في 2018، كنت واحدة من مجموعة تلقت إيميلين من المخرجة والناشطة سلمى الطرزي. ناقشت فيهما أفكارها حول حادثة الاغتصاب التي تعرضت لها في أبريل من تلك السنة. الإيميلان نشرهما موقع مدى مصر بعد أكثر من سنتين على الواقعة.
حين استلمت هذين الإيميلين مثل غيري من صديقات سلمى المقربات والمقربين، قبل سنتين، أصاباني بارتباك احتفظت به لنفسي.
قلت لا بد أن سلمى، وإن بدت عكس ذلك، مضطربة بسبب واقعة الاغتصاب التي مرت بها. تخيلوا، امرأة وحيدة في بيتها، في الأربعين من عمرها، تفاجأ بسطو مسلح. هذا وحده رعب.
و لم يكن نهاية القصة.
أحد اللصين المسلحين قرر أن يغتصبها. و كانت من الثبات الانفعالي بحيث قررت هي أيضا أن تجاريه بلا مقاومة، وتظهر له أنها مستمتعة.
سلمى مخرجة. لكن الأمر يحتاج إلى أكثر من المواهب الفنية لكي تلعب امرأة دورا كهذا، صعبًا في بلاتوه، فما بالك حين تلعبه وهي تحت تهديد السلاح. وثمن الفشل ليس كلاكيت ثاني مرة، بل حياتها.
اضطربتُ من الإيميلين بسبب الحيرة، والتساؤلات التي راودتني. بعض تلك التساؤلات استحيت من مجرد مرورها على ذهني في حادث جلل كهذا، فلم يكن واردا أن أسأل سلمى إياها. وبعضها الآخر – إن سألته – لكان بمقام الهرطقة الدينية في دوائرنا.
سألت نفسي مثلًا كيف! كيف استطاعت بيولوجيا أن تحافظ على ثباتها الانفعالي لتقنعه بأنها مستمتعة؟ لم أمارس الجنس من قبل، ولا أزال أعيش مع أهلي. لكنني أعلم من حكايات ذوي التجربة ومن السيدات التي أحاورهن بعد أن تعرضن لاغتصاب، أو يعشن في ظل علاقة زوجية عنيفة، أن الواحدة منا إن شردت جفت، إن شمت رائحة لا تعجبها في الرجل جفت، إن لم تشعر بالأمان أو شعرت بالملل جفت، وصار الجنس مؤلما.
سلمى لم تملك رفاهية الاستجابة البيولوجية الطبيعية النافرة من مغتصب. كان عليها أن تحافظ على أبسط علامات الرضا: كنبرة الصوت، كالفرق الضئيل بين صرخة ألم، وصرخة متعة، وصرخة خوف وهلع، بين صرخة توسل المزيد، وبين استغاثة توقف.
هذا تساؤل استحيت أن أسأله بسبب حساسية الموضوع.
سلمى عرفت أن شريك المغتصب، واللص المسلح، ابن بواب عمارتها. كانت تشتري له الشيكولاتة طفلًا. لم أفهم من الإيميل إن عرفت أثناء الواقعة أم بعدها. ولم أسألها أيضًا. السبب هذه المرة أنه كان تساؤلًا بسيطًا وتافهًا إلى جانب تساؤلاتي الكبرى التي أعقبت قراءة رسالتيها. تساؤلات الهرطقة. التساؤلات التي قررت أن أدفنها تماما. أن أعتبر كأن شيئًا لم يكن، ورسائل لم ترسل، ولم تقرأ.
بداية ارتباكي حين قرأت إيميل سلمى، كان هذا المشهد:
لقد قررت سلمى بعد واقعة الاغتصاب أن ترسم للص المسلح، المغتصب، خطة الهرب. وقررت بعد ذلك أن تبلغ عن السطو المسلح، بينما تتجاهل جريمة الاغتصاب.
لماذا ارتبكت؟ لأن الموقف مربك للجميع. لكن لي بصفة خاصة.
سلمى تصف ما حدث بعد واقعة اغتصابها بأنه كان إيجابيًا من وجوه، أبرزها أنها رأت كيف التئم أصحابها في عمل مشترك، محوره كان الحادثة. إيجابيًا إلى الدرجة التي جعلتها تتخلص من “أنجزاياتي” – هذه هي اللفظة التي استخدمتها في الرسالة – من الاحتفال بعيد ميلادها.
تقصد أن الاحتفال بعيد ميلادها يصيبها بالقلق، لأنها تخشى أن يجتمع أحبتها في مكان واحد فيختلفوا. لكن بعد ما رأت من تعاونهم وتشاركهم قررت أن ذلك لن يحدث وأنها تستطيع أن تحتفل بعيد ميلادها.
طيب. الحمد لله. مشكلة وانحلت في حياتك يا سلمى. قلت لنفسي وأنا اقرأ هذه الفقرة من الرسالتين. لم أكن ساخرة. كما يبدو من كتابتي حاليًا.
أولًا: كل إنسان لديه هموم قد تبدو صغيرة، ولكنها غالبًا مؤشر على هم أعمق. والتواصل بيننا ليس رسائل في علم النفس. نختار دائمًا أن نبسط المشكلة. كأن يقول قائل: “اتطلقوا علشان طبق فول، هو عايزه بالزيت وهي عايزاه بالزبدة”. أكيد الموضوع أكبر من كده.
ثانيًا: من الجيد أن يرى الإنسان في قلب المأساة نقاطًا إيجابية. أن يخلق من قلب ساعة حزينة ساعات للفرح. أن يحول مسرح جريمة إلى مسرح بهجة يجمعه بأصدقائه. ليس مفروضًا على الإنسان أن ينصب في موضع القسوة مأتمًا.
لكن في لقائي الأول بسلمى وأصدقائها بعد أن أرسلت رسالتيها، لم يكن هذا الإحساس الذي وصل إلي. كنا في حدث استلزم وجود عدد غير قليل من صديقاتها وأصدقائها المقربين. وبدا لي أن هناك شعورًا متفقًا عليه بعدم الارتياح. ربما كانت سلمى على حق في النهاية. اجتماع الأصدقاء معًا مقلق.
وربما لا يكون شعوري هذا بشأنهم إلا انعكاسًا لعدم ارتياحي أنا. كأني أسقطت عليهم رغبتي في، وعجزي عن، طرح الأسئلة التي دارت في ذهني، وافترضت أنهم هم أيضا راغبون وعاجزون. كأن كلًا منا ينتظر أن يبادر آخر. وكأن كلًا منا يتحين فرصة للقاء منفرد، لا تشاركي، لكي يبوح لها برأيه.
لا أدري كم منهم فعل. لكنني الآن أعلم، كما تعلمون، أنها وبعد فترة ليست قليلة من الحادثة، اختارت أن تعمم رؤيتها التي خصتنا بها على عدد أكبر من الناس. فنشرها مدى مصر. وفيها ألمحت فعلًا إلى محاولات “متحسسة” من أصدقاء أن يناقشوها في طريقة تصرفها.
انتهى اللقاء المضطرب بسلمى حوالي العاشرة والنصف. طلبت أوبر من وسط البلد إلى الهرم. بيتنا في أحد الشوارع المقابلة لقسم شرطة الهرم. على الرصيف المقابل للمنطقة الواقعة بين قسم الشرطة وكازينو الليل. أسكن في الجزء الواسع من الشارع، الجزء القريب من شارع الهرم الرئيسي.
بعد بيتنا بقليل يتفرع الشارع إلى أفرع أضيق، وبعضها حارات سد بالغة الضيق. شارع واحد من تلك الشوارع من الاتساع بحيث يمكن لسيارة أن تنتقل عبره من عندنا إلى سوق السيراميك في خاتم المرسلين وشارع ترسا.
أبي يقول إن المنطقة التي نسكن فيها كانت جميلة حين بنيت نهاية السبعينيات. لم أر هذا الوجه الجميل منها وإن كانت الإشارات إليه لا تزال موجودة. ولدت عام 88، ومن الطبيعي أن ذاكرتي المتكونة من منتصف التسعينيات لا تحمل ذكريات كالتي يحملها أبي وأمي. أبي يعمل موظفًا في المطبعة، وأمي جامعية تفرغت لتربيتي وإخوتي الثلاثة. أربعة أطفال وأب وأم عدد كبير على شقتنا الصغيرة المساحة. لكن أمي استمرت في الإنجاب حتى أتى أخي بعد ثلاث بنات.
هذا يفسر أيضًا لماذا أنجبتنا على فترات متقاربة، سنتين بالضبط بين كل واحد منا. أنا الثالثة، الأخيرة، في ترتيب البنات، ومفتاح الفرج للولد. محظوظ أخي في حصوله على غرفة بمفرده بينما انحشرنا أنا وأختي الاثنتين في غرفة واحدة منذ قارب البلوغ. في ما سوى ذلك هو أتعس الناس حظًا. أن تولد على ثلاث بنات في منطقتنا مهمة مرهقة.
نصحتني رفيقتي ونحن في الصف الثاني الإعدادي ألا أبلغ أهلي بأننا تعرضنا لتحرش حين التقينا مساء لتصوير أوراق للمدرسة. لكنني خالفت نصيحتها وأبلغتهم. من يومها فقدت فرصة الخروج مع رفيقاتي لأي سبب، وصار نزولي لغير مشوار المدرسة عملية طوارئ. تولاها أبي. ثم سلمها لأخي بعد أن خط شاربه وهو في أولى ثانوي. كنت وقتها في الثانوية العامة، وأخرج أكثر من المعتاد بسبب الدروس الخصوصية.
فضلت صحبة أبي على أخي المتوتر. أبي كان يضع يده على كتفي ويمشي هادئًا، أما أخي فيسير متحفزًا. وجود أبي كان وقاية لا تضطرنا إلى المشاكل. أما وجود أخي فكان نذيرًا بها.
في طريق عودتى ذات مرة تتبعتنا مجموعة من خمسة مراهقين، كان أخي ينظر إليهم بطرف عينه بينما يحاول تجاهلهم. توترت طبعًا وأحسست بتوتره. ظلوا يسيرون خلفنا يتهامسون ويضحكون بصوت عال. ثم يطلقون من أفواههم أصواتًا كأنك تشفط عصيرًا بصوت مرتفع. مع إشارات أخرى مثل “أح أح أح”.
منذ تلك اللحظة بدأ أخي يتعامل معي بعدوانية سلبية في البيت. كأنه يختلق الأسباب لكي يقطع علاقته بي إلى الأبد. مشكلة على كل صغيرة وكبيرة. نقاشات هلامية عن أدائي في الدراسة، وعن كل هذه المصاريف التي أنفقها على الدروس، وعن أهمية تنظيم الوقت. فجأة تحول من أخ إلى أب. في البداية أخذنا الموضوع بمزح أنا وأختيّ، أن أيمن أخانا المنعنع الدلوع آخر العنقود اكتشف أنه أبونا.
أبونا نفسه لم يسلم من عدوانيته السلبية.
حتى موعد هذا الدرس الليلي في الأسبوع التالي مررنا بأسبوع عصيب من الخناق المتواصل في البيت. انتهى بأن أصيب أيمن بمغص شديد في اليوم المقرر للدرس. واضطر أبي إلى توصيلي. جاءت بعدها أجازة نصف السنة وتوقفت الدروس مؤقتًا، ونسينا الموضوع.
لكن في الثلاثاء الأخير من مارس، أذكره لأنني كنت أحمل معي نقودًا سأدفعها للسنتر، وحين شعرت بوخزة إصبع في مؤخرتي وأنا أسير إلى جانب أخي في طريقنا إلى الدرس، كان أول ما جاء على بالي وجعلني أصرخ اعتقادي أن هذا لص سيسرق الحقيبة. وهذا فعلًا ما قلته صارخة حين سألني أخي ماذا حدث. “كان هيسرق الشنطة”.
بمجرد أن التفت أخي نحو “اللص” وقبل أن يفتح فمه، شخر له المراهق المحتمي وسط أصحابه، “سرقتها إيه أنا بعـ**ـتها.”. وفورا بدأ أصدقاؤه يصفقون وهم يرددون، “بعبـ**ـها .. بعبـ**ـها.. بعبـ**ـها”. كانت هذه بداية الزفة.
أخي التفت إلي، وسحبني من ذراعي، وهو يجرني إلى بيتنا متذرعًا، “ياللا ع البيت علشان أرجع لولاد الوسـ** دول”. كان يشتري الوقت. عل معجزة تنقذه من هذه الورطة. بواب العمارة، صاحب دكان البقالة، أبي. أراد سندًا من أي نوع. كنا لا نزال على بعد أمتار من بيتنا لم نصل إلى شارع الهرم الرئيسي. لكن هذه المسافة القصيرة وهو يجرني عائدين مرت وكأنها عمر. لا أفهم لماذا يجرني أنا بغضب وعنف. ولا أعلم ماذا سيحدث. وأفكر في نقود الدرس في حقيبتي. ولا يتردد في أذني إلا صوت أخي، “ياللا ع البيت علشان أرجع لولاد الوسـ** دول”. وصوت الزفة مع التصفيق “بعبـ**ـها .. بعبـ**ـها.. بعبـ**ـها”.
جدران بنايتنا حين وصلنا ضخمت صوت أخي، وخرجت أمي مذعورة خلفها أبي. دخلت إلى البيت باكية، ونزل أبي وخرج معه البواب. والصوت أخرج الجيران إلى البلكونات.
كل ما يهمنا مما حدث أن أبي توعدهم بإبلاغ الشرطة عنهم.
خناقات الشارع ينساها مشاهدوها عقب حدوثها. لكن هذه الخناقة، هذا الأصبع الذي امتد إلى مؤخرتي، ضغط على زر غير حياتي. بلا مبالغة.
صديقاتي الأخريات كن أحكم مني. من البداية فهمن قوانين الشارع ونحين الأهل بعيدًا عنها. سيسرن في مجموعات معًا، إن سمعن كلمة تجاهلنها، وإن شاهدن فعلًا مخزيًا أكملن حديثهن كأن شيئًا لم يكن، وإن تطور الموضوع فكونهن بنات يضمن لهن أن يحميهن الشارع من تطور المشكلة.
لن يكون من الشهامة بحيث يعاقب الجناة، نعم. أعلم ذلك.
لكنه يملك خيار اللاشهامة، وإقناع الجناة أنه في صفهم، وأن عليهم مغادرة المكان. وهي ندالة لا يملك ذكور العائلة رفاهيتها.
المتحرشون الخمسة كانوا من الأحياء الضيقة القريبة. أحياء “الطبقة العاملة”، كما وصفتها سلمى في رسالتيها. وكما اعتدت أن أصفها أنا أيضًا منذ التحقت بالناشطات، في ذنب أرقني وجعلني أحتقر نفسي. وسوف أشرح لكم لماذا حين أصل إليه.
شباب الأحياء الضيقة يستعيضون عن ضيقها بوسع الشوارع القريبة. جعلت لهم الشوارع بيوتا. لهم من شارعنا مقاهيه، ونواصيه، ومفاصله، ولهم أيضا مساجده وزواياه إن كانوا من الجانب المتدين.
أمناء الشرطة في قسم الهرم إما من تلك الأحياء الضيقة أو هناك امتدادات معارفهم. هذه واسطة لن تدخل أبناء الأحياء الضيقة كلية الشرطة، لكنها تخدمهم في القضايا اليومية. والشباب العاملون في كازينو الليل إما من تلك الأحياء أو لهم امتدادات فيها. شيوخ الزوايا والقائمون عليها من تلك الأحياء. وديلرز المخدرات منها أيضًا.
أسرتي تسكن في حي أوسع قليلًا، صحيح، لكنها ملتزمة التزامًا حرفيًا بضيق شققها. هذه حدودها وقسمتها ونصيبها من المنطقة.
أسرة كأسرتي لا تخرج أمناء شرطة. قليل جدًا منها يخرج ضباطًا. ونحن لسنا من هذا القليل جدًا. نحن من الكثير الكثير. ماذا تفعل أسرة من الكثير الكثير؟
نعم، تسأل عن معرفة لمعرفة. وتنال توصية “من ورا القلب”، في كود معروف بين طالبي الخدمات. لأننا لا نملك رد الخدمة، ولا أحد يريد أن يحمل نفسه جميلة من أجلنا.
وعليه فقد وصل أبي بالفعل إلى معرفة عن طريق صديق. وقدم بالفعل شكوى شفهية لا يؤخذ بها لأنه لا يعرف من الجاني. وليته ما فعل. لأن الجاني المراهق لم يظهر مرة أخرى، بل استلم الوردية عنه “اللي يتشدد له”، مع تهديدات مباشرة لأخي، من عيال مبرشمة أشد خطورة، بأنه “هنيجي ننيـ* أختك في قلب بيتكم”، علشان تبقوا تعرفوا تبلغوا كويس. يبدو أن أمين شرطة جاملهم وحذرهم.
حين أقول إن هذه الحادثة غيرت حياتي أعني الكلمة حرفيًا. أبسط التغيرات أنني لم أخرج من البيت مرة أخرى إلا في امتحانات الثانوية العامة بصحبة أبي. لا دروس خصوصية، في أشهر المراجعة. لا مدرسة. لا صديقات. لا شيء على الإطلاق. اقتصرت رؤيتي للشارع على متابعته من خلف الشيش بينما سهرانة أستعد لامتحانات الثانوية. وأرى هؤلاء الذين حبسونا وهم عائدون سكارى، أو مسطولين، يتصايحون آخر الليل. الشارع لهم.
أختي الكبرى كانت في السنة النهائية في الجامعة. بمجرد أن انتهت من امتحاناتها وانتهيت من امتحاناتي حول أبي سكننا جميعًا إلى بيت أهله في المنوفية، وظل هو فقط في الشقة في شارع الهرم. وصار يزورنا كل خميس.. واستمر هذا الوضع حتى تخرج أخي في عام 2013، فعدنا. سبع سنوات كاملة اقتطعت من حياتي إلى فرع جانبي ضيق منها، ليس فيه أصدقائي، ولا يسير في الاتجاه الذي تخيلته لنفسي من قبل. سبع سنوات مجمدة.
سلمى تحدثت عن كون حادثة اغتصابها نموذجًا مثاليًا لتلقي الدعم. وبررت هذا بطبقتها وطبقة الجاني. هذا الجزء أربكني في القراءة التالية. ومنحني أسئلة الهرطقة التي دفنتها. لكنه – قبل ذلك – منحني شعورًا بالنقمة لم أتحمله. كان نقمة على الضحية. على “صديقة”. على سلمى. وأرجو ألا تظلموني وتسارعوا بالحكم علي..
الطبقة “فوق المتوسطة” التي تتحدث عنها سلمى ليست فقط معزولة طبقيًا عن طبقة اللص المسلح المغتصب، لكنها معزولة عنها جغرافيا أيضًا. ليست فقط معزولة جسديًا عنها، لا تلتقي بها إلا في موضع المشغل (مع البواب أو الخادمة) لكنها معزولة عنها بصريًا أيضًا. لا تراها. ومن ثم لا تملك أبسط معلومات عنها. ولا تنال منها منغصاتها اليومية.
البواب والخادمة من الطبقة العاملة، لأنهما يعملان. اللص لص. قد يكون السطو المسلح عملًا خطيرًا، لكنه لا يستحق الانتساب إلى الطبقة العاملة في سياق التمجيد. المتحرشون في مصر في كل الطبقات، نعم. لكن الإعفاء يشملهم جميعًا أيضا. بمعنى أدق، حين تجاهل المجتمع التحرش تجاهله على الجميع، وحين بدأ المجتمع يواجه التحرش، بدأ يواجه على الجميع.
ويظل من الأسهل فضح متحرش في مكتب، عن فضح متحرش في الشارع. ليس صحيحًا أن جناة “الطبقة العاملة” يواجهون العدالة أكثر من غيرهم. ليس صحيحًا على الإطلاق.
لكن كون الأستاذة سلمى من الطبقة “فوق المتوسطة” المعزولة فهي لم تدخل في حسبانها الميكروباصات والأتوبيسات، والمشي على الرجلين في الشارع. التحرشات اليومية التي نتعرض نحن لها. من الذي يتحرش في تلك الأماكن!!
هذا سبب للنقمة، لكنه ليس السبب الأكبر. السبب الأكبر هو التعالي المبطن الموجود في كلام سلمى..
عملت مع الناشطات في قضايا نسوية، وفي قضايا التحرش، لأسباب أعطيتكم منها لمحة خاطفة حتى لا أطيل عليكم. ما لم أسرده هنا ولم أسرد أثره الممتد إلى نفسيتي وقدرتي على التواصل الحميم، أكبر من المساحة بكثير، وربما أعود إليه يوما ما، حين أملك شجاعة سرده.
كانت رسالتنا دائما للضحية كلمة واحدة: تشجعي! والمطلوب منها فعل واحد: أبلغي عن الجريمة!
سلمى تركتنا أمام تفسيرين فقط لكلامها:
الأول: الفقيرة التي يغتصبها فقير عليها أن تبلغ عنه، ولا بأس أن تتبنى سلمى قضيتها في منظمة حقوقية. أما سلمى حاجة تانية. قيمها أسمى. ولا يسري عليها الطلب الذي نطلبه من الضحايا الأخريات. هم أقل من أن يتخذوها قدوة. أحاول أن أمنع ابتسامة على وجهي وأنا أكتب الجملة الأخيرة.
لقد تخيلت سلمى تتحدث مع ضحية اغتصاب من طبقة أخرى: “إنتي كلبة من الطبقات الواطية انتي روح بلغ عن اغتصاب. لو جوزك نفسه خلاكي تنامي معاه بالغصب بلغي عنه. إنما أنا لأ. أنا غير. أنا حاجة تاني”. ما دون طبقة سلمى عليهن أن يبلغن حتى على أزواجهن وأقاربهن وجيرانهن. لكن سلمى…
التفسير الثاني: الاغتصاب مدان إن وجه إلى ما دون الأغنياء، لأنه يفتقد هناك إلى المعنى الثوري. أما إن وجه إلى الأغنياء فعليهم أن يتماهوا مع مبادئهم القيمية، التي تقول إن ثورة الفقراء على الأغنياء من حقها أن تأخذ كل الأشكال.
لقد تخيلت سلمى في هذا المقطع كأنها عبد الله رشدي. أحدهما بجبة وقفطان وقال الله وقال الرسول. والثانية بشعرها وقال السحاب. هي الأخرى تبرر لمغتصب اغتصابه بسلوك الضحية، بواقعها الاجتماعي، بنظرته هو – المجرم – لها. اقرأوا المقطع السابق لو سمحتم وأخبروني إن كنت مخطئة.
على الأقل عبد الله رشدي يقول إن الجرم جرم لكن هناك دوافع يجب أن نضعها في حساباتنا. أما سلمى فكان المجرم بين أيديها وأعفته من الجريمة. ولم تفعل هذا سرًا وتسكت. بل حولته إلى “موقف” تبرره وتنافح عنه.
هل يعني هذا أن علي أنا أيضًا أن أعفو عمن ينتهك جسدي لكي أكون “فشيخة”، ومثالًا للفشاخة؟
هذا السؤال البسيط كشفني أمام نفسي. وسأبوح لكم بالسر. سر المعيشة “في ظل استعارة مكنية”.
الاستعارة المكنية كما درسناها في المدارس بسيطة جدًا. بدل أن تقول أنا كالأسد. تنزع من الجملة أداة التشبيه والمشبه به، وتضع بدلا منه لازمة من لوزامه. فتقول مثلًا أنا أعود لأرتاح في عريني.
تعيش في عرين، إذن أنت أسد.
مرتب أبي الذي عشنا عليه حياتنا ربما، بل حتمًا، أقل من دخل بواب عمارة سلمى. ليس في مصلحة خدمية لكي يزيد مرتبه بالرشوة. ولا يناسبه أن يتودد تسولًا بصباح البيه يا هانم وصباح الخير يا بيه، ولا سيشعر أمثال سلمى بالرضا عن أنفسهم إن سعوا إلى تشغيل ابنه “المتفوق” لو كان لديه ابن متفوق.
أخي خريج كلية هندسة، تخرج منذ سبع سنوات، ولا يجد عملًا. ليس لأنه مظلوم. بل لأنه ابن الطبقة التي “يمارس عليها العدل”. ويتذكر الناس معها كل القواعد.
البقال يأكل الرصيف، وسائق الميكروباص يأكل الأسفلت، والسايس يقتطع من الشارع جراجًا خصوصيًا، وخادم المسجد يملك الأصوات بين الأرض والسماء. وكله له مبررات.
نحن، فقط، القابعون في شققنا، وبين جدرانها.
سلمى تطلق مجرمًا احتمال أن تراه واحدة من طبقتها قليل. تطلقه علينا نحن الذين نتماس معه الأكتاف يوما بيوم. سلمى رأت نفسها، ورأت المجرم، ولم ترني. الحقيقة أننا أفقر ماديًا، وأقل نفوذًا وسلطة من أي طبقة أخرى في الحضر. اللهم إلا المعدمين، والمسيحيين والبهائيين وربما المثليين.
لكنني لا أريد أن أعترف بذلك. ولا أحب أن أعترف بذلك.
أنا أيضًا لا أستطيع أن أشرب كابتشينو كل يوم. لكنني على الأقل أستطيع أن أعيش “كنايات” أخرى من حياة الأغنياء. كنايات قليلة ومحدودة. محدودة للغاية. أهمها دور المدافع عن الفقراء.
كنت أتمنى كناية أخرى عن حياة الأغنياء، كأن يهتم ضابط بانتهاكي، كما اهتم بسلمى، كنت سأمتن له أيضًا كما امتنت، لكنني لم أكن لأشعر بالذنب. أنا محتاجة إلى حماية. إلى إحساس بالأمن. محتاجة إلى حماية من المجرمين المجهولين الذين يملأون الشارع، ويحولون كل خروجة إلى مغامرة متوترة، لا تدرين من أين يأتيكي الـ *****. أما الأشرار المعروفون، كهؤلاء في أماكن العمل، فأنا كفيلة بهم. على الأقل عندي اسمه. أستطيع أن أبلغ الشرطة، أهله، زوجته، أصدقاءه. أستطيع أن أنال منه بطريقة أو بأخرى.
سلمى تعرضت لانتهاك لجسدها، وانتهاك لمقتنياتها. أنا وأسرتي لا نملك مقتنيات نخشى عليها من السرقة. لكننا نتعرض لانتهاكات جسدية.
سلمى أبلغت عن الجزء الذي تتميز به عنا، مقتنياتها. أما الجزء المشترك بيننا وبينها فلم تبلغ عنه. وخرجت إلينا برسالة في العفو “تطبع العنف الجسدي” وتجد له مبررات طبقية واجتماعية.
أشعر كأن سلمى أخبرتني أنها تملك أن تعفو عن الانتهاك الجسدي، لأن عندها الخيار. هل أستطيع أنا أيضًا أن أعفو عن الانتهاك الجسدي الذي لحق بي؟ بداية، لم أنل الفرصة لأن أفعل ذلك. لكن حتى لو فعلت، لو كتبت نصًا عن العفو عن جسدي لما حظيت أيضًا بالترحاب الذي حظت به سلمى. لما وصف نصي بأنه نص مؤسس. لرأوا ثغراته وتناقضاته. لسبب ما كانوا سيعلمون أنه ليس أصليا ولا صادقا. كانوا سيعرفون أن من تتعرض لانتهاك جسدي من الشمحطجية بمعدل يومي لا بد لها أن تقتنص الفرصة لجعل مجرم وقع بين يديها عبرة.
عشرات النساء يخضن يوميًا خناقات مهينة في الشارع لأن الناس تريدها أن “تعفو” عن متحرش، في تحالف صار مألوفًا لـ “قوى الشعب العاملة”. عشرات النساء يرفضن هذا، ودافعهن الأقوى من الانتقام الرغبة في أن تكون خروجتها القادمة أأمن. عشرات النساء يتمنين فقط أن تساهم كل فتاة تتعرض للتحرش بسحب مجرم واحد من الشارع.
تأمل هؤلاء النساء في أن لا تدفع المرة التالية ثمن تهاونها هذه المرة مع متحرش.
لو كنت أنا، لو عفوت أنا عن مغتصب، كنت سأعلم مباشرة في المرة التالية التي أتعرض فيها لانتهاك فداحة الثمن الذي أدفعه لكي أعيش في الكناية. لكن سلمى آمنة. المتكرر في حيهم هو السرقة – 22 جريمة – وهذه لم تتهاون فيها. أما نحن فالسرقات عندنا قليلة (عفوًا أيتها الكناية ليس لديك ها هنا فرصة).
لسلمى بحث يتناول السينما النظيفة، نشر تحت عنوان “يتمنعن وهن الراغبات” وعنوان فرعي: التطبيع مع ثقافة العنف الجنسي. بحث مميز في مجاله، ملاحظات لماحة، مصاغة بطريقة بصرية مميزة من كاتبة مخرجة.
في البداية تعجبت، كيف تكتب سلمى بحثا كهذا، وتختار إليه مدخلا كهذا، ثم لا ترى أن موقفها من مغتصبها هو أيضا تطبيع للعنف الجنسي، وتبرير له، وتحويله إلى “جعلوه مجرما” ثم إلى “جعلونا جميعا مجرمين”، فيصير لا فارق بين جان ومجني عليه.
ثم أدركت أن لا وجه للاستعجاب. ما يجمع بين البحث والمقال أكثر كثيرا مما يفرق بينهما.
جردوا مشهد الاغتصاب من كل ما قالته المخرجة سلمى الطرزي. انسوا ما أضفته عليه من أبعاد اجتماعية وسياسية وشخصية. اعتبروه حدثًا مجهلًا تقرؤونه في الصحف:
“تعرضت امرأة في الأربعين للاغتصاب على يد لصين مسلحين اقتحما شقتها بغرض السطو. تعرفت المرأة على أحد اللصين المسلحين وهو ابن بواب العمارة التي تقيم بها. مصادر الشرطة تقول إن تشكيلات من عصابات السرقة المسلحة نفذت ٢٢ عملية سطو مسلح في محيط المنطقة التي شهدت الحادث الأخير.”
جزء كبير من قسوة الجريمة على المجني عليه تكمن في أنها تكشف لنا حجمنا الحقيقي. لي صديق تعرض لحادثة “تثبيت” من بعض المراهقين. صديقي هذا وصف لي إحساسًا غريبًا بالغضب والرغبة في العنف انتابته بعد الحادث، وصار ينظر إلى نفسه في المرآة نظرة سلبية. كان واعيا بأنه يريد أن يرى نفسه في مشهد يثبت له أنه قادر على العنف، أن ما حدث له من استسلام كان حدثا استثنائيا عارضا. أنه ليس بعيدا بهذا القدر عن الفكرة التي رسمها في ذهنه عن نفسه، عن أنه قادر على بعض البطولات “الصغيرة”، ولو في مستوى الهرب من شوية مراهقين ثبتوه.
شعور شبيه أخبرتني به صديقة سرق منزلها. الشعور بالانتهاك. تجاوزت الحزن على المفقودات ولم تستطع تجاوز الشعور بالهوان. بالضآلة. بأنك غير محصنة ولا محمية، بل يجري عليك ما يجري على غيرك ممن نسمع قصصهم ونروي النوادر عما حدث لهم، مع بعض الشفقة أو كثير منها.
رد الفعل الثاني الذي نصاب به بعد التعرض لـ “انتهاك” هو إعادة كتابة القصة. ليس بمعنى الكذب في تفاصيلها، إنما تنميق هذه التفاصيل في نسق مريح بقدر الإمكان، إلى قدر يقلل من الإحساس بالهوان. ليس الجناة فقط من يعدلون القصص ليبرئوا أنفسهم أو يضللوا العدالة أو يقدموا أعذارا ومبررات تخفيفية. المجني عليهم يفعون ذلك بمعدل أكبر.
لي صديق أدبه أبوه في صغره بأن ضربه عاريا بكرباج سوداني منقوع في الزيت. مشهد كنت أعتقد أننا لا نراه إلا في الأفلام. لكن الصديق لا يحكيه إلا في سياق المدح، كيف أن أباه أدبه فأحسن تأديبه. وكيف أنه سار على الطريق المستقيم بعدها. أما الأزواج والزوجات الذين يبررون العنف المنزلي فحكاياتهم أكثر من إحصائها. والمبررات دائمًا “منطقية”. بمعنى لا يمكن تجاهلها باعتبارها كلامًا فارغًا.
عين المخرجة على ما يبدو رفضت مشهد حادث سطو مسلح، قام به لص نذل استغل وجود امرأة يعرفها في بيتها وحدها، ولم يكتف بذلك، بل اغتصبها تحت تهديد السلاح.
أرادات تحويله من جريمة مكررة إلى حدث كوني. إلى مشهد ماستر. لص مختلف عن بقية اللصوص. وقضايا وجودية. وضحية مختلفة عن بقية الضحايا. ضحية لشيء أكبر من مجرد لص مسلح مغتصب عادي. ضحية لمجرم يليق بها، وجريمة تليق بها.
لكنها لم تنتبه إلى أنها فعلت بالضبط ما أدانته من قبل في الخطاب الذي “يفرق بين الرجالة، وبيتعامل على إن بعضهم “مغتصبين” أكثر من غيرهم بناء على الطبقة والعرق والدين”. كل الموضوع أنها اعتبرت مغتصبها “أقل” من غيره، بناء أيضًا على الطبقة.
أو ربما أنا المخطئة. أنني أنا التي أحاول أن أخلق سيناريو مختلفا. سيناريو يرضيني كصديقة لسلمى لا تريد أن تنقم عليها، ولا على هذه الدائرة من الناس والأفكار. أنا أريد أن أتخيلها خائفة، مجرد خائفة. والخوف على حياتها هو الذي دفعها إلى الإحجام عن الإبلاغ عن قضية الاغتصاب. أن تتعرض لسلمى لتهديد، فتخاف، أهون من أن تتطوع بإطلاق لص مسلح مغتصب.
أريد أن أتخيل أن سلمى حين أرسلت الرسالتين إلى دائرتها المقربة كانت تحاول أن تبرر لنفسها خوفها من الإبلاغ عن المجرم، ولكن وسط دائرة آمنة تتفاعل مع “الإخراج الذهني” الذي أخرجت به سلمى الواقعة.
وأريد أن أتخيل أنها حين عادت ونشرت الرسالتين في مدى مصر فإن هذا كان تكفيرا عن إحساس بالذنب لأنها لم تبلغ عن المجرم – أيا كانت الأسباب – والآن تريد أن تبلغ عنه ببلاغ عام، لمن يهمه الأمر، دون أن تضطر إلى “شعور بالامتنان” نحو الشرطة، ولا إلى الإجراءات المعتادة للتعامل مع قضية اغتصاب.