لا أحاول هنا البحث عن مباراة تنافسية بين ما نتج عن 30 يونيو.. بل البحث عن جوهر واحد مشترك في كل ما نتج عنها.
الغريب أنني بينما أكتب المقال، بناء على ملاحظة زميل عن صعود الوطنية في مختلف دول المنطقة بعد ٣٠ يونيو، قرأت تهنئة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى الشعب المصري، ووجدت أنها تدور بالضبط حول هذا الجوهر. بالتحديد هذه الجملة:
لم تكن ثورة الثلاثين من يونيو مجرد لحظة عابرة عبر فيها المصريون عن غضب أو سخط أو امتعاض، بل كانت أرقى صيحات التعبير عن أقوى الثوابت المصرية وأشدها رسوخًا وأكثرها نبلًا، وهي الانتماء للوطن والولاء للأرض
أحداث 30 يونيو – بغض النظر عن توصيفها الأكاديمي الذي لا يهم داعميها – كانت ثورة على أصحاب المقولات المقابلة تمامًا: “ما الوطن إلا حفنة من تراب عفن”. وهي المقولات التي لم تكن تكتفي بالتداول بين أعضاء التنظيمات، بل تظهر على صفحات الصحف، ويسير مطلقوها بلا خوف من حساب.
الأمر لا يقتصر على التنظيمات الدينية، بل يمتد إلى نخب فكرية مستعدة لرفع علم أي كيان في العالم، دعما له لسبب أو لآخر، إلا العلم المصري. فتخلط بين موقفها السياسي وموقفها الوطني. الأول نختلف عليه، كيف يدار الاقتصاد، مركزيا أم لا مركزيا، يشجع الاستثمار أم يخنقه بالاحتكار، كما نختلف حول كيف تدار السياسة. أما الموقف الوطني فنقطة انطلاق.
ربما لأنها – ببساطة – لا تدرك الفرق. أو ربما لأنها لم تتثقف سياسيا بثقافة الدولة الحديثة. وتوقفت ثقافتها السياسية عند عصر الإمبراطوريات الأيديولوجية المتعدية لحدود الكيان الجغرافي.
والوطنية الحديثة ليست فقط حدودًا سياسية رسمت وإن كان هذا محددا مهما عمليا وقانونيا. إنما هي دافع غريزي، يرسم الكائن الحي في البرية بموجبه نطاقا، ويدافع عن أمنه بالدفاع عنه. الوطنية الحديثة هي الانتماء البديل عن التعصب لأهل الدين الواحد، أو القبيلة الواحدة.
في ذكرى 30 يونيو.. ماذا تحقق في ملف المواطنة؟ | مينا منير
النوعان السابقان استخدما مقولات فكرية للتعمية على فكرة تذويب الوطن في كيانات أخرى، عقائدية أو أيديولوجية. كيانات لا بد لها من قائد ومقود. ولم يستحوا أن تكون مصر فيها في الموضع الأخير.
فتحالف قوميون عروبيون، مع فلول العثمانيين. وتحالف يساريون مع إسلاميين. وشنوا جميعا حربهم الدعائية ضد الدولة الوطنية من إسطنبول أو طهران، وعواصم أخرى.
سلوك مستشر في المنطقة بأسرها، لا في مصر وحدها. موجود في لبنان والعراق وسوريا واليمن، وفي جيوب عالية الصوت في كل بلد آخر.
الاستشراء دلالة قوية على خلل في ركن أساسي من أركان الدولة الحديثة، قامت دولنا “الحديثة” متجاهلة إياه. وأقصد به الشعور الوطني المحلي. العقيدة الاجتماعية التي تجمع بشرًا موجودين في حيز جغرافي ما، فتقيم دولة. متماسكة. ملتحمة. مميزة. لها شخصيتها.
هذا الشعور الوطني لا يعادي من حوله، بل يسعى إلى أفضل علاقات ممكنة مع جواره تحقيقًا للمصلحة. على عكس الشعور الوحدوي الذي اراد منذ منتصف القرن العشرين أن يرث “الخلافة”. فتسمى بأسماء مراوغة، لكنه سعى إلى نفس الغرض – ترويض الدول الوطنية وإلزامها بالتزام خيارات محددة، وإلا فالعداوة والبغضاء والصراع والإنهاك المتبادل.
كان الشعار وحدويًا، و السلوك عدوانيًا مفرقًا.
الانتماء إلى الأرض يعني المواطنة. يعني المساواة بين المواطنين الذين يعيشون على هذه الأرض. يعني احترام الآخرين ومعاملتهم بما تحب أن يعاملوك به. لا فضل لمواطن على آخر إلا باحترام القانون. لا بدين ولا بجنس.
بعد 30 يونيو تغيرت في الأجواء أشياء ربما لا تبدو واضحة للجميع.
كنا سابقًا نستحيي من الدفاع عن وطننا ضد من يريد لنا أن نكون منفذين لأغراضه وطموحاته وأهدافه “القومية” الوحدوية، ومن يضع أولوياته قبل أولوياتنا. الآن لم نعد. ولا عاد يهمنا كيف يرى مصر، بل كيف نراها نحن. ولا عاد يهمنا إلى أين يريد مصر أن تسير، بل أين نريدها نحن.
ونحن نريد لبلدنا الأفضل. وكلما تحقق الأفضل ولو بخطوة إلى الأمام، كانت الخطوة كفيلة بأن يدرك الفارق بين حالنا وحاله. بين معتقدنا وشعاراته. أين نتجه وأين يتجه.
كما صار التمايز أوضح بين من يدعمون أوطانهم، وبين منتقديهم، الذي لا يخجلون من دعم أطماع الغرباء، أو خادمي أطماع الغرباء. صارت المفارقة لا تخفى على ذي عينين.
قوى ذلك الشعور الوطني المحلي في دول أخرى مجاورة. صار صوت الوطنية المحلية، بل وتعاضد وتآزر محبي أوطانهم، يعلو يوما بعد يوم، وسنة بعد سنة. يرسم هو الأفكار الجديدة. في العراق وفي تونس وفي ليبيا وفي السودان، كما في دول الخليج التي نجت إلى حد كبير من الشعارات الوحدوية الستيناتية، وإن لم تنج من الشعارات الوحدوية الإسلاموية.
30 يونيو.. محطة تغير التحالفات ولحظة سقوط الأقنعة
لقد أدرك الجميع الخطر. أن وطنك وطنك. به فابدأ. جمله وحسن أحواله. وقتها فقط ستكون الحياة أفضل في عموم الجوار. لا تسمح فيه بمن ينخر بالبغضاء بين المواطنين. لا تسمح فيه بمن يفرض تشريعات موازية لقوانينه على غيره من المواطنين. لا تسمح فيه بمن يقايض مواطنيه على أمنهم في الشارع مقابل الالتزام بمعاييره.
في نهاية كلمة السيسي أشار إلى “الجمهورية الجديدة” رابطًا بينها وبين خيار الشعب المصري في 30 يونيو. أرجو أن تستفيد هذه الجمهورية الجديدة من تجارب الجمهورية السابقة. أن تكون المواطنة والمساواة والقانون الواحد الذي لا ينازعه تشريع آخر شعارها المطبق.
وقتها فقط ستختلف عن “الجمهورية السابقة”.