الصراع على “الدلع”| كيف هزم رجال الدين الدولة الحديثة بالحياة الشخصية | خالد البري

الصراع على “الدلع”| كيف هزم رجال الدين الدولة الحديثة بالحياة الشخصية | خالد البري

10 Mar 2021
خالد البري رئيس تحرير دقائق نت
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

ما الذي يمكن أن يجمع بين المواطنين في دولة مترامية الأطراف، متعددة اللغات، مختلفة البيئات والطبائع؟

معظم تلك الاختلافات عصية على التغيير:

اللغة – حتى بالإجبار – تحتاج إلى أجيال، وتحتاج إلى جيش من المعلمين والإمدادات اللوجستية لتلقين الناس لغة جديدة. لا يمكن أخذها بالشبه؛ فهي حروف وكلمات وجمل ومقاطع وحياة يومية.

البيئة لن تتغير لا بالإقناع ولا بالإجبار.

وحده الدين يمكن أن يتغير بقسم الولاء. من هنا كان الدين أمرا لازما في عصر الإمبراطوريات الكبرى قبل اختراع البارود. وتعاظمت أهمية “رجال الدين”.

مفاتيح السيطرة على الجموع

بكلمة منهم تنتفض الجموع وتهدأ.

بكلمة منهم يضحي المرء بنفسه رغبة في حياة أفضل في الآخرة.

بكلمة منهم ينال الحكم شرعية، وبكلمة منهم ينزعونها.

هذا الجانب من أهميتهم تضاءل باختراع البارود، واحتكار الدولة لحيازته في كميات كبيرة. لأن الجندي النظامي صار قادرًا وحده على رد عشرات الغاضبين.

استطاعت الدولة أن تحيد، وأحيانًا تنفي، أهمية الزيادة العددية، وأهمية القدرة على حشد الجموع غير المدربة.

وبالتالي كان البارود عاملًا مهمًا للغاية في نشأة الدولة الحديثة. لكنه لم يكن العامل الوحيد، لقد كان فقط أحد ساقين يرتكز عليهما وحش المؤسسة الدينية.

مؤسسة المتعة

الساق الثانية تشمل الحياة الشخصية للناس.

رجال الدين كانوا أيضًا مؤسسة “الحياة الشخصية”. وتلك تعني كل لحظة من لحظات حياتنا. كيف تدخل إلى الحمام، كيف تأكل، ماذا تأكل، ماذا تشرب، كيف تختارين زوجك وتختار زوجتك، ما المسموح به من الحب وما الممنوع، ماذا تسمع وعم تصم أذنيك، إلام تنظر؟

أهمية مؤسسة الحياة الشخصية، بصرف النظر عن دورها في الضبط الاجتماعي، أنها مؤسسة المتعة.

 هذا اسمها الأدق إن تحرينا سبب أهميتها. حيث أي متعة في الحياة يجب أن تمر من خلال تلك المؤسسة. وهذا أمر لو تعلمون عظيم. تخطئ الدول خطأ جسيمًا حين تعتقد أنه أمر ثانوي.

البشر يحبون الحياة بسبب ما فيها من متع. يحبون المنشآت والطب والميكانيكا لأنها تسهل حياتهم، لكنهم لا يقعون في غرامها كالأكل والشرب والفنون والجنس.

دولة تخدم أعداءها

حين تتحول سيطرة المؤسسة الدينية على “مؤسسة المتعة” إلى قانون رسمي، في دولة حديثة، فهذا يعني أنهم نجحوا في تحويل تلك الدولة الحديثة إلى دولة دينية منزوعة الأساطير.

دولة دينية منزوعة الأساطير. ما أبشعها!

لكن أيضًا ما أغباها.

لأن رجال الدين هنا سيزدادون أهمية لا العكس. سيتوق الناس المحرومون من المتعة إلى أساطير تعدهم بها. وسيكون الدين وحده مصدر تلك الأساطير. و الجرعة لن تقدم لهم بلا ثمن. سيقدمها رجال الدين مقابل ثمن سياسي. سيشترطون حصول الإنسان على فرصته الوحيدة في المتعة بموقف “سياسي” ما.

وهذا ما فعلته جماعات الإسلام السياسي مع الدول الحديثة التي لم تفهم ماذا تعني عبارة “دولة حديثة”. التي اعتقدت أنها يمكن أن تترك سلطة الحياة الشخصية لرجال الدين على أن تنشغل هي فقط بسلطة الحياة السياسية.

مستوى جديد من الجيم السياسي

الدولة الحديثة إذن لم تستقر باختراع البارود وحده، أي بنزع سلطة الشقاق المسلح، الدولة الحديثة في أوروبا أغرت المواطنين إليها بوعدها إياهم أن تجعل حياتهم أفضل، حين تخلصهم من سيطرة رجال الدين على حرياتهم الشخصية. وتحررهم من سيطرة سلطة الأعراف والتقاليد التي تقمع حرية الفرد الشخصية.

هذا مستوى آخر من “الجيم السياسي”، جملة تكتيكية لم تدركها دول منطقتنا. بل إنها حين تعثرت، ونظرت في أسباب تعثرها، لم تدرك أن المدير الفني لفريق الدين السياسي كان يلعب بها، ويوليها من الاهتمام مثل ما يولي التدريبات المسلحة وأكثر وأكثر وأكثر. يحرصون حرصا دقيقا على تجفيف رحيق المتعة في كل زهرة.

رأينا دولا تعتقد أن الدين السياسي جميل، طالما بعد عن صراع السلطة، فتبنته أو تبنت نسخة منه في قوانينها. هذه الدول لم “تفقه” تطور الأفكار.

بين السياسة والبيولوجي: غرائزنا التي حيرت أديان السماء والأرض| رواية صحفية في دقائق

احتكار “الدلع”

كل حداثة في العالم – باستثناء الظرف الخاص لنشأة الولايات المتحدة – تم في مراحله الأولى من خلال سلطة قمعية سياسيًا. لو كان هذا الحكم حكمًا قمعيًا من الناحية السياسية، وفي نفس الوقت قمعيًا على مستوى الحريات الشخصية، فما الميزة فيه؟

رجال الدين سيعدون الناس في خطبهم بحكم أكثر عدلًا من الناحية السياسية. ليس حرًا، ولكن عادلًا. سيكسبون نقطة.

وفي نفس الوقت ستكون الحريات الشخصية في الدين مساحتها أكبر كثيرًا، ولو لفئة أوسع من الناس.. ليست الجملة السابقة غلطة مطبعية.

رجال الدين يملكون تخريجات في الدين تجعل مساحة الحريات الشخصية في الدولة الدينية أكبر منها في دولة صار الدين فيها قانونًا للأحوال الشخصية، فافتقد إلى التخريجات والتفسيرات والتأويلات.

افتقد إلى العلاقة السرية بين المرء وربه، والعشم في المغفرة. والأهم من ذلك افتقد إلى “الدلع” أو التدليل الذي تحظى به فئات بعينها، يستطيع ذكر مسلم أن يتزوج ويطلق ويعدد بلا قيود، وبأدنى تكلفة. سيفضل النوع الراغب في هذا “الدلع” أن يكون في صف الدولة الدينية.

إن كنت رجل سياسة وفكرت بهذه الطريقة، ربما تنفتح لك مغاليق لم تكن تراها.

ربما تفهم أهمية إنهاء سيطرة رجال الدين على الحياة الشخصية.. وأهمية دفاع الدولة – في صراعها ضد الدين السياسي على السلطة – عن الحريات الشخصية للأفراد.

التحرش وﺍﻟﺼﺤﻮﺓ ﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﻣﻨﺎﻓﻊ ﻣﺸﺘﺮﻛﺔ.. “ﻋﺸﺎﻥ ﺗﺒﻘﻲ ﺗﻘﻮﻟﻲ ﻷ”| عمرو عبدالرزاق

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك