في يوليو 1956، أعلن الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس، وهي شركة مساهمة تحت سيطرة المساهمين الأوروبيين، ردًا على قطع التمويل الأمريكي عن السد العالي، بعد أن وقع عبد الناصر صفقة أسلحة ضخمة مع الاتحاد السوفيتي.
كان منطق عبد الناصر بسيطًا: إذا لم يدعم الأمريكيون والبريطانيون السد العالي، فإن مصر ستؤمم قناة السويس وتستخدم عائدات الرسوم لبناء السد.
نسى عبد الناصر قاعدة أساسية في التاريخ: لا شيء أخطر من إمبراطورية على وشك الانهيار. وهنا بالذات كانتا إمبراطورتين.
في 1956، كانت الشمس قد غربت بالفعل على الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية، حتى لو لم تعترفا بذلك، فبعد تعرضهما للإنهاك والإفلاس بسبب الحرب العالمية الثانية، كانت هذه القوى العظمى السابقة لا تزال تكافح للتعامل مع الواقع الجديد المتمثل في أن تصبح مجرد جهات فاعلة داعمة على المسرح العالمي الذي تهيمن عليه أمريكا وروسيا.
بالنسبة لبريطانيا، كانت قناة السويس رمزًا لمكانة الإمبراطورية، وكذلك شريان الحياة لقواعدها في الشرق الأوسط والخليج العربي، وقد ألمح رئيس الوزراء البريطاني أنتوني إيدن إلى أن إسقاط عبد الناصر سيعوض الفشل في إيقاف هتلر في الوقت المناسب في 1938.
بالنسبة للفرنسيين، لم تكن القضية تتعلق بالقناة بقدر ما كانت تدور حول عبدالناصر نفسه، بعدما اتهموه بتسليح المتمردين الجزائريين الذين يقاتلون من أجل الاستقلال عن فرنسا.
في غضون ذلك، احتدم الصراع العربي الإسرائيلي كما هو الحال دائمًا. بعد انتصار إسرائيل في حرب 1948، رعت مصر الهجمات الفلسطينية من سيناء إلى داخل إسرائيل، وسرعان ما ردت إسرائيل عليها.
كان الإسرائيليون مقتنعين بأن حربًا أخرى لا مفر منها مع مصر، وكانوا حريصين على وقف حصار مصر لمضيق تيران، الذي منع السفن الإسرائيلية من الخروج من البحر الأحمر للتجارة مع أفريقيا وآسيا.
في نهاية المطاف، وضعت فرنسا وبريطانيا وإسرائيل خطة - بروتوكول سيفرز - للانقضاض على مصر، تبدأ بغزو إسرائيلي لشبه جزيرة سيناء المصرية.
بعد ذلك، وبغرض حماية قناة السويس، ستصدر بريطانيا وفرنسا إنذارًا لإسرائيل ومصر للانسحاب من منطقة القناة، وعندما ترفض مصر كما هو متوقع، تغزو القوات الأنجلو-فرنسية القناة وتستولي عليها. وقتها سيتعرض عبد الناصر للإذلال والإطاحة به، واستعادة السيطرة الأوروبية على قناة السويس، وستعود الأيام الخوالي لإمبريالية القرن التاسع عشر.
بدأت الحرب في 29 أكتوبر 1956 بعملية قادش الإسرائيلية، التي وضع خطتها رئيس الأركان موشيه ديان، حيث حلقت طائرات موستانج P-51 الإسرائيلية على ارتفاع منخفض فوق سيناء لقطع أسلاك الهاتف بمراوحها، مما أدى إلى قطع الاتصالات العسكرية المصرية.
في الوقت نفسه، أسقطت المظلات الإسرائيلية على ممر ميتلا الاستراتيجي عبر جبال سيناء، وتسابق مظليون آخرون، بقيادة العقيد أرييل شارون، عبر الصحراء للارتباط بهم، كما فعل المشاة الإسرائيليون والدبابات.
وعلى الرغم من القتال العنيف في بعض الأحيان، سيطرت إسرائيل على سيناء في غضون أيام قليلة.
أعطى هذا بريطانيا وفرنسا ذريعة لإصدار الإنذار النهائي. عندما تجاهلت مصر ذلك، بدأت علمية الفرسان (عملية موسكيتير)، والتي وصفها الرئيس الأمريكي أيزنهاور بأنها عملية ميكي ماوس)، حيث شارك فيها حوالي ثمانين ألف جندي، بالإضافة إلى أكثر من مائتي سفينة حربية بما في ذلك خمس حاملات طائرات بريطانية وفرنسية ومئات الطائرات.
بعد تدمير القوات الجوية المصرية في الساعات الأولى من الغزو، هبط المظليون على منطقة القناة، بدعم من مشاة البحرية الملكية قادمين على متن سفينة إنزال برمائية.
كما نفذت طائرات هليكوبتر تحمل جنود من حاملات بريطانية أول هجوم بطائرة هليكوبتر في العالم.
مثل الإسرائيليين، واجهت القوات الأنجلو-فرنسية العديد من القوات المصرية، ووزع عبدالناصر البنادق على المدنيين المصريين للتصدي للغزو.
عسكريًا، نجحت الخطة الأنجلو-فرانكو-إسرائيلية. حيث تكبد البريطانيون حوالي مائة ضحية، وفقد الفرنسيون حوالي خمسين رجلًا، والإسرائيليون حوالي 1,100، وكانت الخسائر المصرية للغزو المزدوج في حدود ثمانية آلاف أو نحو ذلك.
لكن، سياسيًا، كانت كارثة. حيث اندلعت الاحتجاجات المناهضة للحرب في بريطانيا من الجمهور الذي لم يكن في حالة مزاجية كافية للموت من أجل الإمبراطورية، وصُدم آخرون بالخداع والتلاعب الذي تبنته العملية.
ومع ذلك، فإن ما يهم حقًا هو رد فعل القوى العظمى: حذر رئيس الوزراء السوفيتي نيكولاي بولجانين من أن الاتحاد السوفيتي مستعد لإطلاق صواريخ باليستية مسلحة نوويًا على بريطانيا وفرنسا وإسرائيل ما لم تنسحب تلك الدول.
كان هذا خداعًا لأن قوة الصواريخ الباليستية العابرة للقارات التابعة للاتحاد السوفيتي لم تكن إلا دعاية في هذا الوقت.
كان رد فعل الولايات المتحدة صادمًا بنفس القدر. هدد الرئيس أيزنهاور ووزير الخارجية جون فوستر دالاس بفرض عقوبات اقتصادية على إسرائيل إذا لم تنسحب من سيناء.
كما حظرت السعودية الإمدادات النفطية لبريطانيا وفرنسا وكذلك شراء السندات البريطانية، الأمر الذي كان من شأنه أن يدمر الاقتصاد البريطاني.
دعا قرار للأمم المتحدة، مقدم من الولايات المتحدة، إلى وقف إطلاق النار وانسحاب القوات الأجنبية.
الضرر الذي لحق بالغرب كان هائلًا، تضررت العلاقات الأمريكية البريطانية، وتعززت مكانة الاتحاد السوفيتي، واستقال إيدن من منصب رئيس الوزراء البريطاني، واستسلم البريطانيون ولم يعودوا يتصرفون كقوة إمبريالية.
انسحبت إسرائيل على مضض وبدأت تستعد للحرب القادمة التي ستأتي عام 1967، وبدلًا من الإطاحة بعبد الناصر، خلقت المعركة منه صورة بطل في العالم العربي.
كيف بشرت أزمة السويس عام 1956 بنهاية الإمبراطورية البريطانية؟ (ناشيونال إنترست)