نهاية عصر العلاج “الكيماوي”| خالد الشامي
في شهر يوليو من عام 1943 وصلت معلومات سرية من مكتب الخدمات الإستراتيجية (الذي تحول بعد الحرب العالمية الثانية إلى وكالة المخابرات المركزية) أن القوات الألمانية قد تستخدم الأسلحة الكيماوية ضد قوات الحلفاء في إيطاليا.
وقرر روزفلت الرئيس الأمريكي وقتها أن الحلفاء سيردون بالمثل. و بالفعل أبحرت المدمرة أمريكية “چون هارڤي” ليلة 18 نوفمبر 1943 من ميناء وهران في الجزائر في اتجاه ميناء باري على البحر الأدرياتيكي في إيطاليا. وكان على متن المدمرة 2000 قنبلة مليئة بغاز الخردل و هو أخطر سلاح كيماوي في ذلك الوقت.
ولم يكن أحد من بحارة المدمرة يعلم بطبيعة حمولتها سوى القبطان. لكن قبل رسو چون هارڤي بدقائق هاجم الطيران الألماني الميناء و أصيبت المدمرة إصابة مباشرة أدت لانفجار حمولتها بالكامل و مقتل 700 بحار و عامل ميناء في الحال.
أما من نجوا فتم نقلهم للمستشفيات. و هناك لاحظ الأطباء أمرا مثيرا. أن الناجين لم يكن لديهم أي خلايا دم بيضاء أو خلايا ليمفاوية. و تم نقل ملفات المرضى بعد رفع السرية إلى جامعة ييل حيث قام علماء العقاقير هناك، بعد إدراكهم أن غاز الخردل يقتل الخلايا البيضاء و الخلايا الليمفاوية، بالتوصل لتعديل التركيبة الكيميائية لغاز الخردل لتطوير عقاقير يمكن استخدامها في علاج سرطان خلايا الدم البيضاء (اللوكيميا) و السرطانات الليمفاوية.
وبالفعل حدث نجاح مبهر في علاج هذه السرطانات بما اصطلح على تسميته بالعلاج “الكيماوي” نسبة إلى غاز الخردل.
في البداية كانت العقاقير الكيماوية تستخدم منفردة و أدى ذلك لنجاحات محدودة. لكن في عام 1973 تم استخدام عدد من العقاقير بجرعات محددة مما أدى لشفاء السرطان الليمفاوي تماما حتى في مراحله المتقدمة. ومنذ ذلك الوقت نجح العلاج الكيماوي في شفاء بعض أنواع سرطانات الدم و الخصية و تحسين نتائج علاج العديد من السرطانات كالثدي والقولون والرئة باستخدام العلاج الكيماوي كمكمل للاستئصال الجراحي أو العلاج بالأشعة.
لكن كان من الواضح أن هناك سقف لنجاح العلاج الكيماوي لا يمكن إختراقه. ذلك أن هذه العقاقير تقوم بقتل الخلايا سريعة الانقسام. و هذا بطبيعة الحال لا ينطبق على الخلايا السرطانية فقط. لأن خلايا نخاع العظام و بصيلات الشعر و الغشاء المبطن للأمعاء تنقسم بسرعة و بالتالي تتعرض لأعراض جانبية شديدة الوطأة كسقوط الشعر و الإسهال و تثبيط حتمي للمناعة قد يؤدي لأمراض معدية تسبب الوفاة.
ظل العلاج الكيماوي بجانب الجراحة والعلاج الإشعاعي في صدارة المشهد منذ خمسينات القرن الماضي وحتى الآن.
لكن في خلفية الصورة كانت هناك أبحاث شاقة ومضنية في محاولة حشد وتجنيد الجهاز المناعي لمريض السرطان لشن ضربات “جراحية” على الخلايا السرطانية في مكانها. بدأت هذه الجهود بملاحظة أحد الجراحين الأمريكيين ويليام كولي شفاء بعض مرضى السرطان بعد إنتشار مرض ‘الحُمرة’ في عنابر أحد مستشفيات نيويورك في عام 1891.
وكان الاستنتاج المنطقي هو أن تحفيز الجهاز المناعي بفعل الإلتهاب البكتيري أدى إلى تراجع السرطان كنتيجة عرضية. لكن لمدة قرن تقريبا باءت التجارب المعملية والسريرية لحشد الجهاز المناعي ضد السرطان بالفشل أو على أفضل تقدير لافت نجاحا محدودا.
نتائج هذه الأبحاث كشفت عن مفارقة، أن الجهاز المناعي للإنسان يحتوي على خلايا ليمفاوية تستطيع قتل الخلايا السرطانية. لكنها لا تتواجد عادة في أماكن السرطان ولا تستطيع الوصول إليه.
ولك أن تتخيل تحرك خلية مناعية من منطقة الصدر إلى منطقة الحوض مثلا يعادل قيام إنسان بالسباحة من لوس أنجلوس إلى سيدني بدون بوصلة.
هذه المعضلة تم حلها في السنوات القليلة الماضية عن طريق استخدام الأجسام المضادة ثنائية النسيلة. و هي عبارة عن جزيء بروتين له ذراعان. يمسك الذراع الأول بالخلية المناعية و بالذراع الثاني الخلية السرطانية.
يتمكن من ذلك عن طريق الالتحام الحصري مع بروتينات معينة على سطح الخلايا المختلفة. هذا الالتحام يؤدي لالتحام الخلية المناعية بالخلية السرطانية، وهذا يؤدي لقتل الخلية السرطانية أينما اختبأت. استخدام الأجسام المضادة ثنائية النسيلة في علاج سرطانات الدم و بعض أنواع سرطان الرئة و سرطان الجلد أدى لنتائج مثيرة في حالات متأخرة من المرض فشل فيها العلاج الكيماوي في إيقاف تقدم السرطان.
تداعيات هذا الكشف الجديد في علاج السرطانات في كافة مراحله ستكون كبيرة. الجهاز المناعي يتمتع بميزات فريدة منحتها له ملايين السنين من النشوء و الإرتقاء. فهو قادر على إنتاج خلايا مناعية بأعداد مهولة و بسرعة عالية.
هو أيضًا قادر على التعرف على الخلايا السرطانية بدقة متناهية ثم إعادة التعرف عليها حين تحاول تغيير شفرتها البيولوجية لتضليل الجهاز المناعي و إجهاض هجومه مع الاحتفاظ “بذاكرة” مناعية طويلة المدى لمنع عودة نمو الخلايا السرطانية (كما هو الحال في المناعة المكتسبة ضد الحصبة مثلا عن طريق التطعيم والتي تمنح المريض حصانة ضد الحصبة مدى الحياة).
والجهاز أيضًا يملك قدرة على التغير والتطور ليواكب وربما يسبق سرعة الخلية السرطانية على التغير والتطور لتقاوم العلاج الموجه تجاهها أيا كان.
هذا الإكتشاف الجديد، واكتشافات أخرى مهمة في مجال العلاج المناعي للأورام يبشر بنقلة نوعية مفصلية في الطريق للقضاء على السرطان أو على الأقل تحييده كمرض قاتل. هذه النقلة هي بداية عصر العلاج المناعي للسرطان، و أقول عصر العلاج “الكيماوي” لهذا المرض قد انتهى.