيصير لاحقًا سفير مصر في الأردن).

بمقارنة المصادر وشهادات التحقيق، التي لم تُنشر بالعربية إلى الآن، يظهر أن الأدلة لم تكن كافية لإدانة إلعاد، وأنه لم يكن يعرف باقي أعضاء الوحدة 131 لكي يبلغ عنهم؛ فقد كانت معلوماته محدودة بحدود فريق العملية سوزانة فقط وهم خمسة: فيليب ناتانسون، فيكتور ليفي، شمويل عزار، موشيه (موسى) مرزوق وروبير داسا. إذ تخضع عمليات المخابرات دائمًا لمبدأ الـ Decompartmentalisation، أي فصل الخلايا وعدم معرفة قياداتها بأعضاء الخلايا الأخرى داخل الوحدة.

إذاً كيف أسقطت المخابرات أكثر من دستة عملاء، والتي شكلت الوحدة 131 كاملةً؟ الإجابة تكمن في اسم مارسيل نينيو.

الوحدة 131 وفتاة مصر الجديدة

في 1950 أرسلت المخابرات الحربية الإسرائيلية الضابط أفراهام دار تحت هوية ضابط إنجليزي ورجل أعمال يُدعى جون دارلنج إلى مصر لتجنيد كوادر وحدة خاصة للعمليات داخل مصر. يقول دار في حديث أجراه الأسبوع الماضي بمناسبة وفاة نينيو أنه التقى بفتاة يهودية تعمل في إحدى المتاجر الخاصة، جميلة وذكية. صارت المنسق بين مفاصل الوحدة 131 المختلفة، على عكس إيلي كوهين الذي رأى دار أنه كان كثير الكلام وغير صالح لمهمة كهذه.

تلك الفتاة كانت فيكتورين مارسيل نينيو Victorine Marcelle Ninio، من أسرة مصرية يهودية ذات أصول تركية. وُلدت في حي شبرا عام 1929، وانتقلت مع أمها بعد وفاة والدها إلى بيت جديد في تلك الضاحية الجديدة والبعيدة، المسماة مصر الجديدة.

أجادت مارسيل نينيو الإنجليزية والفرنسية وتطلعت لأن تكون جزءًا من الطبقة فوق المتوسطة في حي هليوبوليس، حيث انضمت إلى فريق كرة السلة لنادي هليوبوليس ورُشحت مع رفيقاتها لتمثيل مصر في الأولمبياد.

مع تأسيس دولة إسرائيل استهوتها الأفكار الصهيونية الحماسية حينها، مما أهلها للقاء دار كما سبق.

كانت المهمة الأولى للوحدة نشر دعاية سوداء عن الملك فاروق الذي رآه الجميع عدوًا لإسرائيل. والطريف أن إسرائيل أرسلت أحد أخطر عملائها مائير ماكس بينيت، الذي دخل مصر بدوره كرجل أعمال إنجليزي وصار صديقًا للواء محمد نجيب.

كان دور ماكس بينيت بعد 1953 هو الإمداد المالي للوحدة، وكان معروفًا لمارسيل نينيو فقط وبالاسم الحركي (إيميل). أما خلية العمليات التخريبية فقد أشرف عليها أفري إلعاد الذي دخل مصر كضابط نازي سابق يُدعى باول فرانك، وكان صديقًا لرجال أمن كثيرين بالإضافة إلى القادة النازيين الذين لجأوا إلى مصر للعمل على برنامج الصواريخ السري.

وحدة إلعاد التخريبية تمركزت في الإسكندرية، ونسقت مع البقية من خلال مارسيل نينيو التي كانت تتذرع بتدريبات فريق السلة للسفر هناك.

صفقة الجمال

خلال التحضير للعملية سوزانة، كانت صفقة أخرى تبرم في سجن الزيتون بالقاهرة: كان رجال زكريا محيي الدين يقايضون الشاب اليائس رفعت الجمال بين السجن مدى الحياة أو استغلال قدراته في الاحتيال لاختراق تلك الوحدة.

في إحدى زيارات مارسيل نينيو إلى الإسكندرية للقاء أعضاء في الوحدة يعملون على ملف الدعم المالي، التقت بإيلي كوهين ورفعت الجمال (جاك بيتون) الذي كان يعمل في شركة تأمينات مالية ويساعد من خلالها في إدخال وإخراج الأموال.

هنا كانت نينيو الحلقة الأضعف، فمن خلالها نجحت المخابرات في رصد “إيميل” أو ماكس بينيت من جانب، ووحدة باول فرانك التخريبية في الإسكندرية من جانب آخر.

لم تكن مارسيل نينيو تعرف أكثر مما أوكل لها من مهام الدعم المالي واللوجستي للوحدة، أما العملية سوزانة فكانت تفاصيلها غير معروفة.

في ليلة القبض على فيليب ناتانسون تم القبض على جميع أعضاء الوحدة 131، وليس خلية التخريب فقط، في عملية محكمة لم تكن حتى وزارة الداخلية المصرية تدرك أبعادها، فتظهر التحقيقات أن رجال زكريا محيي الدين من المخابرات لم يُطلعوا الداخلية على كل شيء لكي يظهر تسلسل الاعتقالات من “حادثة” ناتانسون طبيعي.

أصداء الفشل

كانت أصداء الفشل مهولة، فرغم الإنكار المستمر من حكومة إسرائيل، إلا أن الأدلة التي ظهرت تسببت في فضيحة مدوية أسقطت معها حكومة بن جوريون، ووزير دفاعها ورئيسي مخابراتها (الحربية والعامة).

ومع غلظة الأحكام التي أوقعتها المحكمة على الشباب، والتي تضمنت إعدام اثنين، وانتحار ماكس بينيت في السجن، بات الوضع مؤلمًا لإسرائيل.

لا يبالغ الباحثون في اعتبار تلك الفضيحة عاملًا مغيرًا لشكل السياسة في الشرق الأوسط؛ إذ سببت غصة حقيقية في حلق الولايات المتحدة بما جعلها تأخذ موقفًا مضادًا لإسرائيل في حرب 56.

أما خطورة الاعترافات فقد قضت نهائيًا وبلا رجعة على أي مفاوضات وحلول سلمية بين مصر وإسرائيل.

14 عامًا مع الإخوان.. اليسار والوفديين

حُكم على مارسيل نينيو مع آخرين بالسجن 14 عامًا، تعلمت من خلالها حقائق كثيرة تكلمت عنها لاحقًا.

الأولى هي المحنة الأخلاقية لاستغلال طاقة وحماس الشباب بشكل غير مسؤول، فقد شعرت مارسيل أنها غُرِّر بها كما كل هؤلاء الشباب الذين خسروا أفضل 14 عامًا من حياتهم في السجن، وبدون أي محاولة جادة لمساعدتهم. حتى بعد عودتها لإسرائيل فقد قالت ذلك مباشرةً في وجه من جندوها.

أما الملاحظات الأخرى التي شاركها فيها رجال مساجين طرة من الخلية هي كيفية أن استغلال الشباب لم تكن مسألة خاصة بالحركة الصهيونية وحدها. تحكي أنها رأت أفواج نساء الإخوان اللائي سُجنّ معها بعد حادثة المنشية، ثم اعتقالات 1965. وفي كل تلك الحالات رأت كيف أن قيادات الإخوان النسائية كن يعشن حياة أفضل بكثير داخل السجن (كهوانم) بينما شابات الإخوان يخدمنهن.

روبير داسا في سجن طرة أيضًا رأى هذا المنظر، فقد كان يرى كيف كانت سجون أعضاء مجلس قيادة الإخوان كالفنادق مقارنةً بالشباب الذين تلقوا شتى صنوف التعذيب.

صفقتا الخروج

خرجت مارسيل نينيو ومن بقي حيًا من أعضاء الخلية سنة 67 في صفقة تبادل أسرى، وفور وصولها ووجهت بالموقف الجديد الذي يجب أن تخضع له، وهو أن تصمت تمامًا مقابل معاملتها كبطلة وتعويضها.

عوملت بالفعل معاملة جيدة بإعطائها نوطًا ورتبة في الموساد، وحضور جولدامائير ورجال الموساد زفافها. لم تفتح فاهًا إلا سنة 1984 حينما سُمح لها ولأعضاء الخلية أخيرًا بالحديث بالتفصيل.

تفهمت نينيو قواعد اللعبة وقبلت أن تصير أيقونةً للموساد، حتى وإن كان الأمر يتطلب منها الأمر التنازل عن حقها في محاسبة من أفنى شبابها في سجن المزرعة.


حقيقة رأفت الهجان بين التاريخ والسياسة: ١- الرواية الإسرائيلية

شكوك مصرية: هل كان رفعت الجمال عميلًا مزدوجًا؟ | مينا منير

رأفت الهجان بين الحقيقة والخيال: ٢- ملف المخابرات المصرية الذي أبكى صالح مرسي| دقائق.نت

القول الفصل في علاقة الإخوان بحركة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ وحريق القاهرة | س/ج في دقائق


حلقات أخرى من الصراع المخابراتي ستجدونها في مقالات الباحث مينا منير في دقائق


 

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك