Post image. ..

هل الولايات المتحدة “منحازة” إلى إسرائيل؟ | خالد الشامي

منذ اندلاع الأزمة الحالية مع عملية حماس في 7 أكتوبر الماضي، تفجرت وسائل الإعلام الناطقة بالعربية بالهجوم على الولايات المتحدة وقيادتها؛ باعتبار أنها انحازت للموقف الإسرائيلي، وسارعت لتقديم العتاد العسكري والغطاء الدبلوماسي لدعم هجوم إسرائيل على قطاع غزة. لكن السؤال المهم هنا هو: هل الولايات المتحدة منحازة بالفعل لإسرائيل، أم أنها – كأي كيان سياسي – في الدنيا منحازة لمصالحها الچيوستراتيچية والإقتصادية والأمنية؟

مصالح الولايات المتحدة العليا تحددت وتبلورت في العامين الأخيرين من الحرب العالمية الثانية، تحت قيادة الرئيس الأمريكي العتيد فرانكلين روزفلت. القيادة الأمريكية في ذلك الوقت رأت أن الحرب ستنتهي حتمًا بتدمير القوة العسكرية والصناعية لألمانيا و اليابان، وأن الاتحاد السوڤييتي يعاني من خسائر بشرية ودمار للبنية التحتية هائلين، وأن الحليف البريطاني يغرق في ديون باهظة من جراء الحرب. ولذلك تحددت الأهداف الإستراتيچية العليا للولايات المتحدة في مرحلة ما بعد الحرب في هدفين: أولًا، أن يصبح العالم آمنًا لنمو وإنتشار الرأسمالية، وثانيًا، أن تتسيد الولايات المتحدة هذا النظام العالمي الجديد. 

يمكن من خلال فهم هذين الهدفين تفسير كل ما قامت به الولايات المتحدة في حصر وتحجيم الشيوعية أثناء الحرب الباردة، ومنعها من التوسع خارج نطاق الاتحاد السوڤييتي وأوروبا الشرقية، وفي إقامة حلف الناتو وإعادة إعمار اليابان وألمانيا وربطهما بالمنظومة الرأسمالية المتصاعدة، ودعم الأنظمة الموالية في إيران وتشيلي وكوريا الجنوبية، وغيرهم كثيرين. 

حرب 1967 وضعت إسرائيل في صميم اهتمام الولايات المتحدة، بعد أن أثبتت إسرائيل نفسها في نصر كاسح في بضعة أيام. قبل 1967، كانت أمريكا على الحياد تقريبًا؛ فهي لم تمد إسرائيل بأي أسلحة ذات قيمة قبل حرب الأيام الستة التي دخلتها إسرائيل بأسلحة فرنسية بالدرجة الأولى. لكن بعد هذه الحرب، قررت الولايات المتحدة مد إسرائيل بأسلحة متطورة تضمن تفوقها على كل المحيط الإقليمي المعادي. 

لكن الولايات المتحدة دعمت الموقف الإسرائيلي إلى الحد الذي يدعم المصالح الأمريكية فقط. وبالتالي، أجبرت الولايات المتحدة إسرائيل على الانسحاب من سيناء في مارس 1957 بعد العدوان الثلاثي، رغم معارضة رئيس الوزراء الإسرائيلي ديڤيد بن جوريون وقتها. ثم ألجمت إسرائيل في نهاية حرب 1973 بعد نجاح العبور المضاد وإطباق الحصار على الجيش الثالث الميداني، بعد أن أخطر وزير الخارجية هنري كيسينجر، رئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير، أن تحطيم الجيش الثالث “وهو كان نية إسرائيل” ليس خيارًا (Is not an option). 

لم يكن هذا “انحيازًا” لمصر، بل إدراكًا لاستعداد القاهرة للتحول من المعسكر السوڤييتي للمعسكر الغربي، بما أدى لإخراج النفوذ السوڤييتي من الشرق الأوسط، والذي كان بمثابة العد التنازلي لسقوط الاتحاد السوڤييتي نفسه في عام 1991. 

وربما يتذكر البعض أن وقف النار في الحرب اللبنانية – الإسرائيلية عام 2006 كان أيضًا بقرار أمريكي، وفي وقت كان سلاح الطيران الإسرائيلي يعربد فوق سماء بيروت ملحقًا خسائر مهولة بالمدنيين وبالبنية التحية في لبنان.

الأزمة الحالية تفجرت في 7 أكتوبر في وقت بأس وخطر على النظام العالمي السابق ذكره، والذي تقوده الولايات المتحدة. هناك تحالف مناهض لهذا النظام أركانه هي الصين وروسيا وإيران ،في مقابل التحالف الأطلنطي. وهناك في المنتصف قوى معتبرة تلعب على التناقضات بين الغرب و المحور الصيني – الروسي – الإيراني المناهض، كالهند مثلًا أو السعودية أو البرازيل. وفي لحظة وصلت فيها المواجهة بين المحورين لنقطة صدام ساخنة في أوكرانيا، تقدمت حماس لتوجه ضربة هي الأقسى والأشد وطأة على إسرائيل منذ قيامها عام 1948. وإذا تذكرنا أن إسرائيل هي ركن رئيسي في المنظومة الأمريكية للهيمنة في المنطقة منذ 1967 (وازدادت أهمية بعد سقوط نظام الشاه في إيران في عام  1979) وإذا لم نتناسى أن حماس هي بشكل ما أحد أذرع الهيمنة الإيرانية على المشرق العربي، فيمكننا أن نتفهم أن موقف الولايات المتحدة منذ البداية وحتى الآن يعبر عن المصالح الأمريكية المهددة على محور شرق أوروبا و بحر الصين الجنوبي وبالطبع الشرق الأوسط.  وبالتالي، فإن تصور أن الموقف الأمريكي هو مجرد “انحياز” لإسرائيل هو – في رأيي – تسطيح مخل للأمور، وتجاهل لكون الولايات المتحدة هي الإمبراطورية الأكبر في التاريخ، وأن مصالحها الكونية تتجاوز بكثير مصالح دولة صغيرة كإسرائيل مهما كانت أهميتها وقوتها وسطوتها في الإقليم.

المشهد في غزة مفزع ويهز الرأي العام العالمي بشكل ربما يكون غير مسبوق، ويشكل ضغطًا هائلًا على الإدارة الأمريكية التي تريد، وفقًا لمصالحها أولًا وأخيرًا، أن تنتهي المعركة بتحطيم البنية التحتية والفوقية لحماس، واستعادة هيبة إسرائيل وقدرتها على الردع. لكن وصول الأمور إلى وضع يجعل استمرار العنف تهديدًا للمصالح الأمريكية نفسها، يعني الوصول لللحظة التي ستتدخل فيها الإدارة الأمريكية لإيقاف الآلة العسكرية الإسرائيلية، حتى لو كان معنى ذلك هزيمة واضحة، ليس فقط لهيبة إسرائيل وسطوة جيشها وأجهزتها الأمنية، بل لفكرة إسرائيل نفسها كوطن آمن للشعب اليهودي.

اخترنا لك

البحث في الأقسام