باحث بجامعة لوزان - سويسرا
حين تشاهد رائعة ستيفن سبيلبرج Munich، سيلفت انتباهك مشهد مفصلي في أول الفيلم. في الإعلان عن أسماء أفراد الفريق الأولمبي الإسرائيلي الذين قتلوا أثناء عملية اختطافهم على يد منظمة أيلول الأسود الفلسطينية أثناء الألعاب الأولمبية سنة 1972.
يسرد المذيع أسماء وصور القتلى الإسرائيليين، بينما يسرد أحدهم أسماء الفلسطينيين الضالعين في العملية، ويضع صورهم على طاولة في مكتب ما. ومع تزامن السرد بين أسماء الضحايا والضالعين في العملية تسمع موسيقى الهاتيكفاه (الأمل) وهي النشيد الوطني لإسرائيل.
تظهر بعد هذا المشهد رئيسة وزراء إسرائيل آنذاك، جولدا مائير، في هذا القبو، حيث تُستدعى للحصول موافقتها على تنفيذ خطة (Operation Wrath of God) التي ستفتح أبواب الجحيم على الطرفين لمدة 16 سنة، ولن تنتهي إلا بقتل آخر فلسطيني شارك في العملية.
من يعرف تسلسل الأوامر (Chain of Command) في الموساد يدرك أن هذا السيناريو غير طبيعي، فلا يعود الموساد في عملياته لرئيس الوزراء إلا في حالة واحدة؛ أن تكون الأوامر خاصة بوحدة غامضة، هي وحدة الاغتيالات المعروفة بـ “القيصرية” (Caesarea)، فما هي تلك الوحدة وما هو تاريخها؟
هذا السؤال يجيب عليه الأكاديمي والصحفي رونين بيرجمان في مجلده الضخم Rise and Kill First: The Secret History of Israel’s Targeted Assassinations.
المؤلف، وهو حاصل على الدكتوراه من جامعة كامبريدج، ويعمل الآن كمسؤول عن قسم الأمن القومي في يديعوت أحرونوت؛ الصحيفة الأوسع انتشارًا في إسرائيل، أمضى حوالي عشر سنوات يجمع فيها مواد مسربة من الموساد مصحوبة بحوالي ألف حوار مع شخصيات حساسة لكي يُخرج هذا المجلد الضخم (خمسمائة وخمسين صفحة) عن أخطر قضايا الأمن القومي الإسرائيلي على الإطلاق، وهي عمليات الخطف والتخريب والقتل التي مارستها وحدة الاغتيالات المذكورة.
أزعج الأمر الموساد بشدة، حتى أن بيرجمان ذكر في حديث له أن رئيس الموساد دعاه إلى الغداء، وقال له صراحةً إنه محظوظ أن رئيس الوحدة المذكورة تغير؛ لأنه لو كان مستمرًا في منصبه لكانت جثته (أي المؤلف) قد اكتُشفت ملقيةً في المجارير. ابتسم بيرجمان، ليقطع الابتسامة رئيس الموساد بوجهٍ عابس قائلًا: أنا لم أمزح معك”.
ما إن خرج الكتاب حتى أحدث ضجة شديدة عالميًا، فتُرجم إلى 17 لغة، وبات مرجعًا لفهم آلية السلوك العنيف في الموساد.
من يقرأ الكتاب يجد في جنباته سؤالًا خطيرًا: هل الاغتيال الأسلوب الأمثل لحل مشكلات إسرائيل؟ وهل يمكن تبرير خلق وحدة مخيفة كهذه خارج كل الأطر الأخلاقية والقانونية؟ لا يطرح المؤلف إجابة، لكنه يترك القارئ مع كم غزير من المعلومات عن نشأة ونشاط الوحدة وأخطر عملياتها التي نجح المؤلف في كشف تفاصيلها.
اضحك صورة ديمونة تطلع حلوة.. ألغاز “الجاسوس الكامل” كيبورك يعقوبيان
ألكسندر يولين.. بطل إسرائيل الذي خدم المخابرات المصرية | مينا منير | دقائق.نت
هل كان الأستاذ رشاد جاسوسًا؟! دليل المخابرات الأمريكية لأكثر طرق التجسس مللًا وتخريبًا
سقوط الجاسوس إيلي كوهين.. أدلة جديدة تؤيد الرواية المصرية
فوضى على ضفاف النيل.. كتاب عن دونالد ماكلين يكشف صراع المخابرات في مصر الملكية
حقيقة رأفت الهجان بين التاريخ والسياسة: ١- الرواية الإسرائيلية
رأفت الهجان بين الحقيقة والخيال: ٢- ملف المخابرات المصرية الذي أبكى صالح مرسي| دقائق.نت
بنظرةٍ شاملةٍ على الكتاب، تجد أنه ينقسم إلى قسمين أساسيين، يتخللهما فاصل بسيط.
القسمين الكبيرين هما للعدوين الكبيرين لإسرائيل تاريخيًا: مصر حتى حرب 73، وإيران. هذا يعكس أولويات إسرائيل الأساسية. القسم الأول (الفصول الستة الأولى) ترينا كيف أن الموساد ووحدته الخاصة استُهلكا بشكل كامل في التعامل مع مصر؛ الكيان الأكبر الذي كان يشكل تهديدًا وجوديًا لإسرائيل، والذي ظهرت بسببه الحاجة لتكوين وحدة تستطيع التعامل بشكل سريع وانتقامي لإيقاف التهديد.
يوضح المؤلف أن البداية كانت مع العمليات الفلسطينية المنظمة التي كانت تعبر غزة والمدن المجاورة إلى العمق الإسرائيلي لتنفيذ اغتيالات وعمليات تفجير. كان أخطرها التعرض لرتبة عسكرية كبيرة، ما استدعى فكرة توجيه ضربة انتقامية عنيفة جدًا تخيف الفلسطينيين وتمنعهم من التفكير في تكرار العملية.
اقترح حينها القائد الشاب والمتحمس أرييل شارون تسلل وحدة إسرائيلية خاصة لمدينة قبية وتفخيخها بالكامل، ثم النداء بمكبرات الصوت على أهل القرية للخروج فورًا.
وبالفعل، نُفذت المهمة في أكتوبر 1953، لكن الكارثة تمثلت في مقتل أكثر من 60 فلسطينيًا، بما حولها إلى مجزرة شهيرة (Qibya Massacre) ارتج على إثرها ضمير المجتمع الدولي، الذي أدانها في جلسة بمجلس الأمن، وأُبلغ بن جوريون بتهديدات القوى العظمى إذا ما كرر هذا السلوك البربري.
في تلك المرحلة، وقد كان عمر اسرائيل يقل عن ست سنوات، كان تأثير مثل تلك الإدانة ضخم عليها، مما حدا برئيس الموساد حينها، والمؤسس الحقيقي للجهاز، إيزر هارل لتبني تكنيك آخر، وهو قنص واغتيال المطلوبين دون إحداث ضجة.
في ذلك الوقت كان لإسرائيل بالفعل وحدة تخريبية خطيرة زرعتها في مصر، وهي الوحدة 131، الأخطر على الإطلاق، وقد أشرف عليها أفضل ثلاثة ضباط في المخابرات الحربية: ماكس بينيت، أفراهام دار (جون دارلينج) وإيفري إيلعاد (بول فرانك). إلا أن الخلية سقطت في العملية سوزانا الشهيرة بفضيحة لافون، والتي لعب في كشفها رفعت الجمال (جاك بيتون) دورًا مهمًا.
بعد هروب أفراهام دار إلى اسرائيل، عرض على هارل فكرة تدريب وحدة مماثلة، لكنها خاضعة للموساد وليس المخابرات الحربية (الآمان) هذه المرة، لتتأسس الوحدة 188.
مع اشتداد بأس الفدائيين الفلسطينيين وعملياتهم المتكررة، خلصت القيادة في إسرائيل إلى ضرورة التخلص من العقل المدبر وراء تدريب هؤلاء، وهو رئيس المخابرات الحربية في قطاع غزة (الذي كان خاضعًا لمصر حينها): مصطفى حافظ، وزميله في الأردن صلاح مصطفى.
بعد خيانةٍ من خلال عميل مزدوج، نجح الإسرائيليون في إيصال كتابٍ يحوي على مادة متفجرة على هيئة ورقة سميكة بمجرد فتح الكتاب انفجرت وقتلت حافظ بمقره في مصر، وفي نفس الوقت اغتالوا صلاح مصطفى في عمان بنفس الطريقة وبتزامن شديد.
باغتيال مصطفى حافظ انهار عدد الهجمات بشكلٍ سمح للموساد بالاعتقاد في نجاح الوحدة 188. انضم إلى الوحدة بعد ذلك من نجى من فضيحة لافون، وأشهرهم إيلي كوهين، وباتت الوحدة مصدر رعب حتى للأجهزة الإسرائيلية، فلم يكن لها رسميًا وجود على الورق، ولم يكن يحددها أي قانون، وتم تجاوز السؤال الأخلاقي عن طبيعة الاغتيالات والعمليات “القذرة” خارج حدود إسرائيل.
لم يكن الاغتيال دائمًا حلًا لمشكلات إسرائيل. في كثير من الأحيان كانت لها تبعات كارثية، كالعمليات التي قاموا بها على أراضي دول أجنبية وجرى كشفها، كاختطاف وقتل علماء ألمان نازيي الخلفية، أو القتل بالوكالة للمعارض المغربي المهدي بن بركة في باريس.
الحالة الأخيرة جرى الكشف عنها في هذا الكتاب الخطير بالتفصيل ولأول مرة، من خلال وثائق نجح المؤلف في تسريبها، لكننا سنتعرض لها في مقال آخر لخطورتها وارتباطها بعملية أخرى.
القسم الثاني من الكتاب يتعرض لتصور يرجح مرة أخرى قيمة اللجوء إلى الاغتيال الممنهج، فقد أثبتت الاغتيالات المتكررة لعلماء إيرانيين أنه يمكن اتخاذ إجراء مؤلم كهذا لإيقاف تسارع البرنامج النووي الإيراني، لكن الحقيقة على الأرض قد ترجح غير ذلك، وهذا جوهر الاختلاف مع المؤلف.
رغم غزارة المعلومات الفريدة والجديدة، لعلي آخذ على الكاتب أنه لم يحاول توفير نوع من التعليق النقدي على تلك المصادر، فرواية إيلي كوهين مثلًا أو سقوط الوحدة 131 في مصر تكشف أنه نقل عن مصادره دون طرح البدائل المتاحة، وكأن ما لديه من شهادات هي حقائق، الأمر الذي لا ينطلي على أي مؤرخ يقوم بعملية الـ Cross examination قبل وضع استنتاجه.
على أي حال، فإن الكتاب فرض نفسه على الساحة وبات مصدرًا مهمًا للمعلومات الجديدة، حتى أن هنري كيسنجر وجون لو كاريه John le Carré كلاهما وجده مرجعًا أساسيًا لا يمكن تجاوزه.
ونظرًا لجودة المحتوى وعلاقته بمنطقة الشرق الأوسط، أتمنى على القارئ العربي الذي يود أن يفهم كيف يفكر جهاز الأمن الإسرائيلي، ومتى وكيف يلجأ للحلول العنيفة، أن يقرأ هذا الكتاب المهم.