باحث بجامعة لوزان - سويسرا
مر الواقع المصري بقوانينه وحواره المجتمعي بمراحل متعددة لإيجاد صيغة تحقق التعايش بين مختلف أطياف الدولة.
مع استقلال مصر والبدء في صياغة دستور 1923، تحاورت أطياف مصر الثلاثة: المسلمون والمسيحيون واليهود لإيجاد تلك الصيغة. ومع مرور الزمن، اختفى موسى باشا قطاوي، أحد أعمدة ذلك الدستور، وطائفته اليهودية، وبقي حسن ومرقس دون كوهين.
في رأيي، بدأت أول محاولة جادة لبدء حوار مجتمعي في هذا الصدد في العقد الأول من الألفية، حينما لاح في الأفق مشروع الحزب الوطني لنقل السلطة إلى جيل جمال مبارك الذي سيقدم من خلاله ما يمكن تسميته برنامج دولة جديدة تعتمد على ركيزتين أساسيتين ومترابطتين: الخروج من العباءة الناصرية بكل مقوماتها الأيديولوجية والاقتصادية من جانب، وتقديم دولة تقدمية ترتكز على الهوية الوطنية فيما سُمي حينها اصطلاحًا بتعبير المواطنة.
تمثل ذلك في رفع سقف الحوار الذي تجاوز “الثوابت” في الإعلام حول قضايا الخصخصة ومواد الهوية في الدستور، وتجسد في تعديلات مارس/ آذار 2007، التي استهدفت مواد بينها الأولى، بالنص على مبدأ المواطنة حرفيًا، والرابعة، بإحلال حرية النشاط الاقتصادي محل النظام الاشتراكي، والخامسة، بمنع تأسيس أحزاب على أساس ديني.
الحركة الإعلامية ذهبت أبعد من ذلك بمناقشة مادة الدستور الثانية، الأمر الذي لا يحلم أقصى العلمانيين تفاؤلًا اليوم بالوصول إليه.
ظهرت حينها مؤشرات عديدة وواعدة في صدد ما سُمي بمشروع المواطنة. أتذكر منهما أمرين حدثا لي شخصيًا بين 2007 و2010، أي قبيل 25 يناير/ كانون الثاني.
في سنتي الجامعية الأخيرة، كنت أكتب من حين لآخر معبرًا عن اهتمامي بمشروع المواطنة الذي تكثف الصحف القومية الكتابة عنه، والذي لم يُسعد المؤسسات الدينية وعلى رأسها الكنيسة التي رأت في أي تحرك يدعم العلمانية داخل المجتمع القبطي (كالجماعة العلمانية) أمرًا يهدد دورها السياسي.
ذات مساء، اصطحبني صديقي هاني لبيب إلى اجتماع مع رئيس تحرير روزاليوسف حينها عبد الله كمال، الذي كان ولبيب عضوين في لجنة سياسات الحزب الوطني.
قيل لي إن المواطنة ليست محل خلاف بين الحزب الوطني والجماعات التي لديها تواؤمات سياسية مع الحركات الدينية، لكن داخل الحزب نفسه بين جيلين لا يعرفان بعضهما. كان يقصد فيما أعتقد جيل جمال مبارك والحرس القديم الذي دأب على هندسة صفقات مع الحركات الدينية.
بدا لي أن نوايا تطبيق المواطنة كقاعدة لما تقدم من سياسات لخليفة مبارك صادقة، يؤمن بها من يريدون الانتقال إلى الأمام داخل الحزب، لكن أزمته كحزب حاكم لا يدير حوارًا حقيقيًا مع المجتمع قد تؤخر ذلك، فيما يمكن وصفه بكلمات فتحي نوفل في طيور الظلام: حزب مش عارف يبقى جماعة (أي بلا أيديولوجية).
بعد ذلك بقليل، قدم محمد البرادعي نفسه كممثل للمعارضة. انطلق من مساجد القاهرة أثناء صلوات الجمعة بصحبة محمد الكتاتني وعصام العريان على يمينه ويساره. الأمر لم يكن مطمئنًا على صعيد مشروع المواطنة.
وفي لندن، نظمت الجمعية الوطنية للتغيير ندوة لتقديم البرادعي للعالم كبديل لمبارك. حضرت وطرحت ثلاثة أسئلة مفصلية لاستكشاف رؤيته لفكرة الدولة المدنية بعيدًا عن الشعارات:
السؤال الأول كان الهدف، أما التاليان فكانا كاشفين إذا ناور فيما سبقهما.
ما إن ذكرت كامب ديفيد حتى انفجر الحضور في وجهي، وكيلت لي اتهامات العمالة، وتجاوز البرادعي أسئلتي، فنشرتها دورية سياسية أمريكية، ومنها وصلت إلى صحف خاصة في مصر.
أمام هذا الواقع، سجل البرادعي الإجابات على موقع الوطنية للتغيير، وكانت كلها تتفق مع طرح الإخوان؛ فكامب ديفيد ستخضع للمراجعة والاستفتاء، والمواطنة تُفهم في ضوء المادة الثانية للدستور، والإخوان جماعة شرعية تمامًا كالحزب الحاكم في ألمانيا.
لا داعي للحديث عما تلى ذلك، فكلنا يعرف أن ما تقدم من أسباب خلق تراجعًا كبيرًا في ملف المواطنة مع وصول أصدقاء البرادعي – أو من أسماهم “شركاء الوطن” للحكم. لكن المشهد التالي كان مفصلياً.
في ضوء إسقاط محمد مرسي في الثالث من يوليو/ تموز، أجرت الواشنطن بوست حوارين متزامنين مع محمد البرادعي والفريق أول عبد الفتاح السيسي.
باختصار، علل محمد البرادعي سقوط محمد مرسي “ليس لكونه إخوانيًا وإنما لأنه لم يحقق ما وعد به”! قضية البرادعي مع حكم الإخوان الكارثي على مدنية الدولة لم يكن أكثر من إنهم لم يبنوا ما يكفي من كباري (جسور)، وبالطبع لم يعطوه قطعةً من الكعكة.
أما الوجه الجديد عبد الفتاح السيسي فقد أطلق كلمات صادمة في إيجابيتها:
التضاد الصارخ بين رؤيتي الحاصل على جائزة نوبل والمحاضر في كبريات جامعات العالم من جانب، ورجل الجيش الذي عاش بعيدًا عن السياسة من جانب آخر، وفي نفس عدد الواشنطن بوست كان واضحًا تمامًا.
بات خروج محمد البرادعي من الساحة – بسبب فض رابعة أو غيره – حتميًا؛ لأن ما حدث في 30 يونيو/ حزيران كان حالة أيديولوجية كما وصفها عبد الفتاح السيسي. فصارت تذكرنا بانتصار الدولة المدنية على ما أسماه السيسي مشروع “الإمبراطورية الدينية”.
بين ميدان رابعة وأورشليم.. المعركة الأخيرة وما بعدها | مينا منير