الرئيس التركي رجب طيب إردوغان تقلب في مواقفه السياسية بشكل متكرر عبر السنوات الماضية. في كل هذه التقلبات، التي قفز فيها من سفينة لأخرى، كان غاز شرق المتوسط هو المحرك الرئيسي بطريقة أو بأخرى.
ملف غاز شرق المتوسط يحمل الكثير من التعقيدات والأطراف المختلفة متباينة المصالح إلي الحد الذي يجعله أحد أخطر ملفات السياسة الدولية حاليًا. السبب راجع إلى امتداد أطراف الملف المباشرة وغير المباشرة في أربع قارات، وصراعات تلك الأطراف السياسية والاقتصادية والعرقية والأيديولوجية متداخلة بشكل يزيد الوضع تعقيدًا.
وبرغم أن الأطراف الأساسية للملف هي تركيا من جهة والدول “الأعضاء حاليًا” في منتدي شرق المتوسط للغاز (اليونان، قبرص، إسرائيل، السلطة الفلسطينية، مصر، الأردن بالإضافة إلي إيطاليا) – تعبير الأعضاء حاليًا سببه أن المنتدى قابل لانضمام أعضاء آخرين عند استيفاء الشروط – فإن تعقيدات الملف تمتد بالضرورة لتشمل أطرافًا أخرى من ضمنها ليبيا وسوريا ولبنان وروسيا وألمانيا وأوكرانيا وبلغاريا، بالإضافة طبعًا لدول الاتحاد الأوروبي الأخرى الساعية للحصول على الطاقة والمرتبطة بعلاقات مختلفة بأطراف الصراع، وأخيرًا الولايات المتحدة بحكم علاقاتها بمختلف هذه الأطراف.
يمكننا تلخيص المشهد باختصار فيما يلي:
روسيا بلد يعتمد بشكل رئيسي في موارده الاقتصادية على تصدير الطاقة – خصوصًا الغاز – لأوروبا. كان هذا يجري عبر أراضي أوكرانيا.
خوف الأوروبيين من الاعتماد على روسيا كمصدر وحيد زاد أهمية اعتماد مصدر بديل يتمثل في نقل الطاقة من شرق المتوسط (مصر وقبرص وإسرائيل بالأساس) باتجاه اليونان ومنها إلى أوروبا.
الخيار السابق يخيف تركيا. تبعاته وخسائره عليها تتجاوز الاقتصاد إلى السياسة فيما يتعلق بملفات النزاع مع اليونان وقبرص. لذا سعت مبكرًا لتخريبه عبر محاولات لقلب الموقف الداخلي في (مصر وسوريا وليبيا) لتستطيع – بالتعاون مع أنظمة موالية لها في هذه البلدان – فرض أمر واقع تستفيد منه بالاستيلاء على أجزاء واسعة من المنطقة الاقتصادية الخالصة لليونان وقبرص وربما سوريا، لتدخل شريكًا في اللعبة رغم أنف الجميع.
لكن التغيير السياسي الذي شهدته مصر في 2013 أجهض هذه المخططات في مصر وساعد على إجهاضها في ليبيا.
من جهة أخرى وتوقيت متزامن، أعطى اشتعال الأزمة الأوكرانية والصراع الناتج عنها دفعة لمسارين بديلين للغاز الروسي لأوروبا، لا يمران عبر أوكرانيا، وهما خط السيل الشمالي الذي يمر من روسيا عبر بحر البلطيق لألمانيا، وخط السيل الجنوبي الذي يمر عبر البحر الأسود لبلغاريا، كما تدخلت روسيا لأسباب سياسية واقتصادية بشكل مكثف في سوريا بما منع مشروع تركيا من تحقيق تقدم.
هنا قفز إردوغان بسرعة إلى المركب الروسي، ليقترح خطَا بديلاً للسيل الجنوبي، يمر عبر البحر الأسود إلي تركيا بدل بلغاريا، والذي أطلق عليه خط السيل التركي، وأسس لتفاهمات مع روسيا وإيران على تقاسم النفوذ في سوريا، ووقع صفقات تسلح مع روسيا (صواريخ إس 400) التي اعتبرتها الولايات المتحدة خصوصًا ودول الناتو عمومًا تجاوزًا للخط الأحمر.
قفزات إردوغان لم تأت بنتيجة مستدامة حتى الآن، رغم حصوله على بعض المكاسب المادية من سرقة بترول سوريا أو بعض الانتصارات السياسية المحدودة هنا وهناك. لهذا، لجأ إلى خطوة يائسة أخيرة، وهي الاتفاق الذي أبرمه مع حكومة الوفاق الليبية بالمخالفة لقانون البحار (اتفاقية جامايكا) التي لم تصدق عليها تركيا؛ في محاولة للفت الانتباه، كمدخل إما لفرض أمر واقع، أو لتعطيل المشاريع القائمة، أو للتفاوض مع الأطراف المتصارعة معه في شرق المتوسط، وهي بالأساس اليونان وقبرص ثم مصر التي يخوض معها صراعًا شرسًا منذ سنوات باعتبارها سببًا رئيسيًا في عرقلة مشروعه التوسعي في المنطقة. كما سعى من خلال الاتفاق لطرح بدائل أمام الأطراف الأخرى (إسرائيل والفلسطينيين وإيطاليا والاتحاد الأوروبي) على طريقة نحن هنا.
رغم هذه المحاولات، لا تسير الأمور في صالح إردوغان؛ لأن انعكاسات هذه التقلبات أثارت مخاوف أطراف أخرى – على رأسها الولايات المتحدة – من نتائج سياسة غض الطرف عن عربدة إردوغان في المنطقة.
في هذا السياق، يأتي مشروع قانون الكونجرس الأمريكي، والذي يتضمن نقاطًا تعتبر كلها – من منظور استراتيجي- خصمًا من موقف تركيا.
المشروع الذي قدمه المشرعان الديمقراط روبرت مينينديز والجمهوري مارك روبيو يمكن تلخيصه في :
مشروع القانون لا يتخذ مواقف حادة تجاه تركيا إلا فيما يتعلق بالتسلح بطائرات F35. هذا متوقع بشكل عام؛ بالنظر إلى أن التصعيد لا يمكن أن يحدث دفعة واحدة، خصوصًا مع دولة عضو في الناتو، كما أن إجراءات المشروع بدأت منذ أبريل الماضي، أي قبل اتخاذ تركيا خطواتها التصعيدية الأخيرة في شرق المتوسط.
لكن عمومًا، يمكننا أن نستنتج من مشروع القانون مجموعة المعطيات وشكل السياسة المترتبة على إقراره.
المعطيات يمكن تلخيصها في:
أما السياسة الأمريكية التي يرسمها مشروع القانون، فتتلخص في:
في جميع الأحوال، صدور القانون يعني أن عدد الحبال التي يلعب عليها إردوغان ستزداد تقلصًا.