عام 1859م بدأ المهندس فرديناند ديليسبس في حفر القناة، وكان بحاجة إلى عمّال مهرة متخصصين في هذا النوع الشاق من الأعمال.
أشار كريستوس كافاليس، رئيس الجالية اليونانية في القاهرة، حينها، على ديليسبس باستقطاب سكان الجُزر اليونانية القريبة من مصر، مثل: كاستلوريزو وأستيباليا وبتموس ورودس وكاسوس للمشاركة في الحفر.
وبحسب كافاليس، فإن هؤلاء السكان اعتادوا ممارسة الحفر في حياتهم العادية، ولو لم تتوفّر لهم أدوات فإنهم يحفرون بأيديهم العارية.
وبالإضافة إلى ذلك فإن سكان تلك الجزر يمتلكون خبرة بحرية كبيرة ستعينهم على المعاونة في إدارة القناة بعد إتمام حفرها.
استجاب ديليسبس لنصيحة صديقه، وفتح الباب أمام العمالة اليونانية للمساهمة في حفر القناة.
في الأيام الأولى للمشروع، وصل 4 آلاف يوناني إلى منطقة العمل، أغلبهم كانوا من جزيرة كاسوس التي كانت تعاني من أوضاع اقتصادية متدهورة جعلت سكانها بحاجة ماسة لأي عمل.
مثل هذا العدد الكبير من الحفّارين اليونانيين نسبة ضخمة من سكان الجزيرة، لذا وُصف رحيلهم للعمل في منطقة القناة بانه "أشبه بهجرة جماعية".
تعيّن على هؤلاء اليونانين المساهمة مع نظرائهم المصريين في حفر أكبر قناة بحرية في العالم بطول 168كم وعُمق يصل إلى 200 متر في حدّه الأقصى.
خاض جميع الحفّارين هذا التحدي في ظل ظروف معيشية مأساوية تمثّلت في نقص المياه وارتفاع الحرارة وانتشار وباءي الكوليرا والتيفويد.
أغلب الظنّ أن هؤلاء الحفّارين اليونانيين لم يكونوا على دراية أنهم يشاركون في حلم راود البطالمة في فترة حكمهم مصر.
ففي عهد الملك بطليموس الثاني أعاد شقّ القناة التي حُفرت سابقًا في عهد الملك الفارسي داريو الأول، وربطت بين البحرين المتوسط والأحمر.
أُهملت هذه القناة في العصر الروماني وغاب أثرها بعد عقودٍ من الإهمال حتى أعيد إحياء الفكرة في عهد مصر الخديوية.
عقب انتهاء العمل في القناة، واصل عدد من اليونانيين العمل في شركة إدارة القناة لتسيير السفن.
عندما سمعوا أن ديليسبس ينوي إقامة مدينة جديدة بالقرب من القناة طلبوا تسميتها "كاسوس الجديدة". رفُض هذا الاقتراح وتقرر اشتقاق اسم المدينة من الخديوِ سعيد فحملت اسم "بورسعيد".
مثّل العاملون في الشركة النواة الصلبة للجالية اليونانية التي عاشت في بورسعيد. فور تدشين المدينة الجديدة عاش اليونانيون فيها كأغلبية وأكسبوها سمتا يونانيا انعكس على الكثير من أبنيتها المعمارية.
لا تزال بعض هذه الآثار باقية في المدينة حتى اليوم.
عام 1882م بلغ عدد سكان بورسعيد 16500 نسمة، بلغ عدد الأجانب فيهم 5800 أجنبي (منهم 2371 يونانيًا).
هذه الأرقام تضاعفت خلال وقتٍ وجيز، ففي عام 1904م، بلغ عدد سكان المدينة قرابة 50 ألف نسمة، كان منهم 11 ألف مواطن أوروبي. لم تكن العربية هي لغة الحديث الرسمية فيها وإنما الإنجليزية والإيطالية.
عاشت الجالية اليونانية في مصر في ازدهار خلال الفترة الملكية ووصلت إلى 140 ألف فردٍ في أقصى عدد لها، مثلت بورسعيد والإسماعيلية والإسكندرية مراكزها الرئيسية.
لاحقًا، نبغ من الجالية اليونانية الكثير من الأعلام مثل الممثل المسرحي ديموس ستارينوس والشاعر قسطنطين كفافي والراقصة نيللي مظلوم.
عقب قيام ثورة يوليو 1952م وتبنّي الرئيس عبدالناصر سياسات القومية العربية ودخول مصر حربينٍ مع إسرائيل سنة 1956م و1967م دخلت المنطقة بأكلمها في أتون الصراعات.
حاولت الجالية اليونانية الصمود في البداية، فأبدت تأييدًا للقيادة المصرية، ورفض المرشدون اليونانيون التخلّي عن مواقعهم بعد تأميم القناة.
ورغم ذلك فإن دخول المنطقة حربين متتاليتين في 1956م و1967م مثّل نهاية التواجد الكثيف لليونانيين في مصر.
الرواد اليونانيون الذين حفروا قناة السويس