ستكونين أنت الحذاء.. أزمة الاقتصاد المصري في أغنية المهندس حسام | رواية صحفية في دقائق

ستكونين أنت الحذاء.. أزمة الاقتصاد المصري في أغنية المهندس حسام | رواية صحفية في دقائق

29 Nov 2018
خالد البري رئيس تحرير دقائق نت
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

قبل أن يذهب إلى عمله، نظر المهندس حسام إلى حذائه، وحسم قرارًا حيره على مدار أسبوع: لن يشتري حذاء جديدًا. الحذاء سيتحمل عامًا تاليًا، وهناك أمور أولى.

حسام إذ قرر هذا القرار لم يسمع به قادة اليسار، ولا خرجوا في مظاهرات تنديد بتخريب الاقتصاد.

اقتصاديو القشعريرة في جريدتي الشروق والأهرام لم يكتبوا عنه.

بي بي سي عربي لم تر الموضوع جديرًا بأن يكون “نقطة حوار”.

ساهم هذا في أن ينام المهندس حسام قرير العين مرتاح البال، ضميره منتشٍ. سيحرم نفسه ليوفر حاجات “العيال”.

المهندس حسام، وقد نظر إلى فردة الحذاء اليمنى وغنى لها: “سوف لن أشتري هذا العام حذاءً، ستكونين أنت الحذاء”، غنى المقطع نفسه على مدار مناسبات مختلفة لبنطلون وقميص وجورب، وغناه مرات ومرات لملابسه الداخلية.

لم تسنح له الفرصة – طبعًا – لكي يغني لساعة أبل ولا لابتوب حديث. لم يغن لسماعة بلوتوث أو لمساعدة شخصية مثل أمازون أليكسا، ولا تذكرة طيران لرحلة سياحية. لقد صارت هذه الأمور العادية جدًا بالنسبة لأمثاله في بلاد أخرى صعبة المنال بالنسبة له. أبعد ما تكون عن مجرد التفكير فيها.

نمت مرتاح الضمير يا حسام؟!

نمت مرتاح الضمير يا حسام بعد ما فعلته بثروة مصر القومية!!

نعتقد أن عبارة “الثروة القومية” تخص الممتلكات الكبرى، الضخمة، العملاقة، والمشاريييييييع.

بيينما الثروة القومية في حقيقتها هي أيضًا قميص المهندس حسام، وجيبة الدكتورة سمر، وشبشب أم سعيد، وقصر نجيب ساويرس، والملابس الداخلية للكحيت. نعم. كل هذا ثروة مصر القومية.

حذاء المهندس حسام نمط متكرر.

هناك ملايين المصريين الذين يقررون صباح الأحد، والاثنين والأربعاء والجمعة، أن الوقت غير مناسب لشراء حذاء. ثروة دي ولا مش ثروة يا متعلمين يا بتوع المدارس!

هؤلاء المصريون – غالبًا – لا يشترون مكسرات، ولا ديكورًا جديدا للصالة الرئيسية، ولا أحدث الفساتين، كما أنهم – OMG – لا يغيرون سيارتهم كل عام. ولا يذهبون إلى السينما بشكل دوري. كثير منهم لم يدخل الأوبرا منذ احترقت فيها هند رستم. لا. ليس بسبب احتراق هند رستم، ولا حتى بسبب احتراق الأوبرا نفسها. هذا مجرد تزامن. أعني أنهم لم يدخلوها منذ عام ١٩٥٢، وظل العدد يتناقص يتناقص حتى صار نادرًا حاليًا.

امتناع كل هؤلاء عن تلك الأنشطة الاستهلاكية، وغيرها كثير، مشكلة كبرى، تسحب من الثروة القومية لمصر. والحسابة بتحسب.

لكن المشكلة الأكبر أنهم جميعًا محقون في ما يفعلون، ومن ثم لا نستطيع أن نطالبهم بتغيير سلوكهم. ليس ما يفعلون بخلًا، ولا شحًا، ولا خصاصة. كل الموضوع أنهم يتصرفون بمنطق سليم في إدارة اقتصادهم الشخصي، في حدود إمكاناتهم الشخصية.

هذه إبلهم. وهم رب الأبل.

الاقتصاد مشكلة رب البيت الكبير.

وهو – أيضًا – عنده ضمير، وهو سعيد به. وهذا في الاقتصاد نكسة، كانت يجب أن تنذرنا بالنكسة في غيره.

لو عاش المهندس حسام قبل ١٩٥٢ لما كان ثريًا، ورغم هذا، لكان قادرًا أن يلبس البدلة ليلة الخميس، ويشبك يده في يد زوجته مدام ثريا ويذهبان إلى السينما، أو المسرح، أو يجلسان في نادٍ ويتعشيان.

والسبب في أنه حاليًا لا يفعل ليس – مرة أخرى – الإحراق المتعمد لـ ٤٠ سينما و١٣ فندقًا و٩٢ حانة و١٣ ناديًا، في نفس يوم احتراق الأوبرا. من السهل بناء غير تلك التي احترقت. السبب هو أن العقلية التي أحرقت هذه “الاقتصادات التافهة” هي التي أدارت الاقتصاد بعد ذلك. وأن الضمير الذي أحرق هذه الأهداف “الطفيلية” وهو مرتاح، هو الذي تحكم في الوعي.

منتقدو الوضع الاقتصادي والاجتماعي لمصر قبل ١٩٥٢ يقولون إنه كان مجتمع النصف في المئة. ليس هذا دقيقًا، لكن الفكرة العامة صحيحة.

كانت هناك طبقة ثرية للغاية. ضيقة. أقل كثيرًا من نصف في المئة. نقطة في وعاء ماء. هذه الطبقة تمثل الملك والحاشية والباشوات ومن لف لفهم.

حولها دائرة أوسع قليلًا يمكن اعتبارها الطبقة الوسطى العليا، تجارًا ومستثمرين ومقاولي عقارات وأصحاب مصانع ومصالح. طلعت حرب مثلًا.

حولها طبقة متوسطة المستوى، وصغيرة أيضًا، تستطيع تعليم أبنائها تعليمًا جيدًا، في مدارس أجنبية، وتسكن في أحياء جيدة المستوى، فيها شقق سكنية في بنايات، لا فيلات ولا حتى بيوت مستقلة. لو عاش المهندس حسام في تلك الأيام لانتمى غالبًا إلى تلك الطبقة.

ثم طبقة وسطى دنيا، طبقة صغار الأفندية الموظفين، من ذوي المؤهلات دون المتوسطة، وصغار الحرفيين، تسكن في أحياء أقل مستوى، لكنها أيضًا نظيفة.

ثم طبقة عريضة جدًا من الفقراء في الريف.

لكن.

هؤلاء المنتقدون أنفسهم لن ينكروا أنه في تلك الفترة كانت لدينا نجاحات. قطاع مصرفي ناشئ، صناعة ناشئة، صناعة سينما متطورة تفيد تقديرات بأنها كانت الثالثة عالميًا في كم الإنتاج (بعد الولايات المتحدة وإيطاليا)، قطاع مسرح نشيط بالنظر إلى عدد الفرق المسرحية الخاصة المتزامنة، قطاع ثقافي متميز في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، إنتاج غنائي متميز، ثم محلات تجارية لا مثيل لها. كل هذا برأس مال مصري وأجنبي خاص، ومتنوع.

لم تكن تلك القطاعات، ولا سيما قطاعات الفنون المختلفة، لتزدهر لولا أن هناك “طلب” عليها، لولا أن هناك زبائن لها.

زبائن أوسع كثيرًا من فئة النصف في المئة التي يتحدثون عنها.

وبالتالي كانت هناك شريحة من المصريين، لا بأس بعددها، تمثل الثقافة لهم بندًا مهمًا، ويمثل الترفيه لهم بندًا مهمًا. ثم إنهم قادرون على الإنفاق عليه. وهذا مؤشر مهم. يذهبون إلى السينما بكثافة تسمح بتغطية تكاليف مئة فيلم في السنة، ويذهبون إلى المسرح بكثافة تكفي لتغطية تكاليف عدد كبير من الفرق المسرحية الكبرى، بالإضافة إلى عشرات المسارح الصغيرة والتياتروهات.

يتواكب مع كل هذا – بالضرورة – سلوك حضري، يكتسبونه، بغض النظر عن تواريخهم العائلية. يجب أن تتذكر أن رموز النخبة في ذلك الوقت من أصول بسيطة، أم كلثوم، طه حسين، طلعت حرب، مصطفى النحاس، العقاد، أنور وجدي، إسماعيل ياسين. هذا يعني أن المجتمع كان يتحرك رأسيًا، وكان يتيح للموهوبين في السياسة والفنون والصناعة والاستثمار أن يصلوا إلى القمة. الصورة القاتمة التي نشاهدها في الأفلام التي خرجت بعد إحراق سينمات القاهرة ليست دقيقة. جمال عبد الناصر والسادات وغيرهما كانوا أبناء بسطاء، لكنهم دخلوا الكلية الحربية، ولم تستثنهم “كشوف الهيئة”.

لقد كان مجتمع حراك اجتماعي.

هناك أيضًا – بالضرورة – يد عاملة قادرة على تحقيق مستوى جودة مرتفع بما يكفي لتشغيل هذه القطاعات الإنتاجية الحديثة في العالم. من قطاع الخدمات، إلى قطاع الفنون، إلى قطاع التصنيع، إلى قطاع المصارف.

ما هذا؟

هذا “اقتصاد الطلب”. سنعود إلى هذه العبارة كثيرًا.

كل نقطة مما مضى، كل جملة، مهمة فيما هو آت.

كلمة الطلب إحدى الكلمات غير المفهومة في الاقتصاد، رغم تكرارها المكثف في عبارة “العرض والطلب”. العبارة بالإنجليزية هي Supply and Demand، الإمداد والطلب.

المشكلة هنا هي الخلط بين لفظ الطلب، ولفظ الحاجة. الفارق بين الاثنين ليس واضحا تماما حين نستخدم معايير غير اقتصادية في النقاش الاقتصادي. ما يحرك الاقتصاد ليس توفير ما يحتاج الناس إليه، وإنما ما يطلبونه. أي ما تحولت حاجتهم إليه إلى قدرة شرائية على الحصول عليه. أي تحول الـ need إلى demand .

الطلب، بهذا المعنى الاقتصادي، نقطة البدء في متوالية سوقية، يرى مستثمرون فرصة استثمارية في أن يوفروا هذه السلعة المطلوبة، فيقبل عليها الطالبون، ويدفعوا أموالًا، تحقق للمستثمر ربحًا. ويغري هذا آخرين بالدخول إلى نفس السوق، وتوظيف عمالة. ويغري هذا الأيدي العاملة بأن تتعلم المهارات المطلوبة لهذه الوظيفة. وهكذا. حتى يتشبع السوق. يتشبع سوق الطلب.

الإمداد يستمر طالما الربح العائد من الطلب يزيد عن التكلفة، ويبرر المخاطرة الاستثمارية. اقتصاد الطلب، بالتالي، يستدعي توسعًا مستمرًا، بحثا عن سوق جديدة، بأفكار جديدة، غير التي تشبعت.

لو افترضنا أن هذا الطلب هو مشاهدة الأفلام السينمائية. لا بد أولًا من منتجين يستثمرون في القطاع لأنهم رأوا فرصة سوقية. لا بد بعد ذلك من فنانين، ومخرجين، ومصورين، وعاملي إضاءة، وشيالين، ومهندسي ومهندسات ديكور، ومونتيرين، وكتاب، وسائقين، وطباخين، وموردي ملابس، إلخ. هذا من ناحية الإنتاج. لاحظ تنوع الشرائح والطبقات الاجتماعية التي تعمل في القطاع.

هناك خدمات ما بعد الإنتاج، كالتوزيع والعرض في دور السينما المختلفة، وقطع التذاكر، وتنظيف السينمات، والدعاية والإعلان، وعمال لصق الأفيش، إلخ.

ثم هناك المنتجات الثانوية بداية من صناعة الفشار والآيس كريم، وصولًا إلى إعادة إنتاج أغاني الفيلم في دورة إنتاج موسيقي.

كل فيلم واحد يتطلب هذا.

بعض هذه المهن موجودة في المجتمع من قبل، وبعضها مستحدث، لأن الطلب نفسه مستحدث. هذا معناه ليس فقط تشغيل عمالة إضافية، بل خلق فرص عمل. في مجالات لم تكن موجودة من قبل.

ما يسري على الفيلم السينمائي، يسري أيضًا على تصميمات البيوت الذكية الآن، على سيارات الكهرباء، على الذكاء الاصطناعي، وعلى الاتصالات قبلها، وعلى الكمبيوتر قبلها. مجالات جديدة إما تنشأ استجابة لطلب، وإما تخلق طلبًا ثم تتوسع استجابة لتزايد الطلب.

مجالات جديدة تنشأ بإغراء الربح للمستثمرين، لكنها لاحقًا تفيد المستهلكين بسبب تناقص السعر في السوق المتشبع. من النادر في العالم أن تجد إنسانًا لا يملك هاتفًا محمولًا، حتى لو كان نوعًا قديمًا. الأسعار صارت في متناول مختلف الطبقات.

العملية العكسية بالظبط تحدث لو سحبت الوفرة من السوق. لأي سبب. يتقلص الطلب. يتقلص الطلب على سيارات اللامبورجيني. ثم يتقلص على فنادق الخمس نجوم. ثم يتقلص على المسارح، فالسينمات، فالمطاعم جيدة المستوى، فالنوادي، حتى يصل إلى حذاء المهندس حسام وأكثر.

تنخفض عدد الأحذية المطلوبة. يتقلص سوق صناعة الأحذية. يفقد عدد غير قليل من العاملين في السوق وظائفهم. يتجه السوق إلى إنتاج أحذية أقل جودة تناسب القدرة الشرائية المحدودة. تضيع مهارات صناعة الأحذية.

طبق هذا على أي قطاع. من الأحذية إلى السينما والثقافة.

هذا بالضبط ما فعلته مصر بعد ١٩٥٢.

كما فعل من أحرقوا القاهرة حذو القذوة بالقذوة.

لتحييد كل العوامل الأخرى، والتي تتمحور حول ادعاءات بـ “المظلمة التاريخية”، والتي لا مجال للتعامل معها هنا، وأيضًا للتركيز على الجانب الاقتصادي الذي أتحدث عنه، تعالوا ننظر في هذا المثل.

صباح خميس، قرر المصريون أن يشمروا سواعدهم، وأن يخضروا الصحراء. حمل هذا دلوًا وأسند ذاك على كتفه فأسًا، وانطلقوا إلى الصحراء.

من بين هولاء الملايين الذين يزرعون “ع التوتة والساقية، ويلمحون كل يوم عصفور، فرحان يغني ويرقص للندى والنور”، كانت قلة قليلة تنظر إلى العالم، وتدرك أن التوتة والساقية لم تعد مجدية، وأن العمل العضلي ليس ذا قيمة، والعامل الذي يضرب بالفأس أو يحمل القيروانة ويصعد السقالة، لا يساوي مجهوده سعر الطعام الذي يأكله. لماذا؟ لأن العالم تغير. ولم يعد بحاجة إلى المجهود العضلي ولو كان يكلفه ما يتكلفه “العبد” في أمريكا.

من بين هؤلاء أمثال المهندس حسام. لكن هناك من أكثر ثراءً منه، وهناك من هو أقل ثراء. هناك أيضًا طبقة صغيرة فاحشة الثراء.

الآن نحن في صباح يوم جديد. صباح الجمعة. دولة جديدة وقوانين جديدة. وعلينا أن نقرر ماذا نفعل مع هؤلاء. وقف أحدهم وأعطانا خطبة عصماء عن الحقوق التاريخية. فاقشعرت الأبدان، وحق العزم: سنأخذ أموال الطبقة فاحشة الثراء، فقط، ونوزعها على أصحاب التوتة والساقية والطورية والشادوف.

ماذا فعلنا؟ اقتصاديًا.

لقد قضينا على الأنشطة الاقتصادية “الطفيلية التافهة”. على الطبقة التي لديها الوفرة لكي تنفق على مثل تلك الأنشطة “الطفيلية التافهة”. ليس استهلاكًا، وإنما استثمارًا أيضًا.

لقد أحرقوا – الله وكيلك – الاستثمارات الطفيلية من فوق، تمت المهمة الأولى.

وربك يسهل ويستثمرون في الرمل (من تحت).

لقد أزاحوا – الله وكيلك – المستهلكين الطفيليين من فوق، تمت المهمة الأولى.

والآن سينفخون في استهلاك الطبقات الأصيلة (من تحت).

تمامًا كما حدث في اختيار أهداف حريق القاهرة.

بالعودة إلى الزاوية التي نتحدث منها، لقد قلصنا سوق “الطلب”. وهو ما يعني أننا قلصنا سوق الإمداد.

ستقول قائلة، محقة، لكننا وسعنا سوق الطلب في أشياء أخرى، وبالنسبة لها “أهم” من هذه الأنشطة الطفيلية. ووسعنا قاعدة الطالبين في أشياء أخرى، “أهم” من هذه الأنشطة الطفيلية.

لكن من الناحية الاقتصادية. ماذا يعني هذا؟

يعني أنك خلقت سوق طلب أكبر من القدرة على الإمداد في هذه القطاعات التي تتحدث عنها. وهي بالتحديد قطاعات الطعام والشراب وغيرها من “الحاجات الأساسية”. أعدت توجيه سوق الطلب نحو نقطة معينة، دون أن يكون الإمداد قادرًا على الوفاء بها. 

طيب ما تخلي الإمداد قادرًا على الوفاء بها؟

الإمداد هو محصلة “إنتاجية”، وليس قرارًا. لكي يتوسع الإنتاج لا بد من حافز لمزيد من الإنتاجية. ولا بد من علاقة اقتصادية سوية بين تكلفة المادة الخام وتكلفة تصنيعها، ثم سعرها. ولأننا نعيش في عالم تجاري، فالاقتصاد يعتمد على موازنة الندرة والوفرة، لديك ولدى غيرك. إن كانت تكاليف الاستيراد أقل من تكاليف الإنتاج المحلي فمن الحكمة استيراده.

كانت طريقة الإنتاج الزراعي في مصر قد تجاوزها الزمن. العلاقة الإنتاجية لها خاسرة، كمتوالية متناقصة. الطبيعي – تاريخيًا – أن أمثال تلك المهن تتراجع إلى مستوى يحقق هذا التوازن. هذا ما حدث مع مهنة كانت تشغل قطاعًا كبيرًا في الماضي، مهنة النساخين، حين ظهرت الطباعة. ومع مهنة السقايين حين مدت مواسير المياه، ومهنة العربجية عند ظهور السيارات، كما تقلصت مهنة المحاسبة بظهور الحاسب الآلي والكمبيوتر. وتراجعت قيمة الفرسان وأصحاب الخيل بظهور البارود. وحاليًا يحدث الشيء نفسه للصحافة الورقية.

هذا سياق تاريخي طبيعي.

الاندثار يحدث طواعية، حين تسوء ظروف مؤدي المهنة فيتخلى عنها، ولا يتشجع آخرون للانضمام إليها. الحقيقة الاقتصادية متناغمة مع الحقيقة التاريخية. بهذا الوضوح. الشهشقة مع أغاني عبد الحليم والشيخ إمام، والتسبيح بحمد الفلاح عمال على بطال، تفسد الاقتصاد.

طريقة الزراعة المصرية لم تكن قادرة على تحقيق الكفاية لسوق عريضة توجهت كلها إلى الأكل والشرب. وسياسة توزيع الأراضي لم تضع ضغوطًا على الفلاح لكي يتطور. بل أدخلته في سوق الطلب، دون زيادة في الإنتاجية توازي (لاحظ المقصد) قدرته الشرائية الجديدة. 

تخيل أنك في بناية، على الروف هناك سينما، في الطابق الأسفل منها معرض سيارات، وفي الطابق الأسفل محلات ملابس سينييه، وفي الطابق الأسفل خضروات وفاكهة ولحوم. وفي الطابق الأسفل جبنة قديمة وبصل.

الأموال الموجودة في جيوب سكان البناية في تلك البناية موجهة بتفاوتات طبقية.

الآن أعدت توزيع الأموال في جيوب الناس، بحيث جعلت الجميع قادرًا فقط على الإنفاق على الأكل والشرب. ماذا سيحدث؟

يحدث تضخم.

زيادة الطلب عن المتوفر.

لماذا لا يتوفر المطلوب. لماذا لا نركز جميعًا على إنتاج الأكل والشرب ونعيش في هناء ومساواة، ثم نفكر في الأمور الأخرى؟

أشرت إلى الإجابة سابقًا، والآن أوجزها في نقاط:

لأن من ينتجون الأكل والشرب ليس لديهم الدافع لإنتاجه:

أولًا: المزارعون يزرعون بطريقة قديمة. لم يطوروا أنفسهم. وبدلًا من أن تدفعهم إلى تطوير أنفسهم أعطيتهم أموالًا (نعم في صورة أراض لكنها تشبه أن تعطيهم أموالًا). لقد صاروا طالبين إضافيين في سوق ضيق، دون احتياج إلى تطوير مهاراتهم.

ثانيا: المستثمرون قلقون، من ناحية لأن قلة المنتج الزراعي بالنسبة للطلب يعني أن سعر التكلفة عال، ومن ناحية لأن سياساتك مقلقة لأي مستثمر، ومن ناحية لأن إعادة توزيع الثروة قضت على الشريحة التي لديها الوفرة للمخاطرة الاستثمارية.

لاحظوا أنني لا أناقش الموضوع من زوايا أخرى. أتناوله فقط من زاوية واحدة: هي المعادلة البسيطة (الإمداد والطلب). لكن من هذه المعادلة البسيطة التي بدأناها من اضطراب معنى كلمة الطلب في أذهاننا، ووصلنا إلى “التضخم” الحتمي بسبب تقليص النشاط الاقتصادي وتوجيهه إلى منطقة بعينها، الآن سننتقل إلى الحريق الذي يمكن إشعاله، أما السيطرة عليه فمستحيلة.

لو افترضنا جدلًا أن من تخلصوا من “الطفيليات” وأحرقوها توقفوا عند هذا الحد. تراجعوا بعيدًا عن الحريق الذي أحدثوه وتركوا السوق الحر تعمل من جديد، تركوا الاقتصاد يتحدث “صادقًا”، والأثر الاقتصادي لفعلهم يظهر. ماذا كان سيحدث؟

سترتفع الأسعار بجنون في السوق الذي – فجأة – صار كثيرون قادرين على المزاحمة فيه بالطلب، لكن الإنتاج لم يتسارع بنفس القدر.

لو حدث هذا لكانت ضربة قاصمة لسياسة ناصر الاشتراكية. لاكتشف الناس أن ما حصلوا عليه من “ثروة” لا قيمة له. لأنه سيتبدد بالتضخم. بحيث صار من الأفضل استيرادها، فجودة المستورد أفضل وأرخص، لكن ليس هناك مستثمرون لكي يستوردوا. الدولة تبنت اقتصادًا مغلقًا. 

لا بد إذًا من “تلفيق” جديد لمداراة هذا العرض. ما هو؟

التسعير الإجباري. وهذا سيفشل طبعًا؛ لأن الناس تريد شراء السلعة، والسلعة المنتجة لا تكفي الطلب. كما أن منتجي السلعة سيخسرون لو باعوها بالسعر المفروض. والنتيجة الحتمية السوق السوداء. بعد حملة من التشهير بـ “التجار المستغلين”.

الخطوة التالية هي الدعم. أن تعترف الحكومة سرًا بأن سياستها أدت إلى التضخم/الغلاء، وأن السوق المحلية لم تعد قادرة على الوفاء بالطلب.،فتستورد هي السلعة وتدعمها، ثم تبيعها بالسعر المنخفض.

الدعم ببساطة يعني توزيع مزيد من الأموال في السوق. صحيح أن هذا التوزيع يحدث مستترًا، لكنه في حقيقته توزيع أموال. وهذا يعني أن السبب الأساسي الذي فاقم المشكلة تكرر. لقد صار هناك عدد أكبر من الزبائن القادرين على شراء السلعة بسعرها الحالي. بل إن البعض يجد أنها طعام أرخص لدجاجه، فيشتري المزيد ليطعم الدجاج منها.

لقد دخل الدجاج إلى سوق الطلب.

ما الحل؟

الترشيد الإجباري rationing أو ما نسميه في مصر التموين. ستحدد الحكومة الكمية المستحقة لكل فرد من تلك السلعة. وتوزعها على البطاقات أول كل شهر.

عند هذه النقطة لا بد أن نتوقف. ونتفكر. وأعدكم أننا سنلطم سويًا لطمًا كربلائيًا في الجزء التالي.

لا بد أن نتوقف لكي نعيد تقييم مجمل الوضع في النقطة التي وصلنا إليها من المعادلة الاقتصادية المصرية في فترة ما بعد إحراق القاهرة في ١٩٥٢.

لو كنت في أسرة ريفية فالمعادلة كالتالي. تعيش في بيت ملك، حتى لو كان متواضع المستوى من الطين اللبن فهو بيت ملك، لا تدفع له مقابلًا. وعلاقة أبناء الريف بالبيت ليست كأبناء الحضر المحبوسين في شققهم السكنية. ازدحام البيت يبدو أقل بعثًا على الاختناق في الريف.

ميزانية الملبس في الريف لا تشكل ضغطًا كبيرًا على الأسرة كما هو الحال في الحضر. كما أن هناك كسوة الشتاء التي توزع ملابس على الفقراء.

التعليم مجاني. من الابتدائية حتى الجامعة. والتوظيف لخريج الجامعة تكفله الدولة.

تحصل على تموين شهري بما تحتاجه من زيت وسكر وشاي وأرز، والخبز مدعوم.

بالحكمة البديهية. كيف تزيد فرصك في تحسين وضعك الاجتماعي؟

هناك طريقة واحدة. أن تنجب مزيدًا من الأبناء.

مزيد من الإنجاب، يعني مزيدًا من حصص التموين، يعني مزيدًا من تكاليف التعليم التي تتكفل بها الدولة، مما يعني مزيدًا من “توزيع الأموال المستتر”.

ولو خرجت أبناءك من الجامعة، تضمن دخلًا أكبر من دولة متعهدة بالتوظيف.

كل هذا دون ضغط على المزارع لكي يطور أدواته الإنتاجية.

مما يعني مزيدًا من شح المعروض في مقابل المطلوب.

تكتمل الدورة مع الأبناء، التوظيف دون “مبرر إنتاجي” عبارة عن ضخ أموال “لا توازي” الإنتاجية، ومزيد من الخلل في ميزان الإنتاج (الإمداد)/الطلب (امتلاك القدرة على الشراء).

لكنه يعني أيضًا مزيدًا من الموظفين بلا عمل. ومزيدًا من الشبابيك غير الضرورية التي تمر عليها لتخليص معاملة كانت تستلزم شباكًا واحدًا.

لكنه – هنا، في سياق ما نتحدث عنه – يعني مزيدًا من التضخم بسبب خراب معادلة الإمداد والطلب.

أعرف أنك ستسألني مرة ثانية، بعد أن سألتني سابقًا: ولماذا لا تنتج الدولة أكثر؟

والإجابة، وقد طفشت المستثمرين وامتلكت هي رأس المال، فقد بددته “بضمير”. كما بدد حارقو القاهرة اقتصادنا “الطفيلي” بضمير.

على العموم لا تستعجلوا. لا نزال في الريف. الآن سننتقل إلى الحضر.

أمنت الدولة الاشتراكية لنفسها ولاء الريف. هذا قطاع عريض لا بأس به، وله نسبة ٥٠٪ من مجلس الأمة/الشعب.

دعم الأكل والشرب لم يعد يكفي، ومجانية التعليم لم تعد تكفي، وشجع على مزيد من الإنجاب. كل هذا فاقم من التضخم (المستتر).

لم يعد ثوب الدولة قادرًا على مداراة كل هذه العورات الاقتصادية التي تسببت فيها. ماذا تفعل؟

بعد أن أحرقت “الطبقات الطفيلية” من فاحشي الثراء، ستدير الآن وجهها إلى طبقة صغار المستثمرين، هؤلاء مصريون أقحاء، لا مجال للحديث عن “ظلم تاريخي” حصلوا به على ممتلكاتهم. والممتلكات لن تتعدى بناية أو اثنتين أو حتى خمسًا.

قررت أن “تدعم” الشقق السكنية أيضًا، ولكن بأسلوب جديد. سيتحمل الدعم هذه المرة هؤلاء المصريون الذين كافحوا وصنعوا لأنفسهم قدرًا بسيطًا من الثروة. والآن تقرر الدولة أن تشتري ولاء قطاع آخر من المواطنين على حسابهم، وأن تشركه في ممتلكاتهم، وبالمرة تخفض أرقام التضخم على حسابهم.

حسب الخط الذي نتبناه في هذه الرواية الصحفية، فليس هذا أكثر من عملية توزيع أموال مستترة. وخلق مجتمع طلب أكبر مما كان مفترضًا أن يكون. يستطيع الآن عدد مضاعف من المواطنين أن يسكن في القاهرة والحواضر الأخرى. لو ترك الأمر للسوق الحر، وتوازناته، لما كان ممكنًا لهذا أن يحدث.

النتيجة الكارثية لهذا القرار تمثلت في عدة اتجاهات:

  • أولًا: صارت المساحة السكنية سلعة مطروحة بأقل من قيمتها. مما شجع عددًا لا بأس به على الاحتفاظ بما يفوق حاجته (وقدرته الحقيقية) منها. تمامًا كما حدث مع الخبز المدعوم.
  • ثانيًا: صار الاستثمار العقاري المنضبط استثمارًا غير مربح. ولكي يصير البناء مربحًا لا بد من تقليص تكاليفه، باستخدام مواد منخفضة الجودة، والاستغناء عن جماليات البناء، وبناء عدد من الطوابق أكبر من المسموح به، وحشر أكبر عدد من السكان فوق السطوح وفي البدروم، ثم الاستغناء عن عنصر هام من عناصر معمار الحضر، مخصص للاحتفاظ بالسيارات بعيدًا عن الشارع تجنبًا للزحام، واختفت تقريبًا الصيانة من البنايات، فتدهورت أحوالها.
  • ثالثًا: احتفاظ عدد كبير من الزبائن بسلع أكثر من احتياجهم جعل السلعة شحيحة في السوق، فزاد سعرها على الطالبين الجدد زيادة ضخمة. أغرى هذا المزارعين الذين لم يدفعوا إلى تطوير مهاراتهم إلى تجريف الأرض الزراعية والبناء عليها، فظهر البناء العشوائي في الحضر، واختفى الحزام الأخضر المحيط به.
  • رابعًا: باجتماع كل ما ذكرناه سابقًا بداية من مجانية التعليم، إلى أسعار مساكن الحضر، إلى التوظيف الحكومي بغير حاجة، إلى العشوائية، تفاقمت الهجرة من الريف إلى الحضر بإيقاع لا يمكن استيعابه، ودون حاجة إنتاجية تشغل هذا العدد الكبير من البطالة المقنعة. ونتائج هذا الأخلاقية والاجتماعية تعلمونها جميعًا.

لكن الدولة المركزية نجحت في الحصول على ولاء مجموعة أخرى من المواطنين. بمزيد من تخريب الاقتصاد.

السؤال الذي يجب أن نسأله لأنفسنا هنا: على مقاس من صيغت هذه الدولة؟

لقد رأينا أن القرار الاقتصادي – وهذه أهمية الاقتصاد – عاد فأثر علينا كلنا، حتى لو ظننا أنه أفادنا في وقت ما.

من هنا، فلكي نجيب عن هذا السؤال – اقتصاديًا – لا بد أن نتجرد من الدعاية، والشعارات، وإلا دفع أبناؤنا أيضًا الثمن. الاقتصاد فن بعد النظر.

سأصوغ السؤال بطريقة أخرى، أوضح:

ما هي جماعات الضغط السياسي (المستفيدين) التي أنشأتها هذه السياسة؟

سنجد أن لدينا ثلاث جماعات أساسية متداخلة: المزارعون الذين لم يطوروا أدواتهم، المستأجرون القدامى الذين شاركوا صغار الملاك أملاكهم، والموظفون الحكوميون الذين يعملون في وظائف تفيض عن حاجة العملية الإنتاجية.

جماعات الضغط السياسي تلك هي نفسها سوق فكرية. تشتري أفكارًا سياسية ولو بتأييد ودعم من يتبناها، وهو وشطارته بعد ذلك في كيفية تحويل هذا الدعم السياسي إلى قيمة مادية ومعنوية. لقد أدى هذا إلى نتيجتين كارثيتين:

أولًا: العجز عن الاقتراب من الملفات التي تخص هذه الفئات، وبالتالي العجز عن مراجعة السياسات المخربة وتعديلها.

ثانيًا: ترسيخ الأفكار الاقتصادية الفاشلة بوصفها “الرأي العام”. أصحاب هذه الأفكار من السياسيين يرددونها بشموخ وشمم، دون ذرة من شك في أنهم مجرد جهلة، بالتفكير النظري والتجربة العملية. ويتسلحون في غبائهم الاقتصادي بخطاب أخلاقي استعلائي، يدعي الدفاع عن الحقوق، بينما لا يدافعون إلا عن “مزايا” حصل عليها من لا يستحقونها. والأنكى، أنها تسببت في خراب المعادلة الاقتصادية ودفعنا جميعًا، نحن وهم، الثمن.

المضحك في كل هذا أن الفشل الحتمي الناتج عن تلك العقلية الاقتصادية صار دليلًا يسوقه أبناء تلك الفئات على فشل الدولة.

والمضحك أكثر أن أبرز منتقدي الدولة على هذا الفشل، هم أيضًا المدافعون عن استمرار تلك “المزايا” التي سببت الفشل.

هل لطمت؟

حسنًا. الآتي لا علاقة له باللطم. بل كلمة أخيرة أتمنى أن تساعد على الفهم.

حين تعجب المواطن البسيط ممن “يبيع المياه في حارة السقايين”، أشار إلى صورة بسيطة من كلمة نستخدمها بكثرة في هذه الأيام: الألجوريذم.

الشركات الكبرى تسخر طاقاتها لفهم “الألجوريذم”: ما الذي يجعل قصة معينة تتحول إلى ترند؟ ما الذي يجعل حملة إعلانية تنجح، بينما أخرى قلدتها تمامًا تفشل؟ أو منتجًا ينجح، ومنتجًا شبيها يفشل؟ ما الذي يجعل تغريدتك السابقة تحصل على عشرة آلاف ريتويت، بينما تغريدتك التالية لا يلتفت إليها أحد؟

أنا وأنت نستطيع أن نفهم عاملًا واضحًا، مثل شهرة صاحبة التغريدة مثلًا. لكننا لا نستطيع أن نحل الألجوريذم كله، ولا أن ندعي فهمه، وجدارتنا بأن ندير شركات بناء على هذا الفهم؟

هذا ما حدث في الاقتصاد حين انتقل من الاقتصاد “الريعي” الحسابي، إلى الاقتصاد الرأسمالي. الاقتصاد الريعي كان محدود العوامل؛ لأن الإنتاج تقريبا محدود، والنشاطات الإنتاجية محدودة. يمكن ببعض عمليات حسابية فهم المعادلة الاقتصادية.

مع عصر التجارة، ثم الثورة الصناعية، اختلف الموضوع تمامًا. التيوليب الهولندي مثلًا غير تركيبة المجتمع، أدخل أرباحًا مهولة على فئة معينة من المستثمرين الذين وجدوا له سوقًا وغامروا وباعوه إلى أوروبا. وصعدوا طبقيًا ليكونوا طبقة لها أيضًا متطلبات استهلاكية.

هوب. التيوليب لم يعد له سوق. الذين استثمروا فيه فقدوا أموالهم. فقدتهم السوق كمستثمرين، وكمستهلكين.

لماذا حدث هذا؟ ولماذا حدث ذلك؟

في نقطة معينة من تاريخ بريطانيا ظهر مفكر عظيم، يكاد يكون له حق في ثروة كل مستثمر في العالم، اسمه آدم سميث. آدم سميث تجاوز أفكار كل من سبقوه، وبعضهم لهم إسهامات مميزة، وصاغ مجموعة من العوامل الدقيقة التي تؤثر في الإنتاج الاقتصادي، وبالتالي تؤثر في “ثروة الأمم”. الأهم مما ذكره هو طريقة التفكير التي تميز بها. والتي صارت عنوانًا لعهد الاقتصاديين الجدد. طريقة أقرب إلى الفيزياء منها إلى علم الحساب. والفارق بين العلمين أن الفيزياء (الحديثة نسبيًا في ذلك الوقت) تنظر في العوامل غير المنظورة التي تحدد سلوك الظاهرة. نيوتن مثلًا وضع قوانين لعامل الجاذبية في حركة الكون.

هؤلاء الاقتصاديون صاروا يتجاوزون البداهة اليومية التي حكمت التفكير الاقتصادي، ويبحثون عن التأثيرات الخفية. وبفضل هذا النمط المميز من التفكير استطاع الغرب أن يشك طريقه الاقتصادي بنجاح. لنتذكر أن كارل ماركس – وهو مفكر مميز آخر بلا شك – كتب أطروحته الاقتصادية في دولة صناعية، لكن الذي تبناها كان المجتمع الروسي المنتقل حديثًا من الطور الزراعي، وفكر الاقتصاد الريعي، أما بريطانيا فلم تفعل، وهي تشكر الظروف. وعلى خطاها وأكثر سارت الولايات المتحدة.

في النصف الأول من القرن العشرين كانت مصر أيضًا بين خيارين. اختارت بحصافة المسلك الغربي. في النصف الثاني، للأسف، غيرت مسلكها. وتحكمت فيها عقلية حارقي القاهرة.

في هذه النقطة المفصلية من تاريخ منطقة الشرق الأوسط، مهم أن ننظر في العوامل الخفية التي لم ينتبه لها من اتخذوا القرارات السياسية والاقتصادية. لأن الواضح أن تأثيرهم كان عميقًا ولا يزال ممتدًا إلى اليوم.

ذكرت عامل الجهل بمعنى “الطلب في الاقتصاد”. ومن هناك انتقلت إلى الأثر الاجتماعي والأخلاقي لهذا الجهل، بداية من غياب نشاطات الحضر وسلوكياته، إلى الاستغناء عن “المظهر” المنمق، إلى عدم الحاجة إلى مهارات صناعات وقطاعات جديدة، إلى انعدام الخبرة الخدمية لاختفاء الأماكن “المرفهة” من على الخريطة وانحسارها.

لو قرأت روايتي الصحفية مرة أخرى ستلاحظ أن لحريق القاهرة، والعقلية التي خلفه، علاقة بعدم قدرة المهندس حسام على شراء حذاء جديد. وبغياب أم كلثوم، وهروب الطبقة الوسطى من السينما، وتدهور المسرح.

وستلاحظ أثر السياسة الاقتصادية في تكون الشخصية الحالية للمواطن المصري ومهاراته وقدراته. شعوره بالاستحقاق ولو دون مجهود، ادعاءاته الدينية الاجتماعية التواكلية، الخلط بين “الدعم” الحكومي و”الرزق” السماوي.

لقد صيغت عقولنا الاقتصادية في فرن الاقتصاد الاشتراكي الذي نعجز حتى الآن على الخروج منه. لكن لا أمل إن لم نفعل ونلحق بما أدركه العالم قبل أكثر من قرنين.

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك