تاريخ جودة الرعاية الصحية جاء عبر مجموعة مجزأة من الأحداث غير ذات الصلة، لم يأت عبر جهد منظم ومتكامل وذي رؤية.
بدأ العالم أولًا في إدراك أهمية عدم الاكتظاظ وتوفير التهوية، وهو ما توصلت إليه بريطانيا في 1854 على يد فلورنس نايتنجل، حين أصيب جنودها بالكوليرا والإسهال في القرم.
بعد ذلك بسبع سنوات، في 1861 ومع بدء الحرب الأهلية الأمريكية، بدأ تأسيس ما يُسمى اللجنة الصحية كشراكة مع منظمات الإغاثة.
بعدها في 1904، توصلت البشرية إلى النظرية الجرثومية، والتي أحدثت تطورًا في مفهوم الطب، وهو ما أدى إلى اعتماد الممارسات المطهرة من قبل الأطباء والمستشفيات على نطاق واسع.
ثم جاءت الإنفلونزا الإسبانية في 1918، لتجرى تحسينات واسعة في نظام الرعاية الصحية ويصبح وضع الأطباء أكثر تنظيمًا في معظم الدول.
قبل الإنفلونزا الإسبانية 1918، لم يكن للأطباء وضع منظم إجرائيا.. يعملون لحسابهم الخاص، لا جهة دعم، ولا تمويل رسمي سوى بعض الجمعيات الخيرية والتي كانت نادرة في ذلك الوقت.
انعكس هذا في الارتباك العالمي في تقدير أعداد الضحايا في بداية ظهور الأنفلونزا الإسبانية؛ إذ لم يكن على الأطباء إخبار أي سلطة محلية بأعداد المصابين أو الضحايا الذين تعاملوا معهم، ليس هناك وضع قانوني يجبرهم على ذلك، ولا نظام رعاية صحية يعملون تحت مظلته.
وفي بحثه عن أسباب تفشي الأنفلونزا الإسبانية، ألقى المؤرخ الأمريكي ألفريد كروسبي باللوم على الأطباء، قال إنهم مشاركون في أكبر فشل للعلوم الطبية في العصر الحديث.
كان العالم وقتها مكانًا مختلفًا عما يبدو عليه اليوم، لم يكن هناك أساس لنظم الرعاية الصحية في جميع أنحاء العالم الصناعي. وكان غياب التمويل يعني غياب الأبحاث الضرورية لتطور المهنة.
وقتها كانت العلاجات الشعبية تملأ الأسواق والمنازل، حتى أن أطباء تقويم العظام كانوا يتدخلون لعلاج الأنفلونزا الإسبانية، دون آلية تنسيق أو مظلة تعاون، أو فهم حقيقي لما يصيب العالم وقتها.
لكن حجم الكارثة التي سببتها الأنفلونزا الإسبانية دفعت بعض الدول لإدارك أهمية المجتمع الطبي، فكانت أولى محاولات تأسيس نظم الرعاية الصحية وتطور مفهوم الطب المجتمعي وعلم الأوبئة (حتى الأنفلونزا الإسبانية، كان الأطباء يعتقدون أنهم يتعاملون مع مرض بكتيري).
بدأ الاتحاد السوفيتي عام 1924 بصياغة رؤية سميت بـ "طبيب المستقبل" تهدف لإعداد كوادر طبية قادرة على دراسة الظروف المهنية والاجتماعية التي تؤدي إلى المرض، واقتراح طرق الوقاية منه وليس فقط أساليب علاجه.
بدأ الأمر ينتقل إلى دول العالم تدريجيًا. في 1925 كانت جميع الولايات الأمريكية مشاركة في نظام وطني للإبلاغ عن الأمراض والإنذار المبكر، وأجري أول مسح طبي وطني في العالم.
وبدأت الدول في إنشاء ما يسمى بأول مرة بـ "وزارة الصحة" وأصبح للأطباء وضع قانوني ورسمي
عرف العالم أيضًا ماذا تعني التدخلات غير الطبية، مثل إجراءات الغلق، ومنع التجمعات، وعزل المصابين، وثقافة النظافة الشخصية،
ستيفان إي بامبوتشيان، أستاذ علم الخلايا بجامعة لويولا بشيكاغو، راجع البيانات والبحوث المنشورة وقت انتشار الأنفلونزا الإسبانية، فوجد أن مدنًا كشيكاغو وسانت لويس وميلووكي وكانساس سيتي، والتي تبنت إجراءات عزل ووقاية مبكرة، والتي كانت تطبق لأول مرة، انخفضت نسب الإصابات بها إلى حوالي 50% ووفيات أقل من 30%.
من هنا باتت التدخلات غير الطبية، محور استراتيجيات مواجهة العالم لأي وباء جاء في ما بعد، ولا زالت تطبق حتى الآن..
التحسن لم يقتصر على وضع الأطباء. الأنفلونزا الإسبانية مثلت نقطة انعطاف فيما يتعلق باستجابة العالم الوبائية، وتقنين أوضاع الأطباء، وتنامي التدخلات الطبية الحيوية المتمثلة في تطوير اللقاحات والأمصال.
قبلها، كانت الوفاة بسبب أمراض معدية أمر طبيعي، لكن وباء 1918 جعل العالم يوجه تركيزه ناحية علم الطب البيولوجي وعلم الجراثيم اللذين شهدا تطورا كبيرًا، فتح الباب أمام اكتشاف اللقاحات والأمصال، والتي باتت أيضًا محل تركيز العالم في مواجهة سلالات الأنفلونزا.
التطور الأهم، كان في فهم أهمية التعاون الدولي في مواجهة الأوبئة والأمراض المستوطنة، وهو ما تبلور في منظمة الصحة العالمية والتي كانت نواتها الأولى افتتاح المكتب الدولي لمكافحة الأوبئة في فيينا عام 1919.