منذ ظهوره في القرن السابع الميلادي، رأت أوروبا المسيحية في الإسلام مصدر تهديد مستمر. ولألف عام، تصاعدت المخاوف والكراهية مع توسع الإمبراطوريات الإسلامية التي وصلت أوروبا أخيرًا.
الدولة العثمانية - باعتبارها نقطة الاتصال وتغيير الموازين بين العالمين - لعبت دورين حاسمين في هذا الصدد:
1- إضعاف الشرق ذي الأغلبية المسلمة: شنت فرنسا حملتين عسكريتين على مصر، بينهما قرون من الركود والانحدار تحت حكم الدولة العثمانية، والنتيجة اختلاف جوهري في النتائج: في 1248، ظهرت القوات الفرنسية والمصرية على قدم المساواة. لكن في 1798، كان الميزان قد تحول بشكل كبير لصالح فرنسا.
2- زرع مزيد من الكراهية: الدولة العثمانية لم ترحل إلا بعدما تركت إرثها في معتقدات الغرب حول الإسلام. رئيس الوزراء البريطاني وليام جلادستون وصف الأتراك في كتابه "الأهوال البلغارية ومسألة الشرق" عام 1876، بأنهم "النموذج البشري الضخم المعادي للإنسانية. أينما ذهبوا، كان هناك خيط واسع من الدم يميز الطريق وراءهم، وبقدر ما بلغوا بسيطرتهم، اختفت الحضارة عن الأنظار".
في 1699، وقعت الإمبراطورية العثمانية معاهدة كارلوڤجي مع العصبة المقدسة بعد هزيمتها وتراجع نفوذها في شرق أوروبا. وبحلول عام 1700، تحول المسلمون لأول مرة إلى موقف دفاعي أمام تفوق عسكري واضح استغله الأوروبيون بشغف.
استمرت الحروب الأوروبية لقرن ونصف. بدأت في 1764 عندما احتلت شركة الهند الشرقية البنغال، واستمرت حتى 1919، عندما حكمت أوروبا جميع الأراضي ذات الأغلبية المسلمة باستثناء تركيا وإيران وأفغانستان والجزيرة العربية واليمن، بينما وقعت مناطق أخرى ذات أغلبية مسلمة تحت السيطرة التايلاندية والصينية.
الدول المحدودة التي بقيت خارج السيطرة الخارجية لم تكن صدفة ولا نتيجة قوتها العسكرية: توازن القوة الأوروبي سمح لتركيا وإيران وأفغانستان بالبقاء مستقلة، بينما لم تر الطموحات الإمبريالية الأوروبية فائدة تذكر حينها من احتلال شبه الجزيرة أو اليمن.
في المجموع، غزت 12 دولة أوروبية حديثة (بريطانيا - البرتغال - إسبانيا - فرنسا - بلجيكا - هولندا - الدنمارك - السويد - ألمانيا - النمسا - إيطاليا - اليونان) و4 دول أخرى ذات أغلبية مسيحية (روسيا - إثيوبيا - الفلبين - الولايات المتحدة) الأقاليم التي تضم أغلبية مسلمة.
كل هذه القوى تنافست بشراسة على السيطرة على الأراضي الجديدة، وغالبًا ما ذهبت إلى الحرب فيما بينها على تقاسم النفوذ، مما يشير إلى أن هذا الهجوم وقع دون خطة أو مؤامرة.
وعلى عكس النظام القديم، باتت أوروبا تحاصر المسلمين الذين أصبحوا بلا حول ولا قوة.
في هذه اللحظة، بحسب المؤرخ هنري دودويل، تبددت مخاوف المسيحيين التقليدية بشأن الإسلام، مع إحساس متزايد بدونية المحتلين العسكرية حمل معه العديد من النتائج الأخلاقية:
تحول المسلمون بالنسبة لمعظم الأوروبيين من قوة متأهبة لتدمير العالم المسيحي إلى حفنة من الشعوب الفقيرة البائسة المتخلفة التي تحتاج للبقاء تحت الوصاية الأوروبية.
التغيير ترك تأثيرًا على السياسة الخارجية. الولايات المتحدة الوليدة أعلنت في معاهدة 1796 أنها لا تحمل أي عداوة تقليدية لأي دين. والمستشرقون مثل ويلفريد سكوين بلنت في مصر والسودان أو إدوارد جرانفيل براون في إيران أظهروا تعاطفًا مع المسلمين الذين يقاتلون الحكومات الأوروبية.
التغيير في ميزان القوى حدث بالتزامن مع تراجع التدين المسيحي لصالح العلمانية التي قلصت بقايا عداء العصور الوسطى، مما سمح بتباين وجهات النظر عن الإسلام، وتراجع العداء المسيحي التقليدي. ليظهر جيل من التنويريين رأوا أن الإسلام ليس أسوأ من المسيحية، تحول لاحقًا إلى مدح "العدو القديم".
المؤرخ توماس كارليل وصف النبي محمد بـ"البطل" بينما أطلق عليه جورج برنارد شو لقب "الرجل الرائع.. مخلص البشرية"، كما فضل بعض المفكرين، بما في ذلك فولتير ونابليون بونابرت، الإسلام على المسيحية.
الانفتاح الجديد أدى لإعادة تقييم جديد: المستشرقون مثل إدوارد لين درسوا الإسلام والمسلمين بروح موضوعية.
والصوفيون مثل لويس ماسينيون انخرطوا بعمق في الإسلام والعقيدة.
بينما اعتنق المالكونيون مثل القديس جون فيلبي الإسلام كوسيلة للاحتجاج.
هذه الروح الجماعية أثرت على المواقف الشعبية تجاه المسلمين، والتي أصبحت أقل عدائية وانفعالية.
وعندما حلت المواقف الغريبة الجديدة محل القلق المهووس، تحول الشرق الإسلامي لأول مرة إلى رواية رومانسية.
بدءًا من اللورد بايرون، ذهب الأرستقراطيون الشباب إلى الشرق بحثًا عن نوع جديد من المغامرات. ريتشارد بيرتون زار مكة والمدينة سرًا، كما اكتسبت مدرسة الرسم الاستشراقي، بقيادة يوجين ديلاكروا، شعبية واسعة، بينما أصبحت ألف ليلة وليلة مصدرًا مفضلًا للخيال، وحولت روايات الحياة العربية إلى نفخة رومانسية.
الآراء الإيجابية ظهرت فقط طالما بقى المسلمون دون تهديد.
لكن الآراء القديمة كانت جاهزة للعودة أية لحظة مع حركات الاستقلال المصبوغة بصبغة إسلامية في مواجهة "النبضات الكامنة للحروب الصليبية" التي جلبتها الإمبريالية الحديثة الساعية لاستعادة الأراضي التي كانت مسيحية قبل انتصارات المسلمين،.
قاوم المسلمون عمومًا الحكم المسيحي الجديد بضراوة شديدة. وكما يقول المؤرخ نورمان دانيال: "زادت الإمبراطوريات من الشك الموروث عن الإسلام."
وبينما العالم الإسلامي كله تقريبًا في يد الأوروبيين خلال قرن ونصف، فإن الاستقلال عن أوروبا جاء بسرعة أكبر، معظمه في فترة العشرين عامًا 1945-1965، بالتزامن مع تألق الحركة الإسلاموية، ليعود الخوف القديم من المسلمين بعدما تراجع إلى الظل سنوات
لوثروب ستودارد، اعتبر أن "عالم الإسلام، الساكن عقليًا وروحانيًا لما يقرب من ألف عام، عاد مرة أخرى إلى المسيرة"،
بينما اعتبر الجغرافي الأمريكي إشعياء بومان أنه من بين المشكلات التي تواجه الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية "لا شيء واسع النطاق، ولا شيء مصيري، مثل مسألة السيطرة على السكان المحمديين كثيري العدد والمتطرفين".
وفي 1946، اعتبر تقرير للمخابرات الأمريكية أن "الدول الإسلامية تمثل تهديدًا محتملًا للسلام العالمي".
في مقابل المخاوف الغربية، شهدت عشرينيات القرن الماضي حركة استشراق جديدة متوسعة بشكل خاص بين السود في الولايات المتحدة، حيث رأوا في الإسلام طريقًا إيجابيًا للهروب من التمييز العنصري.
وبداية من نوبل درو علي ثم ود فارد وإليجا محمد ومالكولم إكس ولويس فاراخان، طورت مجموعة من الشخصيات الكاريزمية نسخًا شعبية من الإسلام اتخذت أشكالًا مختلفة، بما في ذلك معبد العلوم المغاربي في أمريكا، وحركة أمة الإسلام.
هذه الحركات الجديدة لا تشترك كثيرًا مع "الإسلام المعياري" الذي نزل في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع، لكنها كانت بمثابة جسر بين المسيحية والإسلام لمئات الآلاف من السود.
مع اندلاع الثورة الإسلامية في إيران 1979، رأى اليسار الأوروبي في المسلمين قوة بإمكانها الاتحاد "أو الحلول مكان" الطبقة العاملة في إسقاط النظام البرجوازي، ومن هنا بدأ تشكيل التحالفات مع الإسلاميين.
المفكر الفرنسي اليساري ميشيل فوكو ابتهج بما شاهده بنفسه في إيران ووصف آية الله الخميني بأنه "قديس".
المدعي العام الأمريكي السابق رامسي كلارك أبدى دعمه علنًا في زيارة إلى الخميني. كما ذهب اليساريون البارزون في أمريكا اللاتينية، مثل فيدل كاسترو، وهوجو شافيز، وكاميلو نجل تشي جيفارا، لتقديم فروض الصداقة إلى طهران.
هجمات 11 سبتمبر جذبت إشادة مماثلة.
الملحن الألماني كارلهاينز ستوكهاوزن وصفها بـ "أعظم عمل فني للكون بأسره" واعتبر الروائي الأمريكي نورمان ميلر مرتكبيها "رائعين".
وبنفس الروح، زار نعوم تشومسكي زعيم حزب الله حسن نصر الله وأيد برنامجه المسلح.
وفي حملته لمنصب رئيس الولايات المتحدة في 2004، اقتبس دينيس كوسينيتش آيات من القرآن ، وحث الجمهور على ترديد "الله أكبر"، معلنًا بفخر أنه يحتفظ بنسخة من القرآن في مكتبه،
بينما اتخذ عدد من اليساريين المعروفين، وبينهم لورين بوث، راب براون، كيث إليسون، جورج غالاوي، روجر غارودي، إيفون ريدلي، إليش راميريز سانشيز، وجاك فيرجيس، الخطوة التالية، بإعلان التحول إلى الإسلام نفسه.
التحالف اليساري الإسلاموي (أو الأحمر والأخضر) له عدة قواعد:
أولًا: يشترك الطرفان في خصم وجودي مشترك، لا سيما أمريكا وبريطانيا وإسرائيل، بالإضافة إلى المتدينين من غير المسلمين، والرأسماليين.
إيليتش رامبريز سانشيز جادل بأن "تحالف الماركسيين والإسلاميين وحده هو القادر على تدمير الولايات المتحدة".
ثانيًا، يشترك اليسار والإسلاميون في أهداف سياسية محددة: كمناهضة للإمبريالية (ولكن في حالة الغرب فقط)، إنهاء الحرب على الإرهاب، انتشار العداء لأمريكا، والقضاء على إسرائيل.
بالمقابل، يتفقون على الحاجة إلى الهجرة الجماعية والتعددية الثقافية في الغرب. يعملون بشكل فعال معًا ويحققون بشكل مشترك أكثر مما يمكنهم تحقيقه بشكل منفصل.
حدث أول مثال رئيسي على ذلك في بريطانيا في 2001، عندما شكلت منظمات مثل الحزب الشيوعي البريطاني والرابطة الإسلامية في بريطانيا تحالف أوقفوا الحرب (في إشارة إلى أفغانستان والعراق).
ثالثًا: يستفيد الجانبان بشكل متبادل من العلاقات الجيدة. الإسلاميون يكتسبون من اليسار الشرعية والمهارات، واليساريون يكتسبون ذخيرة للمدافع.
دوغلاس ديفيز من سبيكتاتور يسمي التحالف "هبة من السماء للجانبين".
اليسار، من الشيوعيين والتروتسكيين والماويين والكاسترويين، بلا أنصار، لكنهم متمسكون برواسي قضية، بينما يملك الإسلاميون الأنصار والعاطفة، وإن كانوا بحاجة إلى وسيلة تمنحهم أرضية تمدد على الساحة السياسية. هنا أصبح التحالف التكتيكي ضرورةً عملياتية.
يقتبس ديفيز عن يساري بريطاني يشرح ببساطة: "الفوائد العملية للعمل معًا كافية لتعويض الاختلافات".
رابعًا: يرى الماركسيون أن المسلمين سيحلون محل الطبقة العاملة على أنهم ثوار سوف يسقطون النظام البرجوازي القائم.
تنبأ ماركس بأن البروليتاريا الصناعية ستؤدي هذا الدور، لكنها، بدلًا من ذلك، أصبحت أكثر ثراءً وفشلت في تحقيق إمكاناتها الثورية، لذا لم تحدث الأزمة المتوقعة في الرأسمالية أبدًا. استبدلها الإسلاميون، وبذلك حققوا التوقعات الماركسية، على الرغم من أنهم يعملون من أجل غايات مختلفة تمامًا.
صور الراديكالي الفرنسي جان بودريل الإسلاميين على أنهم المضطهدون المتمردون ضد مضطهديهم. بينما يعتبر النقابي الفرنسي أوليفييه بيسانسينوت الإسلاميين "العبيد الجدد" في ظل الرأسمالية، ويرى أنه من الطبيعي "أن يتحدوا مع الطبقة العاملة لتدمير النظام الرأسمالي".
تحالف اليسار والإسلاميين عزز المشكلة، خصوصًا مع استمرار تصور الأوروبيين للإسلام بمفهوم العصور الوسطى، حتى ولو تراجعت أهمية العنصر الديني، وفق نورمان دانيال.
الأزمة زادت مع الهجرة الكبيرة للمسلمين إلى أوروبا، وتحويلهم من مجرد رقم ضئيل إلى كتل تصويتية مهمة.
وإذا كانت الهجرة تنطوي بشكل عام على العديد من المشكلات العملية، فإن الوافدين الجدد من المسلمين غالبًا ما يجلبون المزيد من التعقيدات التي تنجم عن مواقفهم الإسلامية.
تكشف الاستطلاعات المتلاحقة عن تصورات أكثر سلبية حول الإسلام. في 2013، رأى 73٪ من عينة فرنسية الإسلام بنظرة سلبية، بينما رأى 77٪ في عينة هولندية أن الإسلام لا يثري البلاد.
“الملحدون العرب يهددون بالدمار”: ردود مسيحية الحداثة على الإسلام والمسلمين (فصلية الشرق الأوسط)