أول المنهارين نفسيًا من ثقل الهزيمة كانوا قادة مصر وسوريا أنفسهم.
المؤرخ باتريل سيل في كتابه عن السيرة الذاتية للرئيس الراحل حافظ الأسد، يكشف أن الأسد (كان حينها وزيرًا لدفاع سوريا) عاش كابوسًا فور اندلاع الحرب، فوقع مغشيًا عليه في مقر وزارة الدفاع، ثم اعتكف في بيته 3 أيام فور انتهاء المعارك، وامتنع عن رؤية أي أحد.
ذات السيناريو حدث مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر. وفقًا لكتاب "الأسرار الشخصية لجمال عبد الناصر" القائم على رواية مدير مكتبه محمود الجيار، فإن عبد الناصر ما أن علم بأنباء الضربة إلا وعاد إلى بيته واعتصم في غرفته 3 أيام، لا يرى أحدًا ولا يراه أحد.
استغرب الجيار من موقف عبد الناصر. كتب:
"أصبح موقفه هذا لغزًا محيرًا، أحاول عبثًا أن أفسره لنفسي. هل انهار عبد الناصر؟ هذا شيء لا أتصوره، ومع ذلك فها هو معتصم في حجرته لا يشارك في حرب تهدد بلاده وثورته ومستقبل شعبه، وعاش السؤال بلا جواب حتى مساء 7 يونيو، عندما خرج عبد الناصر فجأة من غرفته وقد تحوّل إلى شخص آخر؛ كان شديد المرح وكان يضحك!".
قائد مصري آخر لم يعرف الضحك منذ اندلاع الحرب، هو قائد القوات المسلحة عبد الحكيم عامر، الذي ما أن بلغته أنباء الخسائر المتلاحقة التي تعرّض لها الجيش في سيناء حتى حاول قتل نفسه.
يحكي محمد حسنين هيكل في كتابه "الانفجار"، أن عبد الحكيم عامر خلال هذه الفترة عانَى من درجة متقدمة من التدهور النفسي، فكان سريع الانتقال من حالة النشوة الشديدة إلى حالة الاكتئاب والإحباط الشديدين، ولهذا لم يكن الانتحار بعيدًا أو غريبًا عن تفكيره.
في 8 يونيو حاول عامر الانتحار داخل مكتبه فمنعه ضباطه وانتزعوا منه المسدس، وعندما أخبر شمس بدران هذا النبأ إلى الرئيس عبد الناصر ذهب إليه جمال وترجاه ألا يضيف الفضيحة إلى المصيبة.
وفي النهاية لم تنقضِ أيام النكسة إلا بعد أن أزاحت عبد الحكيم عامر ورجاله من المشهد السياسي المصري للأبد.
حالات الانهيار النفسي بسبب النكسة وصلت إلى قطاع كبير من الفنانين المحسوبين على عبد الناصر، مثل: أم كلثوم وصلاح جاهين ويوسف إدريس وغيرهم. وكلهم وصلوا لنفس الحالة تقريبًا؛ الانعزال والاكتئاب وعدم الرغبة في التعامل مع الناس.
حتى الفنانين غير المحسوبين على عبد الناصر مروا بأزمات مشابهة. فاتن حمامة تحكي، في حوار تليفزيوني:
"كان يوم ٥ يونيو ١٩٦٧ أسوأ الأيام على امتداد العمر، لا أستطيع أن أحكى مشاعري، فالحزن والانكسار وحجم الدمار الذي لحق بأنفسنا بلا حدود، لقد أصبت بالذهول، لم أصدق ما حدث، شعرت بأنني لم أعد أنا، كل شيء تحطم في داخلي، تحطم كبريائي واهتزت ثقتي في كل شيء".
وأضافت:
"اختفيتُ من حارسة المنزل شهرًا كاملًا حتى لا أراها، وعندما كنت أقابل الناس بعد ذلك، كنت أقول: (أنا تركية)، وكان المصريون كلهم كذلك، الأسمر يقول أنا هندي، والأبيض يقول أنا تركي، هل تعرف معنى ذلك؟.. إنه الانهيار التام، أن تُخفى جنسيتك، أن تفقد المعنى، لم تكن هزيمتنا هزيمة جيش في معركة، بل هزيمة الوطن داخل أنفسنا".
وفقًا لكتاب "مثقفون وعسكر"، تعددت ظواهر انتشار المرض النفسي بين قطاع واسع من المصريين فور وقوع النكسة؛ ارتفعت معدلات استهلاك المهدئات والمنبهات بشكلٍ ملحوظ، لتمثل 3% من جملة الاستهلاك الدوائي 1970.
وارتفع عدد المصابين بأمراض نفسية وعقلية من 50 ألفًا في 1966 إلى 66 ألفًا في 1967، ثم 79 ألفًا 1968، ثم 94 ألفًا عام 1969، حتى بلغت 140 ألفًا عام 1970.
وكشف تقرير أمني مصري، أن حالة التوتر النفسي التي عانى منها ملايين المصريين بعد النكسة أدت لزيادة الجرائم الجنائية بنسبة 8%.
وانتبه التقرير إلى أن الجرائم التي تتضمن سلوكًا عدوانيًا متحديًا للسُلطة أو ضد الآخرين زادت بشكلٍ غير مسبوق، ففي العام 1968م ارتفعت جنايات تعطيل المواصلات بنسبة 300% وزادت السرقات بنسبة 99% وجرائم الضرب المفضي إلى الموت بنسبة 32%.
حالة الانهيار التام وانعدام الثقة بالنفس التي سقط فيها المصريون دفعتهم إلى جلْد أنفسهم بأي وسيلة، فانصرفوا إلى الأعمال الشعرية التي أنتجها فنانو اليسار لتهزأ من خيبة الهزيمة بلا رحمة مثل أغاني الشيخ إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم ورباعيات نجيب سرور البذيئة التي لاحقت رموز كافة عبد الناصر بوابل مقذع من الشتائم.
لم تكن هذه القصيدة أقل قسوة من النكات التي أغرق بها المصريون جيشهم يسخرون فيها من ضعفهم العسكري المتناهي أمام إسرائيل،
ووفقًا لكتاب "النكتة السياسية" لعادل حمودة، فإن عبدالناصر ناشد المصريين بالكفِّ عن هذه النكات في خطابٍ رسمي، اعتبر فيه أن هذه النكات "جارحة للكرامة" وحذّر من استغلال "الأعداء" لها كي يحققوا أهدافهم.
بعد النكسة بشهرين، وخلال استعداد أجهزة الإعلام الرسمية للاحتفال بشهر رمضان، صدر توجيه من عبدالناصر، بأن تُحاول أجهزة الإعلام الترفيه عن الشعب الذي يمرّ بحالة عامة من الاكتئاب النفسي.
كانت هذه البداية لظهور الفن الكوميدي الاستهلاكي مثل "شنبو في المصيدة" (1968م) و"العتبة جزاز" (1969م) وغيرها من الأعمال التي قدّمت شكلاً سهلاً من الكوميديا التي اعتقد المسؤولون أن المصريين بحاجة إليها في هذه الأجواء السوداء التي يمرّون بها.
في هذه الأجواء، زار مسؤول حكومي كبير الكاتب المسرحي الكبير ألفريد فرج، وطلب منه أن تكون أعماله المقبله مثل الأعمال الهزلية التي كان يقدّمها الفنان الكوميدي أمين الهنيدي (قدّم في عام 1967م فقط 4 مسرحيات متتالية)، وبشكلٍ مباشر قال المسؤول الحكومي لألفريد "شايف مسرح الهنيدي.. عايزين من دا؟".
وهو ما يتّفق مع شهادة الممثل الكوميدي جورج سيدهم الذي أكد في حوار تليفزيوني، أنه بعد النكسة "حالة البلد كانت وحشة قوي"، وكشف أن محافظ الإسكندرية عرض عليه تكوين فرقة كوميدية وتقديم عروض على مسرح الشاطبي،
وكنوعٍ من التشجيع دعّم المحافظ فكرته بتقديم دعم نقدي يومي للفرقة قدره 30 جنيهًا، ومن هذا الموقف انطلقت أولى عروض فرقة "ثلاثي أضواء المسرح"، التي امتازت بأعمالها الكوميدية الخفيفة التي تفتقر إلى الثقل الدرامي.
ولا يُمكن إغفال أن فترة النكسة، ما بين حربي يونيو وأكتوبر، تضمنت عرض فيلم "خلي بالك من زوزو" بطولة سعاد حسني، والذي وفر التزامه بتقديم الخلطة الكوميدية الخفيفة المدعمة بالأغاني والاستعراضات، ما يكفي أن يكون أحد أنجح الأفلام في تاريخ السينما المصرية، ليكون خير معبِّر فنّي عن تلك المرحلة.
بين ليلةٍ وضحاها، فقد المصريون إيمانهم بأنفسهم وقادتهم. آمنوا بأنهم يُواجهون عدوًا مرعبًا هائل القدرات لا سبيل إلى هزيمته بجيوشهم الضعيفة وعتادهم الحربي الذي لا يُضاهَى أمام أسلحة إسرائيل الحديثة
فكان البديل المنطقي أمامهم هو مناشدة السماء بحثًا عن معجزة، وهو المسار الذي تكالب المصريون على السير فيه مسلمين ومسيحيين.
في كتابه "هتاف الصامتين"، ربط الدكتور سيد عويس بين الهزيمة وبين عودة اهتمام المصريين باستدعاء الرموز الدينية في حياتهم.
أجرى سيد عويس دراسة بدءًا من سبتمبر 1967م وحتى آخر أغسطس 1970م وثّق فيها العبارات التي كتبها السائقون على هياكل سياراتهم، بعدما اعتبرها وسيلة "تعبير شعبي" توثّق أشكال "الهتاف الصامت" الذي مارسه أصحاب السيارات ضد خسارة سيناء.
وثّق عويس شيوع استخدام السائقين عبارات تستليذ بالله مثل "يارب سترك" و"يارب رضاك" و"الله أكبر النصر للعرب" و"الرب راعي فلا يعوزني شيء"،
وأخرى تدعو إلى الصبر والرضى بالقضاء، كما جرى الإفراط في الاستعانة بالرموز الدينية في السيارات كأيقونات العذراء والمصاحف.
بعض السيارات حملت هياكلها عبارات سياسية قحة مثل "فلسطين عروس ومهرها الدم" و"هنحارب ومش خايفين".
كما كشف عويس في دراسته "رسائل المصريين إلى الإمام الشافعي"، أن عددًا من المصريين كانوا يتضرعون إلى الإمام الشافعي، ويرسلون البرقيات إلى ضريحه لإنقاذهم من إسرائيل.
يقول نص إحدى الرسائل التي استخرجها عويس من صندوق المقام: "أرجو عقد جلسة شريفة يحضر فيها معه (يقصد الإمام الشافعي) سيدنا الحسين وسيدنا الحسن والست زينب أم هاشم وجميع أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ويطلبون من الله مسح إسرائيل اليهود وإزالتها من على وجه الأرض المقدسة في هذا الأسبوع والرد يفاد حالاً بإذن الله".
وكان التجلي الأكبر لهذه الحالة هو الإعلان عن ظهور السيدة العذراء أمام كنيسة في حي الزيتون بالقاهرة في عام 1968م، وهو الحدث الذي استغلته أجهزة الدولة للترويج على أن مصر دولة "غير مغضوبٍ عليها" وتتلقى مددًا من السماء رغم هزيمتها المنكرة أمام إسرائيل.
يقول صادق جلال العظم في كتابه "نقد الفكر الديني"، إن البابا كيرلس الساس أعلن في مؤتمر صحفي حضرته كافة وسائل الإعلام المحلية ظهور السيدة العذراء فوق كنيسة الزيتون، وعرض صورة غير واضحة لكتلة من النور يسبقها زوجان من الحمام!
وفقًا لتغطية الصحف وقتها، تكالب قرابة 40 ألف مصري على الكنيسة لرؤية لسيدة مريم، ورابطوا في الشوارع طوال اليوم،
لم يرَ أحد شيئًا، وبالرغم من ذلك واصلت أجهزة الدولة بأسرها حديثها المتكرر عن المعجزة، ولم يخلُ ذلك من استغلال سياسي صريح، تجلت أوضح معانيه في تغطية صحيفة الأهرام للحدث باعتباره:
"علامة سماوية بأن الله معنا ولم يتركنا. فنحن نسمع من يونيو الماضي أن الله تخلّى عنا، ولولا هذا ما وقعت النكسة، ولكن هذا الظهور وقد تم علنًا، يعني أن الله معنا وأنه سيكون في نصرتنا، وليشعر الكل بأن هذه الأزمة طارئة فقط، وأن السماء ما زالت في نصرتنا. كما أن هذا الظهور قد يعني أن السيدة العذراء لا ترضى عما ارتكبه ويرتكبه اليهود في الأراضي المقدسة".