بابا الفاتيكان فرانسيس يكرم روح القاضي الصقلي روزاريو ليفاتينو، الذي قتلته المافيا في 1990 بعد فتحه تحقيقات جنائية ضدها.
وصفه بـ “شهيد العدل والإيمان” وأعلن البدء في إجراءات التطويب لاسمه؛ في مرحلة حاسمة قبل إعلانه قديسًا، وفقًا لنهج الكنيسة الرومانية الكاثوليكية.
البابا شكل كذلك مجموعة عمل لدراسة “الحرمان الكنسي لأعضاء المافيا” في خطوة يترتب عليها حرمانهم من الخدمات الكنسية، كالاعتراف ورعاية الجنازات والأفراح وغيرها، ودعاهم مباشرة للتخلي عن المافيا أو “الوقوع في الجحيم”.
ليست المرة الأولى التي يدين فيها باباوات الفاتيكان أعمال المافيا علنًا؛ سبقه يوحنا بولس الثاني وبنديكتوس السادس عشر في زيارتين إلى صقلية، لكن علاقة الفاتيكان والمافيا لم تصل أبدًا إلى حدِّ القطيعة في الماضي القريب، إذ حظت عصابات المافيا بقدرٍ من التسامح من قساوسة الفاتيكان، وهو التسامح الذي تطوّر إلى علاقات تعاونٍ اقتصادية واجتماعية في بعض الفترات.
روسلا ميرلينو، التي أعدت رسالة دكتوراة عن الأبعاد الدينية للمافيا الصقلية، تقول إن التاريخ شهد العديد من الحالات التي أنبأت عن “علاقة غامضة” جمعت المافيا ببعض رجال الفاتيكان:
الحرب التي أعلنها فرانسيس على "إيمان" رجال المافيا كشفت التشابك بين بين رجال الجريمة ورجال الدين في الماضي.
في نابولي مثلًا، التي شهدت أول إجراء أسقفي يتماهى مع الحالة الجديدة، أمر رئيس أساقتها الذي عينه البابا فرانسيس، دومينيكو باتاغليا، بإزالة لوحتين من مدخل الأبرشية تبرّع بهما قائد المافيا السابق لورنزو نوفوليتا، بمبرر "إعطاء مثال لا لبس فيه" عن التعارض بين طريق الإنجيل ومسارات الإثم.
لكن الإجراء أعاد التذكير بتبرعه سابقًا وقبول الكنيسة له، والتذكير بحوادث سابقة حظي فيها قادة المافيا برعاية الفاتيكان، مثل القضية التي تفجرت خلال التحقيق في اختفاء الفتاة الإيطالية ايمانويلا أورلاندي، منذ 1983، حين اكتشفت جهات التحقيق في أبريل 2012، أن زعيم المافيا المتهم بقتلها، إنريكو ريناتينو دي بيديس، مدفون في مقابر الفاتيكان!
المفاجأة كانت ضخمة؛ لأن الفاتيكان سمح لزعيم عصابة بالدفن جوار القديسين، وهو القرار الذي برّره القسيس الذي وافق على الدفن بأن زعيم المافيا كان "سخي العطاء على الفقراء"!
مثل هذه الحوادث كشفت شكل العلاقة المعقدة بين الفاتيكان والمافيا، بموجب الجوار الجغرافي الذي جمع بينهما،
وبموجبه قَبِل العديد من القساوسة في جنوب إيطاليا تبرعات زعماء المافيا لفترة طويلة، وترأسوا جنازاتهم وأفراحهم، وسمحوا لهم بتنظيم مواكب دينية تحتفي بصور العذراء والمسيح، حتى فترة قريبة للغاية.
التعاون النشط بين الفاتيكان والمافيا بدأ بعد الحرب العالمية الثانية، ضمن تحالف لمكافحة الشيوعية التي بدأت في الانتشار بجنوب إيطاليا.
في هذه الفترة، تلقى رجال العصابات دعمًا واسعًا من رئيس أساقفة باليرمو إرنستو روفيني، في الفترة بين 1945 وحتى 1967.
روفيني رفض وصف المافيا بـ "منظمة إجرامية سرية" واعتبرها في حديث صحفي "نوعًا من المنظفات"، وأن الحديث المتكرر عنها "افتراء نشره الشيوعيون لجلب العار إلى صقلية".
في رسالتها، تقول روسلا ميرلينوروسيلا إن المافيا فقدت القدرة على الحضور إلى الكنيسة، فجلبتها "حرفيًا" إلى مواقعها السرية.
زعماء المافيا حرصوا على ضمان وجود كاهن ضمن عائلتهم. أبرز الأمثلة كان كالوجيرو فيزيني، أحد أبرز قادة المافيا على مدار تاريخها بـ 39 جريمة قتل والعشرات من جرائم السرقة والابتزاز، والذي كان اثنان من إخوته كاهنين عاشا في منزله.
وعند وفاة فيزيني 1954، شيعه العديد من القساوسة، ورثته الكنيسة ببيان علّقته على بابها: "أظهر بالكلمات والأفعال أن المافيا ليست إجرامية. إنه يمثل احترام القانون والدفاع عن الحقوق"، وهي رسالة تكاد تتطابق مع النعي الذي رثت به الكنيسة زعيم المافيا جوزيبي دي كريستينا.
وحين اضطر القائد الأعلى لمافيا صقلية توتو رينا، للاختباء من الملاحقة القضائية، بعد تدبير أكثر من 150 جريمة قتل، واجه بعدها 26 حُكمًا بالسجن مدى الحياة، حظي بزواجٍ رسمي سرّي أشرف عليه كاهن صقلية أغوستينو كوبولا بنفسه.
وكثيرٌ ما عثرت الشرطة على مذابح دينية في أوكار المافيا، أكثرها شهرة هو بينيديتو سانتاباولا، الذي أسس في مزرعته التي استخدمها كمخبأ كنيسة صغيرة مزودة بمذبح وتمثال للعذراء، وداوَم طوال اختبائه على قراءة الكتاب المقدس.
المشهد تكرر مع بيترو أجلييري، الذي خصّص في وكره مكانًا للعبادة، كان يلتقي فيه بالقساوسة بِانتظام، والذين لم يفشوا مكانه أبدًا. وعقب القبض عليه، طلب بيترو دراسة اللاهوت داخل السجن!
عدد نادر من رجال الدين انتقد ذلك التماهي، مثل أسقف باليرمو سلفاتور بابالاردو، الذي ترأّس جنازة الجنرال الإيطالي الشهير دالا كييزا الذي مات خلال حربه ضد العصابات، وفي كلمته أدان "عقودًا من لامبالاة الكنيسة تجاه المافيا، بل والتسامح معها".
في 1982، تفجرت فضيحة مالية بانهيار مصرف "أمبروسيانو" الإيطالي (المشتق من لقب عالم اللاهوت البارز القديس أمبروز)، والذي كان بنك الفاتيكان (الذراع المالي للبابا، ويُسمى "مصرف الله") أكبر المساهمين فيه. وقُدِّرت حصة الفاتيكان بمئات الملايين من الدولارات.
حظي بنك "أمبروسيانو" برعاية فاتيكانية خالصة، حتى أطلق عليه "بنك الكهنة". وفي فترة ما ترأّسه فرانكو راتي، ابن شقيق البابا بيوس الحادي عشر.
عيّن فرانكو نائبًا له هو روبرتو كالفي، وفيما بعد أصبح كالفي هو رئيس البنك. في عهد فرانكو توسّع البنك حتى امتلك أصولاً قُدِّرت بـ18.7 مليار دولار.
أثبتت التحقيقات أن المصرف استُخدم بِانتظام لتبييض أموال المافيا الصقليّة، بعلم رئيسه روبرتو كالفي.
ووفقًا لـ"نيويورك تايمز"، فبسبب الحادث، انتحر رئيس مصرف "امبورزيانو" أسفل جسر في لندن، وسط شائعات حول تورط المافيا والفاتيكان في مقتله كيلا يكشف المزيد من الأسرار.
بسبب الحادث، مارست الحكومة الإيطالية ضغوطًا على الفاتيكان من أجل اتباع قواعد أكثر شفافية في مؤسساته المالية التي كانت لا تخضع لأي رقابة حكومية. وفي النهاية اضطر الفاتيكان إلى دفع تسوية مالية قدرها 224 ملون دولار مع الإصرار على عدم تحمّل أي مسؤولية جنائية.
وفي 2012، نشر الصحفي الإيطالي جيرال بوسنر كتاب "بنك الله"، الذي كشف فيه كواليس هذه الفضيحة استنادًا إلى مئات الوثائق المهربة من داخل الفاتيكان، بخلاف حالات أخرى من الفساد المالي التي شابت مؤسسة الفاتيكان المالية الأهم.
في كتابه "الماء المقدس"، يقول خبير الجريمة المنظمة أنطونيو نيكاسو ، إن أعضاء المافيا لا يشعرون بأي تناقض بين كونهم كاثوليكيين متعصبين وبين كونهم رجال عصابات.
يقول الصحفي الإيطالي روبرتو سافيانو إن "شخصية ماري مهمة للغاية في ثقافة المافيا". كثيرون من رجال المافيا يحتفون بـ "مريم العذراء" كأحد أشكال تأثرهم بالثقافة الكاثوليكية الشعبية المنتشرة في جنوب إيطاليا.
وبالتنسيق مع قساوسة محليين، موّل زعماء المافيا العديد من المهرجانات المحلية التي تحتفي بمريم وتتجول بأيقوناتها في الشوارع.
رجال العصابات عملوا على استغلال صورة مريم من أجل تدشين رابطة روحية تجمعهم بالمسيحية، تضمن لهم غرس الطاعة بين السكان؛ لأن ظهور قائد العصابة في الموكب الديني المُزين بصور العذراء، يمنحهم انطباعًا غير مباشر أنه يحظى بمباركتها، وأن طاعته من طاعتها فينصاعون جميعًا إلى تعليماته كما لو أنها أوامر إلهية،
كما تستغل المافيا مكانة مريم لضمان طاعة أفرادها أنفسهم، عبر إقناعهم أن أفعالهم الإجرامية سيصفح عنها الله بشفاعة مريم التي تملأ أيقوناتها منازلهم.
أقدم موكب ديني مُسجل نظمه رجال المافيا، جرى عام 1937، في مقاطعة كالتانيسيتا الصقلية بواسطة إحدى جماعات المافيا،
لكن هذه المرة جابت شوارع المقاطعة وهي تحمل تمثال "القديس يوسف Saint Joseph"، شارك في هذا الموكب جوزيبي دي كريستينا زعيم العصابة وأبناؤه الذين انحنوا جميعًا لتمثال القديس الكاثوليكي أمام الناس، ومن خلفهم تدوّي أصوات الموسيقي وأجراس الكنائس.
في هذا الموكب تنازل زعيم العصابة عن السُلطة لأحد أبنائه، ولم يكن غريبًا أن هذا الزعيم حين وفاته 1961، حظي بجنازة حاشدة في كنيسة المقاطعة الرئيسية وودّعه القس بيان رسمي نعاه بعبارات مؤثرة.
شهر العسل بين المافيا والفاتيكان تراجع مع بداية الحقبة الأخيرة من القرن العشرين، وبدأت حدة الخلافات تظهر إلى العلن.
في 1993، انتقد الأب بينو بوجليسي أعمال المافيا في باليرمو، فقُتل. وفي العام الذي يليه، قتل الأب جوزيبي ديانا في نابولي بسبب إداناته المستمرة لأعمال المافيا.
هنا، تصاعدت حدة الخطاب الديني في الفاتيكان في مواجهة المافيا. وبهذه الحالة، وصل البابا فرانسيس منصبه، ولم يسلم أيضًا من التهديدات بالقتل.
شرطة الفاتيكان تلقت فعلًا تحذيرات جدية بأن البابا فرانسيس معرّض للاغتيال على يدي المافيا بسبب التغييرات التي أدخلها في مؤسسات الكنيسة المالية، والتي قال مصدر قضائي إيطالي إنها "أصابت المافيا بالتوتر لأنها تهدد مصالحها".
لكن المتحدث باسم الفاتيكان فيديريكو لومباردي قلل من شأنها، واعتبرها "لا تستدعي القلق".
في أغسطس 2015، استضافت كنيسة سان جيوفاني بوسكو الكاثوليكية جنازة فيتوريو أحد كبار قادة المافيا.
بالرغم من سجله الإجرامي المُذري، وفّرت له الكنيسة الكاثوليكية جنازة فارهة؛ عربة مذهبة يجرها حصان، وبتلات ورد تتساقط من طائرة هليكوبتر وموسيقى فيلم "العرّاب" ورُفعت على واجهة الكنيسة لافتات تصف الراحل بأنه "ملك روما".
خلق هذا الموقف انتقادات سياسية جمّة داخل إيطاليا، على رأسها برلمانية إيطالية اعتبرت الجنازة "استعراضًا متفاخرًا لقوة المافيا"، وهو ما استدعى تبريرًا من الكنيسة بأنها مسؤولة فقط عن مراسم الجنازة داخل الكنيسة، وأن القسيس لم يكن على دراية بما يجري خارجها لحظة إجراء المراسم.
البابا: المباركة روزاريو ليفاتينو “شهيدة العدالة” (فاتيكان نيوز)
قاضية إيطالية قتلتها المافيا تضعها الكنيسة الكاثوليكية في طريق القداسة (إن بي سي نيوز)
فضيحة مصرفية غامضة وعميقة في إيطاليا (نيويورك تايمز)
أكثر المخططات المالية جنونًا التي حاول بنك الفاتيكان تغطيتها (بيزنس إنسايدر)
الفاتيكان يطرد رسميا جميع أعضاء مجموعات المافيا (روما ريبورتس)
البابا يسعى لتحرير مريم العذراء من المافيا (أسوشيتد برس)
الفاتيكان يكافح لتحرير مريم العذراء من المافيا (الجارديان)
تحقيق الشرطة الإيطالية بالفاتيكان يكشف علاقة المافيا باختفاء مراهق منذ 30 عامًا (الديلي بيست)
رئيس أساقفة نابولي يأمر بإزالة اللوحات التي تبرع بها رئيس المافيا (ذا كاثوليك يونيفرس)
قابل الكهنة الذين يخاطرون بحياتهم متحدين المافيا (تايم)
الكنيسة الكاثوليكية الإيطالية تسارع لشرح دورها في تشييع جنازة رئيس المافيا الفخمة (آر إن إس)
لا عجب أن المافيا متعصبة، فهذا البابا ليس من ينغمس في رغبات رجال العصابات (ذي إندبندنت)
الكنيسة الكاثوليكية “غير منسجمة” مع المافيا (دويتشه فيله)