أبو هريرة من أكثر الصحابة رواية للأحاديث النبوية. بلغ من عظم تأثيره أن أصبحت قضية السنة وحجيتها قرينة بقضية أبي هريرة وصدقه وعدالته، فلا يستطيع أحد أن يتطرق للسنة بالسلب أو بالإيجاب دون أن يتطرق لمرويات أبي هريرة بالنقد او التأييد.
ظهر هذا حديثًا عندما تعرض المستشرقون أمثال جولدتسيهر وشاخت لمسألة الأحاديث، فشككوا في مرويات أبو هريرة، ثم أخذ منهم أحمد أمين في “فجر الإسلام” وكتب نقدًا موضوعيًا بلغة دبلوماسية مهذبة ومخففة.
ثم انتقل محمود أبو رية إلى النقد الحاد في كتابه الشهير “أضواء على السنة المحمدية” الذي مال إلى إنكار السنة؛ فخصص كتابًا لأبي هريرة بعنوان “شيخ المضيرة” وهو عنوان يحمل نوعًا من الاستهزاء؛ حيث أن المضيرة وهي طبخة لحم باللبن كانت الاكلة المفضلة لأبي هريرة، في تعريض بأنه كان يكذب في الحديث من أجل الطعام.
تبع أبا رية في ذلك كل من كتب في نقده إلى الآن.
منتقدو أبي هريرة ودوافعهم
المعتزلة: المعتزلة تاريخيا هم أول من اتخذوا موقفًا سلبيًا حادًا من أبي هريرة، نابعًا من رفضهم رواية الأحاديث لمخالفتها الكثير من أصول مذهبهم. وأول من نسب له ذلك إبراهيم بن سيار النظام وابن الثلجي والإسكافي. وتبعهم ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة.
الشيعة: شيعة الكوفة الأوائل كانوا يقبلون رواية أبي هريرة. لكن لاحقًا، ومع استقلال المنظومة الروائية الإمامية تحديدًا في زمن البويهي عن المنظومة الروائية السنية ونقدها، اتخذوا موقفًا سلبيًا من أبي هريرة.
القرآنيون: يرفض القرآنيون السنة بالعموم، إلا ما وافق القرآن، ويندرج نقدهم أبا هريرة ضمن هذا الإطار.
المستشرقون: يتسق نقدهم مع طبيعة عملهم في التراث الإسلامي من النقد والتفيكيك وفق آليات معرفية حديثة.
أخطاء منهجية عامة يقع فيها منتقدوه:
بمطالعة كتير من تلك الانتقادات، نجد أمورًا عامة لا ينطبق عليها معايير النقد المنهجي لحديث أبي هريرة.
1- كثرة مروياته تعني كثرة الأحاديث المنتقدة عليه: الموضوع نسبة وتناسب. فكونه أكثر الصحابة رواية تعني بالتبعية أنه سيكون صاحب النصيب الأوفر من الأحاديث التي تحظى بانتقادات؛ فالعبرة ليست بعدد أحاديثه محل الانتقاد، لكن في نسبتها قياسًا على إجمالي مروياته.
2- الأخد على أبي هريرة بحديث طُعن بضعفه أو وضعه: وهو خطأ شائع يقع فيه الجميع. فنقد مرويات أبي هريرة يعتمد فقط على ما أقر المحدثون بقبوله؛ فلا يمكن الاستدلال بحديث ضعيف أو موضوع لأن العلة فيه ليست لأبي هريرة ذاته. وهذ المسألة تحديدًا وقع فيها أبو رية، فروي في نقد أبي هريرة موضوعات ومقطوعات ومرويات غير مسندة من كتب الأدب والتاريخ.
3- وجود حديث مشكل يعني أن لديه موقفًا عامًا: وجود حديث مشكل لأبي هريرة في قضية لا يعني بالضرورة موقفه العام، مقابل أحاديث أخرى تتبنى العكس؛ لاحتمال ضعف أو سوء تاويل ذلك الحديث. أما الموقف العام يستدل عليه بأكثر من حديث. وهذا الخطأ يقع فيه الناقدون الشيعة من خلال تجاهل وإهدار مروياته الكثيرة في فضائل أهل البيت في مقابل رواية مشكلة قد يفهم من ظاهرها انتقاصه من علي بن أبي طالب؛ وذلك للتدليل على تشيعه للأمويين وبغضه لآل البيت.
4 – مشكلة السنة العامة في مرجعيتها وإلزاميتها وتاريخيتها لا وجودها أو تدوينها: هذا أمر طبيعي وعدم استيعاب هذه النقطة من القرآنيين وسائر التنويريين يدفعهم بدلًا من وضع النصوص في سياقها التاريخي إلى الهجوم بالسباب والتجريح باسلوب لا يختلف عن أسلوب المتدينين أنفسهم.
5 – السمات الشخصية والحياة الخاصة مقياس في مسألة نقد المرويات: اعتمد كثيرون من نقاد أبي هريرة على إسقاط عدالته بالتطرق لمسألة فقره، برغم أنه لم يكن يخجل من فقره في بدايات الإسلام، وكونه من اهل الصفة. كما تطرقوا لما عرف عنه من كثرة المزاح وحس الدعابة والفكاهة. وفي ظني أن ذلك كان تواضعًا جعله محببًا من جيل الطبقة. وهذه لفتة خفية تعطي تفسيرًا إضافيًا لكثرة مروياته، حيث يتصدر قائمة من نقل عنهم، فبلغ من روى عنه 800 تابعي على ما ذكر البخاري.
أهم ما يؤخذ على أبي هريرة
1 – كثرة روايته
وهي تهمة قديمه اتهمه بها عمر بن الخطاب وعائشة بنت أبي بكر. وهي نقطة وجيهة لكونه أكثر الصحابة رواية للحديث رغم حداثة إسلامه قبل وفاة النبي بعامين فقط. لكن يُرد عليها بنقطتين:
الأولى: أكثر الصحابة رواية هم الأصغر سنًا ممن تاخرت وفاتهم، مثل أنس بن مالك وابن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وابن عباس؛ وذلك لأنهم الأكثر اختلاطًا بالتابعين، مما كان له أثر في كثرة الرواية عنهم، بعكس جيل كبار الصحابة.
الثانية: عدد أحاديث أبي هريرة بحسب ابن حزم 5,374 حديثًا وفقًا لمسند بقي بن مخلد، علمًا بأنه مفقود، أما ـحاديثه في مسند أحمد 3,870 حديثًا. وبحذف المكرر يصل العدد الحقيقي لمروياته إلى 1,400.
والتصور الذي يمكن أن يحل إشكال كثرة رواياته مقارنة بمدة صحبته، أنه كان يروي ما سمعه من مرويات الصحابة، ويرسلها للنبي مباشرة، بما يوحي أنه سمعها من الرسول؛ لاستحالة ان يسمع هذا الكم في سنتين.
والسبب في إسقاطه للصحابي من السند وتدليسه بالسماع من الرسول، ليكون له شأن التلقي المباشر من الرسول بين كبار الصحابة، أو ربما لم يكن أمرًا غريبًا أن يرسل الصحابي بدون الحاجة للإسناد، خصوصًا أن قواعد الحديث تشكلت لاحقًا.
2 – اختلاق الاحاديث
وهو ما اتهمه به المعتزلة الأوائل والقرآنيون حديثًا. ويرد عليها بنقطتين:
الأولى: أن أكثر من 90% من مروياته واردة من طرق صحابة آخرين وما انفرد بروايته قليل جدًا، وصلت في بعض التعدادات على أقصى تقدير 110 أحاديث، مما ينفي شبهة تعمد الوضع.
الثانية: أنه مقبول الرواية من أغلب طوائف الإسلام السياسي المبكرة (الأمويين والزبيريين والشيعة وحتى الخوارج) بتعدد أهدافهم. وهذا دليل على ذكائه السياسي. أما أول من طعن فيه من الفرق الإسلامية فكانوا المعتزلة.
3 – الاسرائيليات
الخلط بين أحاديث الرسول والإسرائيليات هي التهمة الأقوى. وقد أكدت الرويات المبكرة الخلط بين مرويات كعب الأحبار وأبي هريرة في صحيح مسلم. لكن رواية مسلم تعزو الخلط إلى عمل التابعين.
وفي الحقيقة، وبرغم شهرته بحكاية الإسرائيليات، لا يمكن الجزم بأنه كان لا يتعمد إسنادها للرسول، مع احتمال وجود الخلط فيمن روى عنه. وقد لوحظ فعلًا وجود أحاديث موقوفة مرة على أبي هريرة ومرة مرفوعة في كتب أخرى، مما يؤيد ان الرفع من عمل الرواة.
4 – مولاة الأمويين ومعاداة اهل البيت
هذه التهمة تعتمد على توليه القضاء زمن معاوية. لكن يرد عليها بأكثر من نقطة:
الأولى: أنه اعتزل الفتنة في الجمل وصفين، ولم ينحاز إلى أي طرف.
الثانية: يأتي من طريقة الكثير من أحاديث فضائل آل البيت.
الثالثة: كل ما ينسب له من أحاديث في مدح الأمويين أما ضعيفة أو موضوعة لدى المحدثين.
الرابعة: حديثه كان رائجًا في الكوفة. وروى عنه الكثير من أعيان الشيعة فيها، منهم الأعمش، وعبيد الله بن موسى، وعلي بن الجعد، ومنصور بن المعتمر.
أما موقف الإمامية السلبي منه، فهو موقف متاخر في التأسيس الثاني في الزمن البويهي كما أسلفنا.
5 – غرائب احاديثه
مثل أحاديثه في الطب والغيبيات والملاحم. فأما الطب فيعتمد المعاصرون على تسفيه أحاديثه في الطب برغم انها متسقة مع الطب الشعبي في زمنه، غير أن الطب النبوي ليس وقفًا على أحاديث أبي هريرة فقط، وقد حل ابن خلدون هذا الإشكال باعتبار أن الطب النبوي ليس وحيًا إلهيا، وانما مرتبط ببيئته وأعرافه وقتها.
ومثال ذلك حديث الذباب الذي لم يثر إشكالًا قديمًا، كمان أنه له رواية من راو آخر، وهو أبو سعيد الخدري، بل وموجود في كتب الشيعة عن محمد الباقر.