ألكسندر يولين.. بطل إسرائيل الذي خدم المخابرات المصرية | مينا منير | دقائق.نت

ألكسندر يولين.. بطل إسرائيل الذي خدم المخابرات المصرية | مينا منير | دقائق.نت

19 Jan 2019
مينا منير دقائق

مينا منير

باحث بجامعة لوزان - سويسرا

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

في الخامس من مارس/ آذار 1949، شن الإسرائيليون آخر هجماتهم في حرب 1948، حيث أحكموا في العملية عوفداه (עובדה‎) الاحتلال الكامل لما بقي من النصف الجنوبي لصحراء النقب، ووصلوا إلى مدينة إيلات، حيث بات لإسرائيل – ولأول مرة – شاطئًا على البحر الأحمر.

لم يصدق اللواء المهاجم مدى نجاح العملية. لم يكن بحسبانه الوصول للشاطئ. لم يجلب علمًا لتثبيته هناك إعلانًا بسيادة إسرائيل، فقطع بعض القادة قطع قماش بيضاء من ملابسهم، طرزوا عليها نجمة داود الزرقاء بقماش قطعوه من قميص أزرق، ليرفعوا “علمًا بلا حبر”، خُلد لاحقًا بنصب تذكاري.

مقترح فكرة العلم لم يكتفِ بذلك. في خضم مشاعره الجياشة بسبب رمزية البحر الأحمر (الذي عبروه هربًا من مصر وفق رواية التوراة) انتزع ملابسه كاملةً، باستثناء طاقيته العسكرية، وقفز عاريًا في البحر، ليصير أول إسرائيلي يفعلها منذ آلاف السنين. سجل الصحفي الميداني صورة القائد المغوار يدخل البحر عاريًا.

لم يدرك المصور – ويا للغرابة حتى الأجيال اللاحقة إلى اليوم – أن تلك الصورة ستكون محل سخرية كبيرة؛ لأن صاحب فكرة العلم الشهير، والصورة العارية، قائد قوة المالباخ الخاصة، ألكسندر يولين، سيصير أحد أهم عملاء جهاز المخابرات المصرية!

ساشا.. البطل السوفييتي

وُلِد ألكسندر يولين في 1912، لأسرةٍ يهودية فقيرة بإحدى جيوب العاصمة الأوكرانية كييف. لم يمض الوقت حتى فاض الكيل بأبيه، عامل الفحم، فهاجر إلى الولايات المتحدة؛ على أمل أن تتبعه أسرته، لكن حظه العسر وضعه على متن آخر سفينة ذاهبة إلى نيويورك، قبل أن تتوقف الملاحة بسبب نشوب الحرب العالمية الأولى، تاركًا خلفه الطفل ألكسندر وأمه وأخته.

كحال باقي أهل المنطقة، عمل ألكسندر يولين في مناجم الفحم، وهي أقسى مهنة في هذه المنطقة آنذاك، وبالفعل بدأ نظره يضعف بسببها. التحق بالجيش السوفييتي الزاحف إلى فنلندا في 1939، وحقق إنجازات، وأصيب في المعارك، فحصل على نوط الشجاعة.

الشاب ألكسندر يولين في أوكرانيا

مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وصل ألكسندر يولين إلى رتبة رائد. حمل في الجيش الاسم الحركي “ساشا”، أي المغوار المدافع عن الوطن، وعُين حاكمًا عسكريًا لإحدى مدن تشيكوسلوفاكيا. لكن الكارثة التي طالته كانت مؤلمة جدًا؛ قُتلت زوجته وابنته الكبرى في القصف النازي الشرس، ولم يبق له إلا ابنته التي لم تكمل عامها الخامس، والتي هُجرت إلى إسرائيل دون علمه.

وطن جديد وبداية جديدة

على ضوء الكارثة، قرر البطل الروسي أن يرحل إلى إسرائيل؛ ليس فقط بحثًا عن ابنته، لكن أيضًا لأنه رأى المستقبل في هذه الدولة اليافعة، كيهودي مؤمن.

رحل في 1949، والتحق بالجيش الجديد، فصار قائدًا لفيلق المالباخ الذي سيطر لاحقًا على صحراء النقب. قاد مع زملائه المعارك المذكورة سابقًا، وبلغت قمة انتصاراته في العملية عوفداه، حيث خلدت الصورة السابقة اسمه، وبات صديقًا لكبار القادة حينها، ساسةً مثل دافيد بن غوريون، أو قادة حرب مثل موشيه ديان.

القائد الكبير ألكسندر يولين

في زهو الانتصارات، تغير سلوك الرجل وصار أكثر كآبةً وعنفًا. لا تذكر المصادر الروسية والإسرائيلية الأسباب. قيل إنه صُدم مع الوقت بقدر الفساد والعنصرية في المجتمع الإسرائيلي، البعيد عن المثالية التي كان يؤمن بوجودها.

في ضوء تلك الكآبة الشديدة، وفي ليلةٍ ما غرق في كؤوس خمرها حتى الثمالة، ارتكب واقعة اغتصاب أسقطت رتبته ومعاشه، وجعلت تاريخه العظيم عرضة للمسح.

قبل الرجل بالواقع البائس الجديد، وعاد إلى النقب في حدود 1952، حيث تزوج ثانيةً، واشترى حقلًا لتربية الخنازير على أمل زيادة دخله.

الخيانة تبدأ من جنيف

في خضم حياته غير السعيدة، وسقوط الصورة المثالية للوطن الجديد، قرر ألكسندر يولين خوض تجربة خطيرة. سافر إلى سويسرا؛ سعيًا للعودة إلى الاتحاد السوفييتي، لكن من الباب الخلفي.

يبدو أن تركه للجيش السوفييتي وانضمامه لجيش بلد آخر جعل عودته مستحيلة، فقدم للسوفييت في سفارتهم بجنيف عرضًا مفاده التجسس لصالحهم، وإفشاء أسرار إسرائيل العسكرية مقابل إعادته إلى أوكرانيا. رفض السوفييت التعاون معه؛ لأنهم لم يصدقوا أن أحدًا بتاريخه يمكن أن يقوم بذلك، وطُرد شر طردة من السفارة.

قرر أن يقدم خدماته لعدو السوفييت اللدود: الولايات المتحدة، فاستقل قطارًا إلى ألمانيا الغربية، وهناك عرض خدماته على الأمريكيين، الذين ركلوه خارجًا لنفس السبب، وهددوه بتسليمه للسلطات الإسرائيلية.

عاد الرجل إلى سويسرا، وهناك خطر بباله أن يخاطب ألد أعداء اسرائيل: مصر. عودة الحرب بين إسرائيل ومصر كانت قد لاحت في أفق 1956، وصارت معارك التخابر بين الدولتين على أوجها، فمن ذا الذي يرفض رجلًا كان أحد أبرز قادة جيش الدفاع وأيقونتها، وإن جار عليه الزمن وصار برتبة أقل، إلا أنه مازال رجل النقب الكبير.


فوضى على ضفاف النيل.. كتاب عن دونالد ماكلين يكشف صراع المخابرات في مصر الملكية


عين مصر على النقب

ذهب ألكسندر يولين إلى السفارة المصرية بجنيف، وهناك وجهه الملحق العسكري، الذي على الأرجح كان أحد رجال المخابرات العامة، إلى باريس، حيث كان للجهاز هناك ثقل قادر على التعاطي مع هذه الشخصية الخطيرة. من هناك يتولى رجال المخابرات العملية بشكل مباشر، حتى نقله، بجواز سفر مصري، إلى القاهرة، ليبدأ الفصل الأخطر في حياته.

في القاهرة، تجمع المصادر، بما في ذلك اعترافاته، أنه أمد مصر بمعلومات كشفت بها صحراء النقب تمامًا، على مستوى التشكيلات العسكرية، وطبيعة التمركز، وآليات الدفاع هناك.

تجمع كل المصادر أيضًا أنه أمضى وقتًا يشرح للمصريين آليات البروباجاندا الإسرائيلية، وكيف يجري توجيه الإعلام في إسرائيل، وما يمكن للقاهرة فعله حيال ذلك، الأمر الذي آلم الإسرائيليين كثيرًا في التحقيقات حينما كُشف بعد ذلك.

بسؤاله عن أسبابه التي جعلته يُقدم على خيانة بلده بهذا الشكل، قال إنه فقد إيمانه بذلك المجتمع، وإنه يؤمن بأن ما يقوم به سيجنب الطرفين الحرب.

تقول المصادر الإسرائيلية إنه اشترط على مصر، مقابل التعاون بعد عودته، ترقيته ليصير ضابط الحالة المسؤول عن كل رجال مصر في إسرائيل، وأن يدير النشاط المصري في تل أبيب، كونه الأكثر خبرة.

يبدو أن الشرط أثار علامات استفهام كبرى عند المصريين، فلجؤوا لتسويفه. تقول التحقيقات الإسرائيلية إنه حصل على مبلغ يسير، قبل إرساله إلى قبرص، ومنها إلى إسرائيل.

الخطأ القاتل

رغم إرساله العديد من الرسائل الجيدة قبيل العدوان الثلاثي، كان حماسه وثقته المبالغ فيها تثير تحفظ الجهاز، الذي حاول تلجيمه دون جدوى.

مع اقتراب موعد الحرب، بعث ساشا برسالة إلى القاهرة، مفادها أنه جند رتبة كبيرة في جيش الدفاع لصالح مصر. هنا قررت المخابرات العامة أن الرجل ارتكب خطأً قاتلًا، وأنه إن لم يمكن إيقافه فورًا، فعليه قطع علاقته بمصر.

تقول المصادر الإسرائيلية إن تلك القيادة هي عوزي ناركيس، أحد جنرالات الجيش.

بحسب الرواية الإسرائيلية، فقد عرض عليه ألكسندر أن يتعاون معه بتحويله إلى عميل مزدوج يخون المخابرات المصرية بتمرير معلومات مضللة، أما الرواية المصرية المذكورة في أحد الكتب القديمة فتقول إن ألكسندر أبلغ المخابرات العامة بنبأ تجنيده لقيادة كبيرة على سبيل أنه بالغ في حماسه لخدمة مصر، وليس لخيانتها.

إما أن مؤلف الكتب لم يعرف بالجانب الإسرائيلي، أو أنه لم يتم اطلاعه عليه، لكن في كل الأحوال فإن المخابرات المصرية قد اتخذت احتياطاتها بالفعل، كما ستُظهر مجريات الأمور.

رفعت الجمال

مباشرة، أبلغ ناركيس الموساد، الذي راقب ألكسندر بغية فضح عناوين مراسلات المخابرات المصرية في أوروبا، لكن مصر لم تلتقط الطعم، بل بالعكس، فقد أخذت خطوة مثيرة، بحسب المصدر المصري، إذ أبلغت عميلها، الذي يحاول تثبيت أقدامه في تل أبيب، جاك بيتون (رفعت الجمال) بالتهيئة لعمل خطير، وهو الإبلاغ عن ألكسندر، بعد أن يلتقي به مصادفة، فيشعر بيتون بأنه خائن لإسرائيل، ويبلغ شكوكه للموساد، فيكسب بيتون المزيد من ثقة أجهزة الأمن الإسرائيلية على حساب هذا الكارت المحروق.

عوزي ناركيس، صديقه الجنرال الذي سلمه للموساد

لم يُعطَ الضوء الأخضر لبيتون إلا بعد أن فاجأ ألكسندر المصريين بمجيئه لأثينا لملاقاتهم. هناك تيقنت المخابرات العامة أن ألكسندر، إن لم يصر عميلًا مزدوجًا بالفعل، فقد صار – على الأقل – لعبة في أيدي الموساد.

بيتون قال للموساد إن الرجل الذي التقاه صدفة على الأرجح يتجسس لصالح ألمانيا الغربية.


نازيون بين القاهرة وتل أبيب: (1) أولريخ شنافت | مينا منير | دقائق.نت


السقوط في يد الموساد

فور وصول ألكسندر يولين إلى مطار بن جوريون، ألقى الموساد القبض عليه، وعلى عكس الرواية المصرية التي قالت إن إسرائيل تكتمت على هذه الكارثة، فإن الصحف الإسرائيلية في 1956 اشتعلت بتحقيقات صحفييها لمتابعة محاكمة أحد أبطالها، وكيف استطاع المصريون استدراجه والحصول على كل ما يريدون منه.

يولين إلى المحاكمة

في أكتوبر، تهافتت الصحف على نقل أحداث المحاكمة، حتى أنه كان من الصعب نقله للمحكمة بسبب التحديات الأمنية المصاحبة لهذه التغطية غير العادية.

خطاب المحاكمة

بينما تسربت الكثير من تفاصيل التحقيقات وجلسات الشهود للإعلام الإسرائيلي، لم تنقل الصحافة فقط “خطبته العصماء”.

في الخطبة، التي ألقاها في نهاية المحاكمة، كشف الرجل عن قدر النفاق الاجتماعي والسياسي الذي جعل من إسرائيل دولة لا يمكن أن تدّعي أي تفوق خلقي على غيرها، وأنه لا سبيل إلا السلام.

ألكسندر يولين مرتديًا بدلته العسكرية في خطابه الكبير الذي لم ينقله أحد

وقف الرجل يتغنى بماضيه العسكري العظيم وخدماته الهائلة لجيش الدفاع، واضعًا الأمر بين أيدي القضاء، الذي احتار في أمره. بفضل خدماته الجليلة لإسرائيل، قُضي بحبسه خمس سنوات فقط في ديسمبر/ كانون الأول 1956، وفي أغسطس/ آب 1957 رُفض طعنه، لينفذ الحكم، ويختفي تمامًا من الساحة بعد خروجه، لكن صورته العارية بقيت أيقونةً لأجيالٍ تلتها كلما تغنت بنصر “حرب التحرير”.

أنشودة: وصلنا إلى العقبة، يغنيها فريق روذشايلد الشهير، وهي أغنية تخلد انتصار العملية عوفداه وتظهر فيها (من الثانية 11) صورة رجل مصر في تل أبيب


الحرب الدائرة على أرضنا ولا نراها | خالد البري | رواية صحفية في دقائق

سعر الحياة الحلوة | خالد البري | رواية صحفية في دقائق


رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك