شيء ما ساحر يوجد في عقولنا كأطفال، ويجعلنا نتذكر اللحظات والأيام الفارقة للأبد.
في يوم من هؤلاء، بدأ كأي يوم عادي، يذهب كاتب هذه السطور وهو طفل في ابتدائي مع ابن خالته لمحل صغير مجاور لمنزل الأخير لشراء بعض الحلوى، لكن ما يلفت أنظاره هناك أكثر من الحلوى، هو كتيب صغير على حامل كتب مهترئ بعنوان أرض الأهوال.
هل تحققت أسطورة نحس رفعت إسماعيل في مسلسل ما وراء الطبيعة ؟ | حاتم منصور
من السهل الآن تخمين سبب انجذابي الرئيسي. غالبًا كان رسمة الغلاف.
رجل مرعوب تهاجمه أسماك صغيرة مفترسة، بينما يظهر ذئب أو كلب مفترس في الخلفية. وعلى ظهر الكتاب توجد جمل تشويقية عن أسرار عسكرية، ومنظمة سرية تتخذ جزيرة وكرًا لها، وغيرها من الأشياء التي تسيل اللعاب أكثر من الحلوى!
المحصلة كانت عرضًا يصعب رفضه لطفل صغير مثلي، يحرص على التهام فيلم أكشن أو رعب أمريكي يوميًا على أشرطة الفيديو في أيام الإجازات، وبالتأكيد تستحق التجربة والتضحية بـ 75 قرشًا، أو شيئًا من هذا القبيل في هذه الفترة!
وقتها كانت علاقتي كطفل بالقصص تدور في فلك دار نشر وتوزيع واحدة تقريبًا، وهي دار المعارف، بحكم التردد مع والدتي على فرع هذه الدار بانتظام في المنصورة.
وهناك تتوفر إصدارات مناسبة للأطفال مثل (المكتبة الخضراء – تان تان – أولادنا – رحلات السندباد – المغامرون الخمسة – الشياطين الـ 13).
حقيقة رأفت الهجان بين التاريخ والسياسة: ١- الرواية الإسرائيلية
تركيبة الأكشن ووصفها التفصيلي في الرواية، جعلت الأحداث تتدفق في ذهني بشكل سينمائي بسهولة، وشخصية البطل الذكورية الجذابة – التي لا تخلو من مشاكسة للإناث بالمناسبة في هذا العدد – داعبت بسهولة أكثر وأكثر خيالاتي كطفل عن الرجولة والشجاعة وخلافه.
أدهم صبري وتركيبة سلسلته رجل المستحيل كانت تحديدًا ما يتوق إليه طفل مثلي متأثر بالأفلام الأمريكية: قصص بلغة سهلة تحمل طابعًا أمريكيًا وسينمائيًا من حيث الأكشن والخيال، وطابعًا مصريًا وطنيًا من حيث الشخصيات والجوانب الأخلاقية والسلوكية.
أغلفة أعداد رجل المستحيل
في اليوم التالي مباشرة، قررت شراء أعداد أخرى من رجل المستحيل. وبدأت تجربة سلسلة جديدة بعنوان ملف المستقبل.
انجذابي وقتها لشخصيات نور وفريقه في ملف المستقبل كان أقل من انجذابي إلى أدهم صبري. لكن الخيال العلمي أضاف متعة مختلفة، وجعل ملف المستقبل تنضم سريعًا هي الأخرى إلى قائمة تفضيلاتي.
باتمان 2021 وخمس أفلام وألغاز سينمائية مرتقبة من “دي سي كومكس” | حاتم منصور
والأهم أنها انتقلت تدريجيًا من كونها محاكاة لمنظومة الألغاز (من فعلها) في أول 30 عددًا على ما أذكر، حيث يكتشف البطل بفراسته سر الأزمة أو مصدر الخديعة في نهاية القصة، إلى نمط أكشن وإثارة أكثر وأكثر في الأعداد التالية.
ملف المستقبل أصبحت ببساطة ملفًا كاملًا لكل أفكار الخيال العلمي تقريباً. غزو فضائي.. سيطرة آليين على الأرض.. وحوش ومسوخ تخرج من مختبرات.. أشعة للسيطرة على عقول البشر وبرمجتهم.. عوالم موازية انتصر فيها هتلر.. دستوبيا ما بعد الخراب.. سفر عبر الزمن.. أطلانتس.. بشر خارقين.. فيروسات مميتة.. وغيرها مما يطول ذكره.
في البدء كانت العدوى.. 10 أفلام رسمت نهاية البشرية بالفيروسات | حاتم منصور
كطفل مدمن لأفلام الخيال العلمي وقتها، وكناقد يكتب بانتظام عن السينما اليوم، أستطيع أن أقول إن نبيل فاروق لم يترك تقريبًا أية ساحة خيال علمي، دون أن يغزوها مع نور وفريقه، وأن متعة هذه القصص فاقت في كثير من الأحيان أشهر الأفلام المصنوعة عن نفس القالب.
الخماسية الأشهر في سلسلة ملف المستقبل
إدمان مؤلفات نبيل فاروق جعل الأمور تأخد تدريجيًا منحنى أكثر إنسانية.
لم يعد أدهم صبري مجرد شخصية روائية أستمتع بمغامراتها وانتصاراتها، بل أصبح صديقًا شخصيًا، أشاركه آلامه واحباطاته، وأتعذب من روايات ظل فيها سجينًا لسنوات، أو من لحظات فقد فيها عزيزًا لديه.
علاقات أدهم بالجنس الآخر وفرت أيضًا كل الأنماط التي نحتاجها كمراهقين، ابتداءً بالعلاقة الرومانسية البريئة مع زميلته منى توفيق، وصولًا لعلاقاته المشاكسة مع عدواته من أمثال سونيا جراهام ودونا كارولينا، التي اجتهد نبيل فاروق كمؤلف في إبعاد جزئيات الجنس تماما عنها، واجتهدت أنا وغيري بالمقابل أكثر وأكثر في تخيل العكس!
آرثر كونان دويل وطوطمه الذي وجده في شارلوك هولمز | مارك أمجد
نفس الشيء يمكن قوله عن نور وفريقه في ملف المستقبل. في هذه السلسلة كانت أول لمحات لإدراك معنى ومسئولية أن تكون أبًا، أو زوجًا، أو خلافه. ولحظات قوية عن مفاهيم مثل الصداقة وروح الفريق. وتجارب غريبة من حيث المشاعر عندما تفكر فيها حتى اليوم، مثل المودة والحنين إلى روبوت اسمه س-18!
الروبوت س-18 في الرسومات الأبيض والأسود داخل الأعداد
الانفتاح الأكبر في الأفكار والخيال، تحقق لاحقًا عندما أصدر نبيل فاروق سلسلته كوكتيل 2000 وفيها تحرر من أجواء السلاسل والشخصيات الثابتة في القصة الرئيسية التي يحمل كل عدد اسمها، إلى نطاق القصة المنفصلة.
لكن ما ميز كوكتيل 2000 أكثر وأكثر، كان مقالاته المتنوعة عن قضايا مثل الرجل والمرأة، وتقاريره عن الشخصيات الروائية الغربية، ومعلوماته في الأدب والسينما والتاريخ والجغرافيا والفلك والفيزياء والطب (تخصصه الدراسي)، وردوده على استفسارات القراء، وغيرها من النقاط التي انتقلت لاحقًا أيضًا إلى سلسلتين بعنوان: بانوراما – زووم.
ستان لي.. القصة الحقيقية لـ السوبر هيرو الذي تحدى العنصرية
باختصار، كان نبيل فاروق بنك المعلومات الرئيسي لجيلنا في هذا السن، والوحيد تقريبًا الذي نجح في استقطاب ملايين الأطفال لكتاباته، ليس فقط في مصر، لكن في المنطقة العربية ككل.
نبيل فاروق
غالبا ستتهمني بالمبالغة في الفقرة الأخيرة، إذا كنت من مواليد أواخر التسعينيات أو ما بعدها، لكن تذكر أن طفولتك التي شهدت مئات القنوات الفضائية، بالإضافة إلى الإنترنت، كانت مختلفة عن مواليد أوائل الثمانينيات وما قبلها، الذين عاشوا طفولتهم في عصر قنوات التليفزيون المحدودة، واللا إنترنت.
كيف شكل “يوسف شريف رزق الله” نقطة تحول في علاقة الملايين بالسينما؟ | حاتم منصور
نبيل فاروق كان أيضًا محطة الميلاد لسلاسل روايات مصرية للجيب التي بدأت المؤسسة العربية للحديثة للناشر الراحل حمدي مصطفى إصدارها عام 1984 وبفضل نجاح أعماله، نال آخرون فرصا لاحقًا، وعلى رأسهم خالد الصفتي صاحب سلسلة فلاش الفكاهية، والراحل رؤوف وصفي مبدع سلسلة نوفا، وأحمد خالد توفيق مبدع سلاسل ما وراء الطبيعة وفنتازيا وسافاري وغيرهم.
اصدارات روايات مصرية للجيب
بعض مؤلفات نبيل فاروق الأخرى رفضتها تمامًا وقت طفولتي، ومنها مثلا ع×٢ التي اعتبرتها استنساخا لـ المغامرون الخمسة، ومحطة لا يبدع فيها جديدًا، وسلسلة زهور التي اعتبرتها رومانسيات مملة أقرب للمسلسلات ولا تصلح إلا للبنات.
لكن السلسلة التي رفضتها أكثر وأكثر ربما كانت فارس الأندلس لأنها السلسلة التي خرج فيها كمؤلف من كونه مصريًا وطني الميول والهوية بالأساس، إلى نطاق عروبي وإسلامي، لم يخاطب يومًا هوى في نفسي، ولم أجد نفسي فيه كمصري.
الهوية المصرية.. حينما تكون جنسيتك حقيقة بيولوجية | مينا منير | دقائق.نت
تنقلني هذه الجزئية إلى ذكرى نقاش طويل مع صديق على السوشال ميديا منذ حوالي 4 سنوات، وفيه اعتبر صديقي نبيل فاروق ضمن الجيل الذي حرص على تلقيننا ثوابت يعتبرها بالية، وجزءًا من طفولتنا التي عانت من تشويه من حيث الهوية والفكر.
شخصيًا أرى العكس، وأعتبر الراحل من أدوات انقاذنا من التخلف العقلي والمعرفي.
أغلفة لاصدارات رجل المستحيل
إذا وضعنا الثمانينيات كمعيار، وقارننا المحتوى الذي قدمه نبيل فاروق في أعماله، ببرامج مصطفى محمود التي مسخ فيها العلم لخدمة قناعاته الدينية، وقدم فيها الشعراوي أكروباته الشعبوية الريفية التي تسخر من العلوم والطب والحضارة الغربية، وأنتج فيها التليفزيون مسلسلات تزيف وتجمل الحقبة الاسلامية، وفرضت علينا وزارة التعليم فيها دراسة قصص سيرة السفاحين وقطاع الطرق باعتبارهم أبطالا وقدوة، سيصبح نبيل فاروق بالتأكيد في النصف التقدمي.
من “حديث مع الله” إلى أزمة المناديل والقمر.. 3 معارك في حياة الشعراوي | هاني عمارة
لا زلت أذكر حتى اليوم رده على قارئ اعترض على فكرة استنساخ البشر في قصة بعنوان البديل صدرت ضمن سلسلة كوكتيل 2000، باعتبارها فكرة حراما ومرفوضة ومستحيلة، ولا تختلف عما وصفه القارئ بأكذوبة أطفال الأنابيب (حدث هذا بالمناسبة قبل واقعة استنساخ دوللي).
في الرد المهذب، شرح نبيل فاروق أهمية العلوم وضرورة احترامها، واستحالة تجاهل إنجازاتها، وأوضح أن أطفال الأنابيب حقيقة علمية في عالمنا، لا تبالي كثيرًا برأي المعترضين، وأن استنساخ البشر على الأبواب غالبًا.
أغلفة كوكتيل 2000
هذه النقاط بخصوص فكر وقناعات الراحل، تنقلنا لسؤالين أكثر منطقية: هل كان من الممكن لأعماله أن تحقق نفس الرواج والتأثير، لو كانت صادمة وتقدمية للغاية؟ أم أن المنهج الذي سار عليه كان أفضل الطرق، لاجتذاب جيلنا لمحتوى يظل بالتأكيد أفضل من السائد في زمنه؟
بنيت مصر على ثلاثة أعمدة .. فلول العثمانيين استهدفوها جميعا | عمرو عبدالرازق
وهل يمكن تجاهل الطابع الوطني الذي ساد في أغلب أعماله، والادعاء زورًا أنه ساهم في تشكيل جيل إسلامي الميول ولا يعترف بوطن أو هوية أخرى، وهي الجريمة التي ارتكبها آلاف وآلاف من أبناء جيله؟
إجابتي في الحالتين: لا. وأتخيل أنها الاجابة المنصفة.
صفحات من سلسلة ملف المستقبل
رغم كل ما سبق من إنجازات ووزن وإسهام وتفاعل مع ملايين وملايين في سن هو الأكثر حرجا، عانى الراحل نبيل فاروق ومحبيه من تجاهل تام في الوسط النقدي طوال الثمانينيات والتسعينيات، وهي جريمة لم أفهم أسبابها وأنا طفل، لكن أفهمها بسهولة الأن.
الوسط النقدي الأدبي في مصر كان ولا يزال مجرد مستنقع لليسار، وبالنسبة لليسار فهناك محتوى واحد فقط يجب تلميعه ومناقشته وبروزته، وهو المحتوى التثويري الذي يصم السادات ومبارك بالخيانة، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ويعتبر السلطة أصل الفشل.
الاختيار بين مصر الوطن ومصر الولاية .. الدراما المصرية و الإرشاد | محمد زكي الشيمي
نبيل فاروق لم يفعل هذا يومًا، ومالت أغلب كتاباته لخط وطني لا يناهض السلطة، بقدر ما يبارك إنجازاتها في 1973. دعك طبعًا من كون أغلب كتاباته وشخصياته تمجد الأجهزة الأمنية المصرية مثل المخابرات والشرطة، وهذا في عرف اليسار جريمة.
الأسوأ وأسوأ أن مؤلفات نبيل فاروق كانت ناجحة ومبيعاتها بالملايين، وهذا قطعًا استفزازي للغاية، لوسط نقدي وأدبي يساري، يكتب فيه شاعر مقالا طويلا للإشادة برواية جديدة لأديب لم تتجاوز مبيعات رواياته إجمالًا ألف نسخة، كي يرد له الأديب الجميل بمقال إشادة مماثل وقت إصدار الشاعر لديوانه القادم، الذي ستتوقف مبيعاته عند 200 عدد!
موقف نبيل فاروق من أحداث الربيع العربي في 2011 يحمل إثارة أشد، ويلخص أيضًا لماذا تجاهله الوسط النقدي.
ميدان التحرير
لم يتردد نبيل فاروق في إدانة الموقف الثوري، ومالت كتاباته وقتها لوصم الثوار بالديكتاتورية وفرض الرأي على فريق آخر يرفض الثورة، واعتادت الأدبيات الثورية وقتها الاستهزاء به ووصفه بـ (الفلول – حزب الكنبة – أبناء مبارك).
وقتها كنت واحدًا من الثوار الذين افترضوا بالخطأ أن أزماتنا الرئيسية في مصر سببها مبارك ونظامه، وليس وعي عام بائس متدني أقرب للعصور الوسطى، لذا اعتبرت نبيل فاروق مجرد رجل من جيل متحجر غير قادر على فهم بديهيات.
مشكلتنا مع الديمقراطية: 1- هل يريدون الديمقراطية حقًا؟
اليوم وبعيدًا عن نتائج 2011 التي أثبتت أن قناعاتي الثورية كانت خطأ، يمكنني أن أرى موقفه نوعا من الشجاعة النادرة والنزاهة المطلقة أيضًا.
هذا رجل لم يتملق الثوار كما فعل آخرون وقتها، ولم يكتب حرفًا عكس قناعاته، رغم علمه أن أغلب جمهوره بحكم السن قد يكون ضمن الشريحة الثورية.
قد يكون هذا أخر درس تعلمته من نبيل فاروق وأهم الدروس على الاطلاق.
نفاق العوام والجماعات، أسوأ وأكثر شرا بمراحل بمراحل من نفاق السلطات.
والشجاعة الحقيقية ليست في أن ترتدي سريعًا القناع الملائم لكل مرحلة، وتصطف وسط ملايين لتقول نفس ما يقولونه، بل أن تجرؤ على أن تقول العكس في الأوقات الصعبة.
رسمة غلاف لسلسلة رجل المستحيل
وعندما جاء خبر وفاة الراحل، لم أفكر إلا في سؤال واحد بعد تجاوز أحزاني:
ما هو البديل المعاصر المؤثر الذي يتلقاه أطفالنا اليوم، وهم في نفس السن الذي بدأنا فيه قراءة كتابات الراحل؟ وإلى أين سيقودهم هذا البديل مستقبلًا؟
سؤال مرعب يفرض علينا أسئلة موازية كثيرة ويفتح ملفات مستقبل ضخمة، لكنه يذكرنا مبدئيًا بحقيقتين:
1- أننا لازلنا للأسف أسرى لوعي بائس يتعامل مع المحتوى الخاص بالأطفال باستهتار واستخفاف، ويعتبر كل ما يخصهم هامشيا وعديم القيمة والأهمية.
2- لماذا كان نبيل فاروق كوكتيلًا فريدًا من نوعه، وحجرًا من أعمدة الثقافة المصرية المهمة في أخر نصف قرن.
موضوعات متعلقة
نسخة للطباعة
