تاريخ البشرية في ٧ قطع أثرية .. بعضها لم تسمع عنه من قبل | خالد البري | رواية صحفية في دقائق

تاريخ البشرية في ٧ قطع أثرية .. بعضها لم تسمع عنه من قبل | خالد البري | رواية صحفية في دقائق

31 Mar 2019
خالد البري رئيس تحرير دقائق نت
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

أصدر نيل مكريجر، مدير المتحف البريطاني، كتابا عن مئة قطعة أثرية تحكي تاريخ العالم

في هذه الرواية اخترنا سبعا من تلك القطع الأثرية،

معظمها ليس معروفا،

لكن كلا منها يروي قطعة من تاريخ البشر

لا تزال مؤثرة فينا

حجر التقطيع

حين افتتح المتحف البريطاني سنة ١٧٥٩، كانت المعرفة الشائعة تقول إن عمر البشر حوالي ٦٠٠٠ سنة. الأسقف آشر، الذي كان بروفيسورًا في دراسات الأديان، تتبع قصة البشر المروية في العهد القديم، وتوصل إلى لحظة خلق آدم: صباح الثالث والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول عام ٤٠٠٤ قبل الميلاد.

قد ننظر إلى هذا الآن على أنه نادرة أو طرفة تاريخية. لكن هذا الرأي “البحثي” الذي صدر عام ١٦٥٠ تحدى الزمن لقرون قبله، واستمر قرابة القرنين بعده، ظهر فيها إسحاق نيوتن وجون لوك وفرانسيس بيكون وديفيد هيوم وويليام شكسبير، وحدثت فيها الطفرة البريطانية الكبرى التي نقلت بريطانيا من جزيرة صغيرة في “أطراف العالم” لا يهتم بها أحد إلى قوة عالمية كبرى، ونقلت اللغة الإنجليزية من لغة ثانوية تتحدث بها قبائل بربرية إلى لغة يكتب بها أدب واقتصاد وفلسفة واجتماع سياسي وفيزياء. كل هذا، والرأي ذاك عن تاريخ البشر لا يزال صامدا عند القطاع الأكبر من الناس.

ثورة فرانكنشتاين | خالد البري | رواية صحفية في دقائق

خطوة خطوة، تداعت هذه النظرية عن عمر البشر، بسبب اكتشاف الحفريات، وتطور القدرة على حساب عمرها. لكن أحدًا لم يتخيل القفزة الكبرى التي حدثت عام ١٩٣١، بسبب عثور الأركيولوجي لويس ليكي، في رحلة استكشاف رعاها المتحف البريطاني، على الأثر الذي نحن بصدده. وهو عبارة عن حجر صخري، كان مدفونًا بالقرب من عظام في منطقة الأخدود العظيم في تنزانيا، أفريقيا.

Chopping Stone  حجر التقطيع

كان أداة منحوتة بأيد بشرية، وبطريقة تصلح لكي تمسك به اليد البشرية بإحكام، لتأدية مجموعة من الأغراض. قادر على تقطيع اللحم. قادر على نزع اللحم من العظام. قادر على تكسير العظام للحصول على نخاعها. وهي مجموعة من المهام احتاجها البشر في ذلك الوقت بشدة، حيث كانوا يعتمدون على التغذي على بقايا ما تصطاده الحيوانات المفترسة. هذا الحجر ساعدهم في انتزاع أغذية أساسية لتطورهم.

نخاع العظام طعام قادر على توفير طاقة عالية يحتاجها المخ. ذلك الجزء في جسم الإنسان الذي يساوي ٢٪ فقط من وزنه، لكنه يستهلك ٢٠٪ من طاقته. من ناحية وفر حجر التقطيع وقود التطور من أغذية، ومن الناحية الأخرى ساهمت صناعة هذا الحجر في صياغة “العقل” المتطور.

صناعة أداة حجرية، كما أثبتت لاحقًا دراسات على مخ البشر، تشغل نفس الأجزاء التي تشغلها صياغة اللغة. المخ باطنًا، واللغة ظاهرًا، هما ما يتفوق بهما البشر على كل الكائنات الأخرى.

صناعة الأدوات، قبل اللغة، هو ما جعل عقولنا مختلفة بهذا الشكل حتى عن أقرب الكائنات إلينا، القردة العليا. مخ الإنسان تطور لكي يتخصص في نصفيه الأيمن والأيسر إلى مناطق لها قدرات متباينة ومتنوعة، لكي تستجيب لقدرته على أداء نشاطات متنوعة، وعلى تخيلها قبل إنجازها. على عكس القردة العليا، ذات المخ الأصغر، والمتماثل في نصفيه تقريبًا. صناعة الأداة، كاللغة، نتيجة لتطورنا ودافع له ودليل عليه.

بقياس عمر هذه الأداة عرف العلماء أنها تعود إلى حوالي مليوني سنة. فترة أطول كثيرا مما أخبرنا به الأسقف آشر.

عرفنا أيضًا أن البشرية كلها بدأت من هذه المنطقة في إفريقيا، ثم انتشرت حول العالم، إلى كل بقعة فيه تقريبًا.

الأدوات صنعت البشر

تاريخ البشر، في الاكتشافات اللاحقة، سيمتد إلى أكثر من ذلك. لكنه من الآن فصاعدًا لن ينفصل عن تاريخ “الأدوات”. سواء كانت حجرًا صخريًا منحوتًا ليصنع صورة قديمة من سكين الجزار، أو كانت شريحة ذكية تتعرف عليك من خلال كاميرا تلتقط صورة وجهك أو مشيتك أو مايك يلتقط صوتك، أو كانت بدلة لرواد الفضاء. الآلة التي تستطيع إنتاجها هي مقياس تطورك. ثم إنك، أثناء عملية إنتاجها واستخدامها، تتطور. في دائرة تبادلية مستمرة.

تستطيع أن تضع مجتمعك على سلم التطور البشري بهذه المعادلة البسيطة. آي الأدوات/الآلات يستطيع المجتمع أن ينتج بمهارة. وأي الأدوات يستطيع أن يتخيل/يبتكر دون أن يرى لها سابقة.

في نفس المنطقة من إفريقيا، سيعثر العلماء على “فأس يدوية” يعود تاريخه إلى مليون ومئتي ألف سنة. هذه أداة أخرى، هي أطول الأدوات عمرا في تاريخ البشر. حيث ظلت قمة التكنولوجيا لمليون سنة على الأقل.

عاشقا عين صخري

كيف تتخيل ممارسة الجنس قبل ١١ ألف عام؟ بين بشر سكنوا الكهوف؟

“نتصور دائمًا،” يجيب النحات البريطاني مارك كوينّ، “أننا اكتشفنا ممارسة الجنس، وأن العصور من قبلنا كانوا قليلي الحيلة وبسطاء، بينما في الحقيقة أظهر البشر مستويات متراكبة من المشاعر منذ عشرة آلاف سنة قبل الميلاد على الأقل، حين صنع هذا التمثال. ولا شك لدي أنهم نظروا إلى الجنس نظرة مركبة كما نحن الآن”.

أو قد نتخيل، كما عبرنا عن ذلك في أعمال درامية وفي لغتنا اليومية، ان ذكر الإنسان ساكن الكهف كان يقتنص الفرصة لإجبار الأنثى على الجنس.

بين السياسة والبيولوجي: غرائزنا التي حيرت أديان السماء والأرض| رواية صحفية في دقائق

من هنا أهمية هذا التمثال الصغير، الذي عثر عليه في عين صخري، بالقرب من بيت لحم. ومن المكان اكتسب اسمه:

عاشقا عين صخري Ain Sakhri Lovers

في زمن التمثال، بعد انقضاء العصر الجليدي، التقط شخص ما حجرًا أملس من تلك التي نراها بالقرب من شاطئ البحر، وشطفه بما لديه من أدوات صخرية ليصنع منه تمثالًا ناعما لشخصين يمارسان الجنس.

ثم أخذ هذه القطعة الفنية ووضعها داخل كهفه، مثل صورة عارية من تلك التي كانت منتشرة في غرف النوم قبل جيل أو جيلين.

التمثال لا يزيد حجمه عن قبضة يد. ولا تظهر تفاصيله للناظر عن بعد. لكن نظرة قريبة تكشف عن شخصين متداخلين يحتضنان بعضهما البعض وهما في وضع الجلوس، بحيث لا يمكن فصل أحدهما، ولو بالنظر، عن الآخر. ولا حتى تحديد جنس أيهما.

التمثال إذا قلبته في اتجاهات مختلفة يظهر بصور مختلفة، ككاميرا تتعمد أن تعطي الجسم الذي تصوره من كل زاوية شكلًا. من زاوية يبدو التمثال كقضيب منتصب. ومن زاوية أخرى كأعضاء جنسية لامرأة.

هذا الكهف، في دفء الشرق الأوسط، كان شاهدًا على حياة بشرية جديدة. لم يعرف الإنسان الزراعة المنتظمة بعد، لكنه عرف زراعة بعض الحبوب والبقول. كان قبلها يعيش على صيد الغزلان وعلى جمع العدس والحمص و الحشائش التي تنمو في البرية. لكن الآن مع وفرة الخضرة صارت الغزلان تميل إلى البقاء هي الأخرى. وحولها استقر البشر.

القوم الذين عاشوا في هذا المكان من فلسطين الحالية اسمهم النطوفيون. وإليهم ينسب أقدم أثر على ممارسة الزراعة، حيث تعلموا أن يعيدوا بذر أنواع الحبوب التي لا تذروها الرياح، فزرعوا القمح والشعير، مما أعطاهم وفرة واستمرارية في الإنتاج.

لم يعد الكهف أو المغارة محلًا مؤقتًا، بل صار مسكنًا دائمًا. والوفرة الغذائية أنتجت وفرة في السكان. وعاشوا في تجمعات زراعية قوامها مئتان إلى ثلاثمئة فرد تحتاج إلى تنظيم اجتماعي. ربما. ربما. كان من بينها تحول الرفيق/الرفيقة إلى أزواج. ما يطلق عليه البعض “تسكين العقل البشري”.

إناء جمون

تعلمنا أن الإنسان عاش في العصر الحجري (2.5 مليون سنة – حتى ٩٦٠٠ سنة قبل الميلاد) حياة ترحال لا تعرف الاستقرار. وبسبب ذلك لم يهتم بصناعة أمتعة ثقيلة، ولا كان مهتمًا بالطبخ أبعد من شواء الحيوانات.

الآن سنعرف أن بعض المجتمعات البشرية كانت مستقرة خلال تلك الفترة، وصنعت أواني خزفية فخارية ذات أشكال ونقوش، طهت فيها أطعمة مختلفة.

ظننا أن الاستقرار بدأ مع الزراعة، ما قبل ذلك كانت المجتمعات البشرية مجتمعات جمع والتقاط.

الآن سنعرف أن هذا أيضًا توقع خاطئ.

المجتمع الذي نتحدث عنه سبق مجتمعات الزراعة المنتظمة، بل لم يهتم بأن يتعلم الزراعة حتى ٥٠٠ عام قبل الميلاد. عاش على صيد الأسماك وجمع الثمار الصلبة كالجوزيات، ثم طهيها بالأواني الخزفية، وإعداد المرق. في الوقت نفسه لم يكن في حاجة إلى الترحال؛ لأن الأسماك تأتي إلى حيث يعيش.

بصفة شخصية، لم أكن أتوقع هذا. لقد غير فكرتي عن التاريخ.

أثر الإناء الفخاري موجود في كل نسيج من أنسجتنا، لأنه مسؤول عن تغير عاداتنا الغذائية، وعن علاقتنا بالميكروبات، وعن ذوقنا، ما نرغب فيه وما ننفر منه.

وهو أيضا رحلة كفاح واكتشاف من أجل .. الطعم. المذاق.

يستطيع المرء أن يتخيل ما مر به العلماء من تجارب أودت بحياة بعضهم بينما يحاولون اختراع دواء أو تجربة تقنية. ولا شك أن ضحايا تجارب إعداد الطعام أكثر من ذلك مئات، وربما آلاف، المرات.

بابتكار أواني الفخار لم يعد الإنسان يحفظ الطعام في حفر في الأرض، معرضة للحشرات والميكروبات. عرف “وصفات الطعام”، وخلط المذاقات لصناعة مذاق جديد. عرف اليخني أو الـ stew. بدأ رحلتنا إلى “المنيو”، والصحبة في الضيافة، والغزل بالطعام، والطعوم.
ربما يكون هذا التطور التكنولوجي الضخم بدأ بمصادفة بحت. قطعة من الطمي (الصلصال) سقطت مصادفة في النار، فاكتسبت صلابة وتماسكًا. وربما – بناء على هذا – فكر شخص في أن يصنع من قطعة طين أخرى وعاء يشبه السلال التي كانت مستخدمة في ذلك الوقت، وأن يضعها هي الأخرى في النار، لكي تصنع وعاءً خزفيًا.

Jomon Pot إناء جامون

كل هذا حدث قبل الميلاد بحوالي ١٥ ألف سنة، في منطقة من اليابان صارت تعرف باسم جامون Jomon ويعرف المجتمع الذي عاش فيها، والحقبة الزمنية، بالاسم نفسه.

الوعاء الفخاري الكامل الموجود في المتحف البريطاني، والمعروف باسم Jomon Pot أو إناء جامون، يعود إلى تاريخ أحدث من هذا بعشرة آلاف سنة، إلى ٥٠٠٠ سنة قبل الميلاد.

الفخار لم يحفظ الأطعمة فقط. بل حفظ الحضارات أيضًا. الآثار المكتوبة على الألواح أكثر من تلك المكتوبة على الورق، كالبردي. والسبب واضح، أنها أكثر مقاومة للفناء.

حين نذكر الألواح، لا بد أن نذكر بلاد ما بين النهرين، ميزوبوتاميا، وتغيرا جوهريا آخر في تاريخ البشر. فإلى هناك.

لوح الكتابة

ولوح الفيضان

الأثر الذي نتحدث عنه الآن جعل صاحبه يخلع ملابسه ويقفز عاريًا أمام الحضور في المتحف البريطاني.

جورج سميث كان من سكان بلومزبيري، المنطقة المحيطة بالمتحف البريطاني، وكان يدير مطبعة في الحي. ثم استهواه المتحف فصار يزوره في استراحة الغذاء. واستهوته بشكل خاص الألواح البابلية.

كان المتحف يملك ١٣٠ ألفًا منها. قديمة ولا تشجع على القراءة. معظمها خاص بأمور روتينية يومية، أحيانًا بيروقراطية، وأحيانًا حسابات دفع أجور عمال. لذلك فإن فرصة أن تقرأ عملًا مدهشًا بين هذا العدد الكبير، الممل، ضئيلة للغاية. لكن اللوح الذي قرأه السيد سميث سيتصدر عناوين الصحف، وسيحضر رئيس الوزراء البريطاني بنفسه مؤتمر الإعلان عنه.

هذا ما قرأه سميث على اللوح الذي يعود تاريخه إلى القرن السابع قبل الميلاد، وموطنه نينوى في العراق الحالي:

[su_quote]اهدم منزلك، وابن قاربًا! دع الثروة وابحث عن النجاة. احتقر ما تملك، وأنقذ الحياة. واحمل معك كل بذور الكائنات الحية. المركب التي ستبنيها، أبعادها يجب أن تكون متساوية: طولها وعرضها يجب أن تكون متماثلة. غطها بسقف، كما المحيط أسفلها، وسوف يرسل المطر مدرارًا[/su_quote]

هذه القصة تسبق أي أثر لرواية الفيضان في الكتاب المقدس بخمسة قرون على الأقل. وحين نشرت أحدثت في الفكر الديني أثرًا يضاهي أثر نشر كتاب النشوء والارتقاء لدارون قبلها بـ ١٢ عامًا.

بعد ذلك ستكتشف نصوص أقدم تحكي القصة نفسها. لكن تبقى أهمية هذا اللوح بالذات في أمر آخر: أنه جزء من ميراث أدبي عالمي متطور هو ملحمة جلجامش، أول ملحمة شعرية معروفة لدينا. قبل الإلياذة والإوديسا.

أهمية هذا اللوح يمكن إيجازها في ثلاث نقاط رئيسية:

أولًا: أهمية الكتابة كابتكار.

كوسيلة لتسجيل اللغة. بغض النظر عن القيمة الأدبية للمكتوب. الكتابة، ولا سيما في الفترة الأولى، لم تكن معنية بتسجيل الحكايات. حيث الحكايات ممكنة الحفظ شفهيًا. كانت معنية بحفظ ما لا نستطيع تذكره. لا فيه حكاية، ولا فيه أغنية، ولا فيه موسيقى داخلية. مثل هذا اللوح القديم. المسمى

Writing Tablet.

ثانيًا: أهمية الكتابة للأفكار.

حيث الكتابة تمكننا من تسجيل الفكرة والرجوع إليها، واختبارها، والإضافة، والتمحيص. لولا الكتابة لما تطورت أفكارنا بهذا الشكل. لما وصلنا إلى ملحمة جلجامش. وقصة الفيضان. ثم دخول الأديان وتحويل المعنى الأخلاقي للقصص إلى اتجاه آخر.

دراسة “أصل البشر زوجين”: ليسا آدم وحواء.. ماذا عن طوفان نوح؟ وهل الدراسة دقيقة؟

ثالثًا: فكرة الألواح نفسها.

تتبارى الحضارات القديمة في التنافس أيها عرف الكتابة أولًا. لكن حتى الآن فإن المتقدم في السباق ميزبوتاميا. قد تكون تلك الحقيقة. وقد يكون السبب هو الألواح. أن الكتابة على الفخار جعلت الأثر يبقى.

وهنا من الطريف، وقد تحدثنا عن قصة الفيضان المشابهة لما ورد في العهد القديم، أن نفكر في الألواح أيضًا. أن تشريعات موسى النبي نزلت إليه على لوح، خرج من وسط النار. تشريعات موسى النبي – كالفيضان – لها شبيه سبقها في تشريعات حمورابي، ملك بابل التي كانت تكتب على الألواح. والمتوفي ١٧٥٠ قبل الميلاد.

اللوح محفوظ.

الأوراق ليس لها نفس الحظ، لأنها تبلى بسرعة. لذلك فإن الصحف المعروفة لدينا تنتمي عادة إلى زمن أحدث، ونادرة للغاية. منها صحيفة مصرية متميزة، عنوانها خفيف الدم، وتحوي قدرا من الفوازير (الأحجيات) ذات الأهمية البالغة في التاريخ.

بردية ريند

بدلا من أن ترهق نفسك في حل هذه الفزورة “الأحجية”، اقرأ هذا الجزء من الرواية الصحفية وستعرف الحل، وما هو أكثر كثيرا من الحل.

“في سبعة بيوت توجد سبع قطط. كل قطة اصطادت سبعة فئران. كل فأر منها لو عاش لالتهم سبعة أكواز من الدرة. كل كوز منها لو زرعناه لأنتج سبعة جالونات من القمح”. كم عدد الأشياء التي ذكرت إجمالا.

هذه الأحجية وعشرات غيرها ضمتها بردية نادرة من كمت/ مصر القديمة. يعود تاريخها إلى عام ١٥٥٠ قبل الميلاد، أي إلى أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمئة عام. اسمها:

بردية ريند Rhind Mathematical Papyrus

وهي نادرة لأن ما بقي من برديات من هذه الفترة لا يتجاوز الست. استخدام أهل كمت البردي في الكتابة تسبب في ضياع كثير منها، حيث البردي سهل العطب، على عكس الألواح التي استخدمها البابليون.

هذه البردية ليست كتابا مخصصا للرياضيين، بمعنى أنها لا تعطينا صورة عن حالة التقدم الرياضي بشكل عام في كمت. لكنها – على الرغم من هذا – بليغة الأهمية، لأنها تعطينا صورة عن مدى الاهتمام بالرياضيات بين المواطنين. هذه البردية تشبه في وقتنا الحاضر “المذكرات” الخصوصية، التي تباع للراغبين في تحسين مستواهم العام في الرياضيات في تطبيقاتها اليومية. كالموظفين والتجار. العنوان المكتوب عليها يقول:

“الطريقة الصحيحة للحساب، لإدراك معنى الأشياء، ومعرفة كل شيء – المسائل الغامضة والأسرار”.

أو حسب تعبير نيل مكريجر مدير المتحف البريطاني  “كل المسائل الرياضية التي تحتاج إلى معرفتها. اشترني، تشتر النجاح”.

الطبيعة الإحصائية للمصريين القدماء، واهتمامهم بالأرقام والعد والحساب على مستوى عامة الشعب، كما تظهر بردية ريند، شيء مدون ومعترف به في العالم القديم. أفلاطون حث الإغريق على الاقتداء بالمصريين القدماء، حيث “المدرسون، بتطبيق قواعد وممارسات الرياضيات (الحساب) حتى في ألعاب الطلاب، يعدون تلاميذهم لمهام تنظيم وقيادة الجيوش، وإعداد الكشوفات العسكرية. وكل هذا يجعل منهم أشخاصا أكثر فائدة لأنفسهم ولغيرهم، وعلى قدر كبير من الوعي واليقظة”.

وجود هذه البردية، في هذا المستوى الشعبي، يفيد بوجود درجة كبيرة من التقدم الرياضي سابقة لها، حتى لو لم نملك الدليل المادي.

“الإغريق تعلموا الهندسة من المصريين،” يقول بروفيسور كليف ريكس، “كتاب إغريق مثل هيرودوت وأفلاطون وأرسطو أشاروا جميعهم إلى المهارات الاستثنائية المتميزة للمصريين في الهندسة”.

لا أعتقد أن هذه فكرة مختلف عليها، وقد بقيت لنا الأهرام والمعابد العملاقة.

اسم البردية منسوب إلى مكتشفها، المحامي أليكساندر ريند، الذي ذهب إلى مصر في شتاء خمسينيات القرن التاسع عشر بسبب إصابته بالسل وحاجته إلى هواء جاف. وفي الأقصر اشترى هذه البردية من بائع مقتنيات قديمة. ثم صارت أكبر نص رياضي نعرفه من العالم القديم، ليس فقط من كمت، بل من أي أي مكان في العالم.

البردية طولها الأصلي خمسة أمتار وارتفاعها ٣٠ سنتيمترا. وهي الآن موجودة في ثلاثة أجزاء، اثنان في المتحف البريطاني خلف إطار زجاجي لحمايتهما، والثالث في متحف بروكلين.

حل المسألة الرياضية التي اقتبسناها من بردية ريند Rhind Mathematical Papyrus، والعهدة على نيل مكريجر، ١٩٦٠٧

نموذج عربة ذهبية من نهر أوكساس

التقدم الرياضي والهندسي والعلمي لا تكفي وحدها لبقاء الحضارات. القتال مهارة لا تقل أهمية عنها، منذ بدء التاريخ، وإن اكتسبت أهمية خاصة في عصر بناء الإمبراطوريات الكبرى. وأبرزها، في إطار العقلية السياسية، الإمبراطورية الفارسية.

على الجانب المادي كان أعظم ما تميزت به الإمبراطورية الفارسية عن معاصريها وسابقيها ثورة النقل. اهتمت بتعبيد الطرق وتنظيمها، لكي تنشئ شبكة آمنة تمكنها من وصل “مستعمراتها” واحدها بالآخر. كما امتلكت وسيلة النقل السريعة التي يمكن الاعتماد عليها – العربة التي تجهرها الأحصنة.

والأثر الذي نتحدث عنه نموذج ذهبي صغير يمكن حمله على راحة اليد من هذه العربة التي تجرها الأحصنة . سافر هو نفسه إلى إلى الحدود بين أفغانستان وطاجيكستان، رغم أنه صنع، على الأرجح، في قلب فارس. و يرجع تاريخه إلى خمسمئة عام قبل الميلاد.

نموذج عربة ذهبية من نهر أوكساس  Oxus Charito Model 

تفاصيل الأثر تشير إلى ما أبعد من الممتلكات “المادية”. بل إلى العبقرية السياسية التي ميزت الإمبراطورية الفارسية، ورسمت ملامحها المميزة. السائق والراكب يرتديان ملابس الميديين، وهم جماعة قديمة عاشروا في شمال غرب إيران الحالية. وفي مقدمة العربة، بارزا بوضوح، رأس الإله المصري بيس. وهو إله صغير مسؤول عن رعاية الأطفال والمحتاجين. في إشارة إلى تنوع الإمبراطورية وانفتاحها.

“ما من جماعة،” يقول هيرودوت، “ مستعدة لاكتساب طرق الآخرين كالفرس. يرتدون الملابس الميدية لأنهم يرونها أجمل من ملابسهم، جنودهم ترتدي الدروع المصرية”.

وهذا ما جعل الإمبراطورية الفارسية مختلفة عن معاصريها وسابقيها وكثير من لاحقيها.

الرومان مثلا كانوا يلزمون الأمم بالمواطنة الرومانية، أما الفرس فكانوا يعتبرون الإمبراطورية تجميعة من الملكيات. كل المطلوب من النخبة أن تلتزم بدفع الضرائب، وعدم السماح بالثورة. بعد ذلك ليحتفظوا بعاداتهم وتقاليدهم وتدبير أمور حياتهم كما يريدون. الإمبراطور الفارسي، وهو هنا قورش المؤسس، يسمي نفسه شاهنشاه، أي ملك الملوك، في إشارة إلى هذه الفكرة.

لعل الوصف المناسب للأسلوب الفارسي هو ما استخدمه المؤرخ مايكل أكسورذي، “قبضة حديدية في قفاز مخملي”.

قورش وصف دخوله بابل، عام ٥٣٩ قبل الميلاد، بكلماته: “حين دخل جنودي بأعداد غفيرة سلميا إلى بابل… لم أسمح لأحد بإرهاب الناس… اعتنيت بحاجات الشعب ومقدساته لكي أدعم رفاهيتهم.. حررت كل العبيد”.

العبيد المذكورون هنا هم اليهود الذين سباهم نبوخذنصر قبل أجيال، ثم أعادهم قورش إلى القدس لكي يبنوا معبدهم مرة أخرى.

في القرن العشرين، وبعد صدور وعد بلفور في عهد الملك البريطاني جورج الخامس، متعهدًا بإعادة اليهود إلى فلسطين ليبنوا وطنًا قوميًا، رفع اليهود في شرق أوروبا صور جورج الخامس إلى جوار صور قورش.

اختراع العجلة، استخدامها في الحرب، وفي العربة التي تجرها الأحصنة لغرض النقل، غير شكل العالم. أحدث في الشرق الأوسط تغيرات لا نزال نعيش آثارها إلى يومنا هذا.

عملة قارون الذهبية

هل سمعت عن كنز قارون؟
 
حسنا هذه حكاية قارون (أو قريساس الأصلية).. نحكيها من خلال أبرز أثاره تأثيرا في العالم. أبرز حتى من أمره ببناء إحدى عجائب العالم القديم السبع.

عملة قارون الذهبية Gold Coin of Croesus

كان قريساس (قارون) حاكمًا لـ “ليديا” في غرب تركيا الحالية. وهو الذي سك أول عملة ذهبية بالشكل المتعارف عليه حاليًا. مفهوم العملة نفسه مفهوم تطور على مر السنين ليحل محل المقايضة. الكمتيون (المصريون) القدماء، على سبيل المثال، “استخدموا نظامًا مفصلًا قاس القيمة مقابل أوزان معيارية من الذهب والنحاس.” حسب تعبير نيل مكريجر.

قبل ليديا عرف العالم أثقالًا من قطع معدنية قيمة تقوم بوظيفة النقود. لم يكن مهمًا شكلها، ولا هيئتها. كان المهم ثقلها. العملة نفسها كانت موجودة في ليديا وفي جوار من دول الشرق الأوسط، لكنها كانت تواجه مشكلة “النقاء”، بسبب صعوبة استخراج المعادن.

العملة، بالمفهوم الذي نعرفه حاليًا، بدأ في الظهور بشكل مستقل في الصين وفي ليديا. قطع نقود دائرية من معادن قيمة.

في المجتمعات المنغلقة الصغيرة لم يكن من حاجة إلى النقود. لكن في مجتمع تجاري وكوزموبوليتان، حيث يتبادل غرباء السلع، كانت العملة – كقيمة موثوقة لا تتغير – ابتكارًا لا بد منه. وهكذا كان الحال في سارديس، عاصمة ليديا.

الليديون حلو مشكلة نقاء المعدن. بحيث تكون عبارة عن وزن محدد من الذهب. وبحيث تضمنها الدولة. فتضع ختم الحاكم عليها مبينًا الوزن.

الليديون استخدموا الملح الشائع، كلوريد الصوديوم، مع الذهب والفضة الخام، في وعاء يسخن لدرجة حرارة ٨٠٠ درجة مئوية. وبهذه الطريقة استطاعوا استخلاص الذهب النقي. ثم استخدموا حرفيين لكي يضعوا ختمًا على كل قطعة معدنية يبين وزنها، وبالتالي قيمتها. الكتابة على العملات ستأتي في وقت لاحق. أما في عملة قارون/قريساس فكانت القيمة يشار إليها بأجزاء من الأسد. العملة الصغيرة عليها مخلب أسد. ثم تختلف أجزاء الأسد المختومة على العملات كلما كبرت.

لأن الناس وثقت في عملة ليديا انتشر استخدامها إلى خارج الحدود. والنتيجة كانت ثراء فاحشًا لقريساس، وللبلد التي يحكمها. هذه نتيجة جيدة. لا تزال موجودة في ذاكرتنا إلى يومنا هذا، فنقول “لديه مال قارون”، وبالإنجليزية: Has the wealth of Croesus.

بهذا الثراء تمكن قارون/ قريساس من بناء إحدى عجائب العالم القديم السبع، معبد أرتيميس في إيفيساس.

آرتيميس إلهة إغريقية كان رمزها الهلال، وفي أثناء الحكم الروماني البيزنطي، الذي كان مقره بيزنطة (إسطنبول الحالية) تحولت الإلهة إلى اسم ديانا، وإن ظل رمزها الهلال. وبقي الهلال رمزًا لإمبراطورية الروم البيزنطيين. ثم أضيفت إليه النجمة، كإشارة إلى السيدة مريم العذراء، بعد تحول الإمبراطورية الرومانية إلى الديانة المسيحية.

حين استولى محمد الفاتح على القسطنطينية (بيزنطة – إسطنبول) أعلن نفسه قيصرًا للروم، وسمى نفسه “محمد قيصر الروم”، محتفظًا برمز الهلال والنجمة كما هو.

أما النتيجة التي لم تكن بنفس الجودة، بالنسبة لقريساس، فهي أن ثراءه أغرى آخرين بالاستيلاء على ملكه. فغزا قورش، شاهنشاه الفرس، ليديا. الغريب أنه عين قريساس مستشارًا له، على الخزينة غالبا.

ربما أول ما يلفت الأنظار هنا هو الجسم المادي للعملة. لكن القيمة الأهم المتعلقة بالعملة ليست جسدها المادي، وإنما مفهوم الثقة. وهو باق حتى يومنا هذا في الاقتصاد. نستطيع أن نراه في اعتمادنا على احتياطي الذهب في البنوك المركزية كسقف لكم العملات الورقية الذي تنتجه. ونستطيع أن نراه في إحلال الدولار الأمريكي بعد الحرب العالمية محل الذهب. في إشارة إلى ثقة العالم في معايير إنتاج، وقيمة، هذه العملة، بحيث يعتمدها مقياسًا معياريًا.

والثقة مرتبطة بأشكال أخرى من العملة. أبرزها الكريديت كارد. وهو لا يعدو كونه قطعة من البلاستيك. ولكن تكمن قيمته في الضمان الذي تمنحه له مؤسسة مالية. أي الثقة.

أي تلاعب في مفهوم الثقة يرتد على قيمة العملة، وقد يحيل البطاقة الائتمانية مرة أخرى إلى مجرد قطعة بلاستيك في يدك.

ومع أولى خطواتنا نحو العملات الرقمية. ربما تزداد أهمية هذا العنصر – الثقة – أكثر وأكثر.

هذا ما يجعلنا حين نذكر المال نذكر قارون. أو قريساس. ليس فقط أنه سك عملة. بل أيضًا أنه ثبت مفهوم الثقة في قيمة العملة. وهو ما بقي إلى يومنا هذا مؤثرا في التاريخ البشري كله.

كنز قارون – خلاف هذه العملة المعدنية – معروض حاليًا في متحف أوشاق، في تركيا. تستطيع أن تقرأ المزيد عنه من هنا.

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك