للإلهام مصادر عديدة. ومن المثير أن نتأمل قصة الالهام وراء فيلم ديزني الجديد رحلة الأدغال Jungle Cruise.
يقتبس الفيلم فكرته واسمه من جولة ترفيهية في ملاهي ديزني، بدأت عام 1955. وفيها يجلس الزوار في مركب يتحرك وسط نهر صناعي، وعلى جانبيه ممثلين وديكورات ودُمى لأفيال وقرود وحيوانات أخرى، تُحاكي أماكن طبيعية في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، بينما يشرح قائد المركب للركاب طبيعة المكان والكائنات، بطريقة مرحة.
هذه الجولة في ملاهي ديزني، كان ضمن مصادر ابتكارها فيلم الملكة الإفريقية The African Queen الذي بدأ عرضه 1951، ودارت أحداثه أثناء الحرب العالمية الأولى عن أرستقراطية بريطانية تستعين بصعلوك مدمن مخمور، يملك مركب متهالك، بغرض تنفيذ مهمة ضد الألمان، في رحلة نهرية وسط مخاطر الطبيعة.
على مدار العقود التالية منذ الخمسينيات، ومع النجاحات التي حققتها أفلام المغامرات الهوليوودية الشهيرة مثل سلسلة إنديانا جونز التي أخرجها ستيفن سبيلبرج، غيرت ديزني في جولة Jungle Cruise الكثير والكثير، لتواكب ما أحبه الجمهور في هذه الأفلام.
#نتفرج_بعدها_نحكم؟ لسكورسيزي وسبيلبرج وبيكسار رأى آخر | حاتم منصور
استحدثت ديزني أيضًا تعديلات لتواكب المستجدات الثقافية الحديثة، وعلى رأسها قواعد الصوابية السياسية، التي جعلت ديزني تحذف من الجولة مقاطع قديمة كانت تظهر فيها قبائل همجية أفريقية ولاتينية، باعتبارها مقاطع عنصرية غير لائقة.
رحلة الأدغال Jungle Cruise إذن، حتى قبل تحولها لفيلم، تحمل جينات السينما منذ ميلادها. وبالتأكيد كان من الممكن تحويلها لسلسلة سينمائية شيقة، كما فعلت ديزني في قراصنة الكاريبي Pirates of the Caribbean المقتبسة أيضًا من جولة ترفيهية مماثلة.
أزمة هوليوود الجديدة: فوكس في قبضة ديزني “المهذبة”.. توسع فني أم استعراض قوة؟! | أمجد جمال
لكن ديزني 2021 ليست كديزني 2003. وعلى عكس فيلم قراصنة الكاريبي الأول الذي وقف خلفه منتج جريء ومغامر مثل جيري بروكهايمر، الذي اختار للبطولة وقتها ممثلًا موهوبًا لكنه ليس نجم شباك اسمه جوني ديب، يصل فيلم رحلة الأدغال وهو يحمل كل طباع اللعب الآمن لشركة ديزني. وتصبح الرحلة ككل مفلسة فنيًا، وأقرب لعمل يقف خلفه جيش من المحاسبين، وليس فريق مبدعين ومغامرين.
لنبدأ بمشكلة الشخصيات والأبطال. الحبكة الخيالية تلامس كل الأعمال السابقة الذكر، وفيها نشاهد أرستقراطية بريطانية (إيميلي بلانت في الدور) تستعين بقائد مركب صعلوك في نهر الأمازون (دواين جونسون في الدور) للوصول لمكان، تعتقد أن فيه الدواء الشافي الخارق لكل أمراض البشرية.
إعادة إحياء الدماغ الميت.. هل تهرب البشرية من قابض الأرواح؟ | س/ ج في دقائق
إيميلي بلانت ممثلة موهوبة. ولهذا نجحت في وضع بصمة في أفلام مغامرات وأكشن مثل Looper – Edge of Tomorrow. لكنها هنا بسبب فقر السيناريو، أسيرة شخصية نمطية باهتة مكررة في أعمال ديزني الأخيرة، وهى شخصية الشابة الجريئة الشجاعة التي تحاول إثبات نفسها في عالم يحكمه الرجال.
إيميلي بلانت – دواين جونسون
تزداد المشكلة بسبب شريكها في البطولة دواين جونسون (المعروف بلقب ذا روك أو الصخرة فترة نجوميته في رياضة المصارعة). الأزمة ليست فقط في غياب التوافق والكيمياء بينهما كنجمين، لكنها أيضًا في حقيقة أن جونسون يكرر نفس الشخصية وطريقة الأداء، التي يقدمها باستمرار في أفلام المغامرات الموجهة للأطفال منذ سنوات.
مشكلة النمطية والتكرار تمتد لطاقم الأشرار في الفيلم. لا شيء مميز يعلق بالذاكرة رغم وجود طاقم ممثلين له تاريخه. قارن هذا بأشرار قراصنة الكاريبي مثلًا، وستلاحظ الفارق.
وللمزيد من الفقر الإبداعي، يقوم الممثل الكوميدي جاك وايتهول بدور أخو البطلة، الذي صممت ديزني أن تجعله مثلي الميول الجنسية، في خطوة لا معنى ولا قيمة لها وسط الأحداث فنيًا أو دراميًا، لكنها كافية بالتأكيد لانتزاع جمل الاشادة والإعجاب من نقاد اليسار المعاصرين، المهتمين بتلميع هذه الأجندات والقرارات على حساب أي قيم فنية أو إبداعية.
دواين جونسون – جاك وايتهول
على ذكر أخي البطلة الذي يُفترض أنه شخصية خفيفة الظل، قد تجدر الإشادة هنا بفيلم مغامرات أمتع بمراحل، قدمته هوليوود عام 1999 وهو المومياء The Mummy.
في المومياء حبكة مطابقة (أرستقراطية بريطانية جريئة تبحث أثناء حرب عالمية عن مكان سري متعلق بالخوارق – مع أخيها الجبان مركز النكات – ومن أجل هدفها تضغط على مغامر ليشاركها رحلة البحث).
جاك وايتهول – إيميلي بلانت
بالنظر لكل الأفلام التي ذكرناها كمصدر إلهام لفيلمنا هنا، ولسلسلة قراصنة الكاريبي بالأخص باعتبارها من إنتاج نفس الشركة، فمن الغريب أن ديزني لم تستوعب الدرس الأهم، وهو أن فيلم المغامرات يحتاج لشخصيات مميزة نحبها ونتفاعل معها. وليس لشخصيات أقرب لوعاء فارغ، يتم تعبئته طبقًا لبنود ثابتة وأجندات.
Terminator: Dark Fate.. المصير الهوليوودي المظلم مستمر بفضل الأجندات النسوية والعرقية | حاتم منصور
تجدر الإشارة أيضًا إلى عنصر مهم، وفرته سلاسل إنديانا جونز وقراصنة الكاريبي والمومياء وغاب هنا، وهو عنصر الرعب والتوتر. صناع هذه السلاسل لم يترددوا في تنفيذ مشاهد موترة ومرعبة وسط الأحداث، ولهذا اندمجنا كمشاهدين مع المخاطر والأهوال التي يواجهها الأبطال.
رحلة الأدغال Jungle Cruise في المقابل، عمل أجبن من أن يقدم مشاهد من هذا النوع، ولهذا أصبحنا كمشاهدين طوال الوقت نتابع فيلم مغامرات ومخاطر، تنقصه المغامرات والمخاطر!
أفلام كانت مصدر إلهام
الأغرب في النقطة السابقة، أن مخرج الفيلم جومي كوليت سيرا اشتهر أصلًا بفضل أفلام الرعب والمسوخ والكائنات المفترسة والشد العصبي، وتضم قائمة أعماله أفلام مثل House of Wax – Orphan – The Shallows.
يدفعنا هذا للتساؤل: ما دافع ديزني إذن لاختياره لإخراج Jungle Cruise ما دامت لا تنوي بأي حال الاستفادة من قدراته في هذه الجزئيات؟!
أنجح 10 أفلام رعب في التاريخ |حاتم منصور
على مستوى الصورة والخدع البصرية، يستنسخ الفيلم الكثير والكثير من أفلام قراصنة الكاريبي والمومياء، لكن بشكل أقل سحرًا وجاذبية. وتبقى فقط بصمة ديزني المعتادة المعاصرة، في الإنفاق بسخاء على الديكورات والملابس، وكأن هذا إنجاز كفيل بطمس وإخفاء أي عيوب أخرى.
عام 1901 وُلد مبدع اسمه والت ديزني، وبحلول الثلاثينيات أصبح اسمًا لامعًا في هوليوود؛ لأنه صمم دومًا أن يجرب ويبتكر ويغامر، بدلًا من أن يقلد الآخرين أو أن يكرر نفسه. وحتى اليوم يظل الفنان الأكثر حصولًا على الأوسكار (22 جائزة).
من المحزن أن كل صفاته المميزة تقريبًا كفرد، أصبحت اليوم أبرز ما يغيب عن الشركة التي تحمل اسمه.
كل ثانية تقريبا في Jungle Cruise ستذكرك بفيلم آخر شاهدته أجود وأهم بمراحل، وهذه أسوأ لعنة يمكن أن تطارد أي فيلم.
موضوعات متعلقة
نسخة للطباعة
