في مايو 1950، بدأ إحسان عبد القدوس حملة صحفية ضارية في روز اليوسف، امتدت إلى 23 مقالًا خلال عام واحد.
انطلقت الحملة تحت عنوان "75% من نفقات التسليح تضيع في الهواء"، واتهمت قيادات الجيش بـ"الإثراء غير المشروع عبر التلاعب في صفقات السلاح"، ليس فقط عبر سرقة أموال التسليح، بل "منح الجنود معدات فاسدة"؛ تشمل"قنابل تنطلق إلى الوراء، ورصاص خردة لا يصل إلى صدور العدو".
وأضاف: الضباط والجنود المصريون الذين حاربوا في فلسطين لم تهزمهم جرأة العدو وحنكته، وإنما هزمتهم جرأة موردي السلاح والذخيرة.
في مقالٍ لاحق، اتّهم إحسان أسماءً بعينها من المسؤولين المتورطين في تلك الصفقات المشبوهة، وطالب بمحاكمتهم لأنهم "لم يتقوا الله في مصر".
أدت الحملة مبدئيًا إلى استقالة القائد العام للقوات المصرية حيدر باشا.
تفاعلت بقية الصحف مع حملة "روز اليوسف" وتسابقت في الحديث عن تفاصيل تلك القضية، مثلما فعلت "الوفد" و"المصري أفندي"، ليتحرك البرلمان لتبين الحقيقة، عبر استجواب تقدم به عضو مجلس الشيوخ مصطفى مرعي
وفي اجتماع وزاري صاخب، تقرّر إحالة الملف برمته إلى النيابة العامة.
في يوليو من ذات العام، قدم وزير الحربية مصطفى نشرت، بلاغًا للنائب العام يطلب فيه التحقيق مع إحسان عبدالقدوس في ما نشره من اتهامات لمسؤولي الجيش.
استُدعي إحسان للنيابة، وبعد تحقيقات استمرت عدة أشهر، صدر قرارا اتهام لعددٍ من المسؤولين في قضيتين متوازيتين، الأولى خاصة بجمع الأسلحة القديمة التي خلّفها الحلفاء في الصحراء الغربية إبان الحرب العالمية الثانية، والقضية الأخرى تتعلق بشبهات حول شراء الأسلحة من الخارج.
فور اندلاع حرب فلسطين، أصدر مجلس الأمن القرار 50 بحظر توريد الأسلحة للدول المتحاربة؛ فاضطرت مصر للجوء إلى الأبواب الخلفية.
شكّلت الحكومة "لجنة احتياجات" في مايو 1948م، برئاسة رئيس الوزراء، مُنحت صلاحيات واسعة لاستيراد الأسلحة بأكبر كمية وسرعة ممكنين لمنح التفوق للجيش المصري.
اعتمدت اللجنة على شركات سويسرية ووسطاء إيطاليين، لكن عمليات التوريد شابها العديد من شبهات الفساد، كما أن الذخائر كانت غير صالحة للاستعمال (لا تعمل، لكنها لاتنفجر في أصحابها).
بقيت كافة هذه الأسلحة حبيسة الصناديق داخل المخازن، ولم يكن لها أي دور بالحرب.
التحقيقات كشفت أن "القنابل الإيطالية" التي أشيع أنها فاسدة وقتلت الجنود لم تُسلم للوحدات خلال الحرب، وأن الجنود لم يتلقوا تدريبات كافية على استعمال القنابل التي كانت بحوزتهم.
ونفت التحقيقات تمامًا وجود أي مدافع ترتد قذائفها إلى صدور مستعمليها، فبعدما جرى فحصها تبين خلوها تمامًا من أي عيوب صناعة، كما جرى تجريبها في الواحات البحرية وأصابت أهدافها بكفاءة.
كما ذكر خالد محيي الدين، أحد الضباط الأحرار، في مذكراته، أن قصة الأسلحة الفاسدة استُخدمت كستار لإخفاء فساد نظامٍ بأكمله، فالجيش لم يكن يتدربّ على إطلاق النار إلا مرة واحدة في العام، لذا لم يكن مؤهلاً للحرب على الإطلاق.
في شهادته على الحرب، قال سعد الدين الشاذلي رئيس أركان الجيش المصري خلال حرب أكتوبر، والذي شارك في حرب 1948م، إن الجنود فشلوا في استعمال القنابل فاعتبروها فاسدة!
وهو المعنى الذي أكّدته شهادة أخرى أدلى بها عبدالفتاح أبو الفضل نائب رئيس المخابرات الأسبق: اشتركت كضابط مشاة في جميع معارك فلسطين، وتعاملت مع أسلحة المشاة وأسلحة مساعدة أخرى. لم أتعامل مع أي أسلحة أو ذخائر فاسدة خلال العمليات.
في نوفمبر 1951، برأت المحكمة جميع المتهمين في القضية الأولى (جمع الأسلحة من الصحراء).
أما القضية الثانية فقد استمر النظر فيها إلى ما بعد ثورة يوليو، بعد قرار الضباط الأحرار بإعادة تشكيل هيئة المحكمة.
وفي يونيو 1953، برأت الهيئة القضائية "المُعدّلة" جميع المتهمين في القضية عدا ضابطين أُدينا بالإهمال "الذي لا يصل إلى حدِّ سوء النية" وحُكم عليهما بغرامة بسيطة قدرها 100 جنيه.
تعامل الفن مع أحكام البراءة في تلك القضايا وكأنها لم تكن. وتوالى صدور الأفلام، في عهد ثورة يوليو، التي تعرّضت لحرب 1948، وتعاملت مع الأسلحة الفاسدة باعتبارها حقيقة دامغة.
في 1955، صدر فيلم "الله معنا" للمخرج أحمد بدرخان، والذي لخّص أسباب الهزيمة في الأسلحة الفاسدة، وانتهى الفيلم بخروج الملك من مصر باعتبارها بداية جديدة لمصر ولجيشها بعدما تخلصا من "بؤرة الفساد".
وهو ذات ما تكرّر في فيلم رُد قلبي (صدر عام 1957م)، وتعرّض أحد مشاهده لقصة المقاتل المصري "صلاح" الذي خاض الحرب وقُتل بسبب السلاح الفاسد (نفس المشهد الخيالي الذي وصفه إحسان في مقالاته).
وأيضًا في فيلم "من أحب" (صدر 1982)، الذي أخرجته الممثلة ماجدة، تظهر في أحداثه شخصية التاجر الذي زوّد الجيش بأسلحة فاسدة، ولما علم بتأثيرها على الجنود انتحر!
برغم حُكمي البراءة، إلا أن إحسان عبد القدوس أصرّ على موقفه.
وأكد في مقال كتبه في روز اليوسف في يوليو 1953م، أن "العقبات التي وُضعت في طريق القضية خلال مراحلها الأولى أضاعت الكثير من أدلة الاتهام".
لكن بعد 30 عامًا سيُغير إحسان موقفه من تلك القضية، وسيكتب في مقال بمجلة أكتوبر في أبريل 1982، إنه لم يكن يقصد أن سبب الهزيمة هو الأسلحة الفاسدة.
ويوضح: كنت أقصد النظام السياسي الداخلي الذي أتاح لهؤلاء الأفراد استيراد هذه الأسلحة.
في مذكراته الشخصية، اعترف إحسان بأنه بدأ تلك الحملة متأثرًا بطلب استجواب النائب مصطفى مرعي في البرلمان وأنه لم يكن يمتلك أي أدلة .
كما كشف أن تنظيم الضباط الأحرار اهتمّ باستغلال كتاباته "لإهالة التراب على الملك"؛ إذ استغل الضابط صلاح سالم وجوده ضمن فريق عمل حيدر باشا وزير الحربية، وجمع عددًا من المستندات وأرسل بها إلى إحسان، الذي اجتمع أيضًا بعددٍ من الضباط الأحرار وأخبروه بالعديد من المعلومات التي استغلها في كتابة باقي مقالات حملته.
وخلال مرحلة عملهم الخفية، داوَم الضباط الأحرار في منشوراتهم على استخدام تلك القضية للتعريض بالملك وللتنديد بفساد حُكمه حتى قامت الثورة. بل وتعرّضوا لها خلال الخطاب الذي وجّهوه بِاسم الفريق محمد نجيب إلى الملك فاروق يطالبه فيه بالتنازل عن العرش ومغادرة البلاد.
ولاحقًا، اعتبر عبدالناصر أن تلك الحملة من أسباب قيام الثورة، لذا تمتّع بعلاقة ممتازة بإحسان إلى أن أمر بسجنه بعد عامين من قيام الثورة بتهمة "محاولة قلب نظام الحُكم"!
في 1990م، أصدرت الهيئة العامة للكتاب، التابعة للدولة، دراسة المؤرخ عبدالمنعم الجميعي فنّد فيها أكذوبة "الأسلحة الفاسدة" بشكلٍ تام.
استعرض الكتاب عشرات الأدلة والوثائق وشهادات الشهود، وخلص في النهاية إلى عدم صحة هذه الادعاءات.
أكد الجميعي أن عملية الحرب شابتها العديد من الأخطاء مثل دخول الجيش رغم عدم استعداده، بالإضافة إلى ضعف التخطيط وقلة خبرة القادة العسكريين.
وفي المقابل، أكّد الجميعي أن الأسلحة الفاسدة لم تلعب دورًا أبدًا في هزيمة الحرب، وإنما الفساد في عدم إعداد الجيش وإدخاله معركة لم يستعد لها.
الفيلم السياسي في السينما المصرية، محمود قاسم (كتاب)
فن الكتاب الصحفية، فاروق أبو زيد (كتاب)
الملك والكتابة في الصحافة المصرية، محمد توفيق (كتاب)
والآن أتكلم، خالد محيي الدين (كتاب)
قضية الأسلحة الفاسدة بين 1950 و1990، عماد أبو غازي (بحث)
الأسلحة الفاسدة في حرب فلسطين: الحقيقة والأسطورة: نظرة نقدية، سعاد التهامي (بحث)
الوسائل اللغوية للتأثير والاقناع في مقالات إحسان عبدالقدوس حول قضية الأسلحة الفاسدة، إيمان السعيد (بحث)