مُدهش ذلك الأثر الذي أحدثه فيلم Bird Box في الأيام الأخيرة من 2018، زخم يجعله أحد أهم أفلام العام الواجب التوقف عندها.
الأهمية لا تأتي من مستواه الفني، أو من إضافته لجديد في سينما الرعب والإثارة، بل قدر رواجه على شبكات التواصل، وتصدره لعالم الميم (Meme) منذ صدوره وحتى الآن!
الميم وحدة تواصل ثقافي معرفي مغاير للغة المكتوبة والمنطوقة، يمكن القول أنها المعادل الثقافي للجين في علم الأحياء، بحيث تقاس أفضلية الميم بمدى قدرته على التنافس والتوارث والتكيف والتفاعل والتنوع.
لقطة مقتطعة من فيلم أو مسلسل، أو نكتة عابرة، أو نص أو خطاب شهير، أو لزمة لشخصية عامة، وحدات ثقافية يمكن اعتبارها “ميمًا” وفق قابليتها للتعديل، والاستخدام في التعليق عن أشياء من خارجها، وبصفة متجددة.
علاقة الميم بالسينما تحتاج لدراسة أكبر، لكننا تعودنا على أن لقطات الأعمال الفنية أو أفكارها أو جملها الحوارية لا تتحول إلى ميم إلا بشروط، أهمها شهرة العمل الفني، كي يصبح مرجعًا يفهمه الجميع.
Bird Box بات أول عمل فني تصبح ميماته أشهر من المرجع الذي أتت منه! بدرجة أفرزت ميمات مضادة عن أولئك الذين يريدون مشاهدته ليمكنهم ربط واستيعاب كم الميم حوله.
https://www.youtube.com/watch?v=pWV5DRz4lys
أهم أفلام 2019.. 20 فيلمًا ينتظرها الجمهور بحماس
الفيلم أصدرته نتفليكس في 21 ديسمبر، وقالت إنه كسر الأرقام القياسية بتجاوزه 45 مليون مشاهدة في أسبوع، بما يعني أنه كان ليحقق 400 مليون دولار لو طٌرح في دور السينما الأمريكية، باحتساب متوسط سعر التذكرة عند 9 دولارات؛ أي ضعف ما حققته Avengers وBlack Panther بنفس المدة!
ما سبق مجرد افتراض نظري؛ لعدة أسباب:
التحذير دعاية كارتونية للعمل؛ فأي عاقل لن ينتظر تحذيرًا كي لا يقود سيارته معصوب العينين على طريق سريع. حتى بعض المقاطع التي ظهرت قبلها على الشبكة لأشخاص يخوضون التحدي من باب المزاح لم تكن رائجة أو خطرة بما يكفي لإطلاق التحذير.
التحذير منح التحدي شهرة، وكأن رسالته الحقيقية “تحريضية”. بصيغة أخرى:
“أنظروا هذا هو الشائع الآن، أرجوكم لا تفعلوه. لكن تذكروا، هو شائع وخطر جدًا، ويحتاج لشجاعة عظيمة، لكن لا تفعلوه. ربما عليكم مشاهدة الفيلم، يبدو مؤثرًا حقًا، لكن لا تخوضوا التحدي من أجل سلامتكم”!
ما سبق لا ينفي نجاح الفيلم، لكنه يعطينا الحق في إثارة الأسئلة حول مساهمة كبيرة لـ “الفقاعة الدعائية” في تحقيق هذا النجاح؛ فالأشياء لم تجر بترتيبها المنطقي. نعم، نتفليكس لا تحتاج هذا النوع من الدعاية، لكنها بالنهاية مديونة بمليارات الدولارات.
لم أكن يومًا من المتحمسين ضد الشركة، لكن شيئًا يبدو مفتعلًا في تحولها إلى دين جديد في الأسابيع الأخيرة.
Bird Box، الذي يعيد ساندرا بولوك كممثلة ومنتج منفذ، مبني على رواية لجوش ماليرمان، وإخراج سوزان بيير، ذات التاريخ الرائع في السينما الدانماركية.
قصة الفيلم تدور في واقع أبوكاليبسي، بعد تفشي ظاهرة غريبة تجعل سكان العالم يقتلون أنفسهم بمجرد رؤيتهم شيئًا لا نعلم ما هو. قد يكون قوة روحية خفية، أو كائنات متوحشة.
سئُلت المخرجة عن ماهية الشيء المفزع، فأكدت أنه كائن مرعب، ظهر في مشاهد حُذفت في المونتاج. “اكتفينا بردود فعل الشخصيات على رؤيته لأنها أقوى بكثير”.
لا نجاة من رؤية هذا الشيء إلا بأعين معصوبة، أو المكوث في أماكن مغلقة. ومع بداية الظاهرة، تكون بطلة الفيلم “مالوري” حاملًا في طفلها الأول من رفيق غائب.
مالوري انطوائية، تكره التواصل مع الناس، وتعيش لرسم لوحات عن أشخاص يشعرون بالوحدة. بعد 5 سنوات يكون عليها ترك الملجأ، وقيادة قارب نهري مع طفلين أحدهما ابنها، لكنها ستعبر النهر معصوبة العينين!
10 مشاهد صنعت أمجاد هوليوود عام 2018
لا يمكن تناول الجوانب الفنية للفيلم دون مقارنته مع A Quiet Place. المقارنة فرضت نفسها لصدور الفيلمين في نفس العام وبنفس التيمة، التي اعتبرها البعض جونرا فرعية جديدة “رعب الحواس” (Sense Horror).
يستخدم Bird Box الفكرة كمدخل لنوع من الرمزية؛ فهناك الطبقة القشرية من القصة، وهو ما نراه على الشاشة، وهناك طبقة أخرى متعلقة بالبطلة، وكيف ستتعلم من التجربة وتتغلب على نقاط ضعفها المتمثلة في الانطواء، وشبهها الفيلم بالطيور المحبوسة داخل قفصها.
بمجرد أن تتعلم مالوري الحب والعاطفة وتصبح كائنًا اجتماعيًا، تُحل عقدة الفيلم تلقائيًا.
المشكلة أن العقدة العامة لم تكن تتماهى مع أزمة الشخصية، فالحرمان من حاسة النظر ليس التشبيه الأمثل للانطوائية، وهنا فالاستعارة جاءت مشوشة، ولا تصنع العمق المنشود، بل بدت كنوع من التذاكي، ما يجعل الفيلم أكثر سذاجة وسطحية، كما أفقدت الفيلم فرصة استثمار فكرته القشرية بشكل أكثر تكثيفًا.
في A Quiet Place، إخراج جون كراسنسكي، أسرة تعيش في واقع مشابه، مع فارق أن الممنوع في بيرد بوكس كان الإبصار، أما هنا فالممنوع خروج الصوت ولو بالهمس؛ لأن كائنات غريبة تحتل الأرض، وتفترس مصدري الأصوات، أو من تبقى منهم من البشر.
الفيلم لا يلجأ أيضًا للاستعارة، ويكتفي بهول فكرة طبقة قصته القشرية، أن إنسانًا يفقد الصوت، الصياح من الألم، أو التعبير عن نشوة الحب، أو البكاء على الفقد، ناهيك عن اللغة والحديث. الفكرة لم تكن بحاجة لطبقات أعمق، فهي بحد ذاتها تفجر الكثير من الأسئلة والتأملات.
أسباب عدة لتفوق A Quiet Place، بينها الأداء التمثيلي المبهر من إيميلي بلانت، شريط الصوت كان أحد الأبطال، أسلوب السرد الفعال والبسيط رغم خلوه من الحوار، مقارنة بالأسلوب اللاخطي non-linear التائه بين الماضي والحاضر في بيرد بوكس. بناء عالم أبوكاليبسي هنا يبدو أكثر ثراءً وإقناعًا، لم ينقصه سوى ماكينة دعائية بحجم نتفليكس.