في مرحلة حضارية سابقة، لم يكن مصطلح ”الأيديولوجيا“ معروفًا، كانت الأديان هي “أوعية الأفكار”. هي الأيديولوجيات السياسية بتعبير أيامنا هذه.
إذن بعيدًا عن الجدل الديني، كان الدين التعددي من الناحية الاجتماعية يعني السماح لأفكار مختلفة، ورؤى مختلفة للحياة، بالتجاور. بينما الدين التوحيدي في بعده الاجتماعي يعني – تعريفًا – أن هناك حقًا واحدًا لا يتبدل، وأن كل ما بعده ضلال.
هذا الانتقال من التعددية إلى التوحيد ربما جعل الإنسان أفضل في عين الله. لكن تحكم الدين في السياسة ارتبط بتراجع في الإسهام الحضاري للبشر. قضى على الفرصة الرياضية في اكتشاف طرق أفضل لفعل الأمور الدنيوية: صياغة فلسفة حُكم، أو اكتشاف العلاقة بين الشمس والكواكب، أو تأليف موسيقى وكتابة عمل درامي. أو تقديم رواية تاريخية. أو تحديد أي النساء/ الرجال أفضل لنسلك.
تكفل الدين في السياسة بإنتاج النسخة الوحيدة المسموحة. وقدم الإجابة الوحيدة الصحيحة. والأهم أنه نفى كل الاحتمالات الأخرى. لم ينفها بعد معرفتها. بل خنق فرصة التعرف عليها من الأساس.
يشهد العالم الغربي حاليا موجة “عالمانية” من هذا الفكر التوحيدي. تطالب في البداية بالتعددية والسماحية، وتقول إنها جاءت لتحرر الناس من عبودية رأس المال إلى عدل المساواة، ومن سيطرة مؤسسات السلطة إلى حرية البشر ”الحقيقيين“. ثم حين تملك رأس المال، أو مؤسسات التعليم، أو الإعلام، نرى وجهًا آخر تمامًا. تفرض نفوذها على من حولها، فلا تريهم إلا ما ترى، وتعتبر أن طريقها وحده هو طريق الرشاد.
المثال شركات السوشال ميديا التي كان شعارها ديمقراطية المعرفة وحريتها، وعليها بنت سمعتها. ما إن وصلت من النفوذ إلى درجة الاستحواذ على معظم السوق الإعلاني حتى صارت تحدد من من حقه الدعاية لمنتجاته الثقافية ومن لا يملك. وما المكتوب المسموح له بالتواجد وما المكتوب الذي يقتله الألجوريذم. وعينت مجلس حكماء ذوي توجهات معروفة لكي يضيقوا على مخالفيهم.
أمازون تسمح لك بنشر الكتاب عندها، لكن لا تسمح لك بالإعلان عنه إن لم يوافق “صوابيتها السياسية”. وحجب الإعلان في هذا السوق المستشري يعني ببساطة خنق فرصته في البقاء.
لاحظ أن المثلين السابقيين يعنيان أن القانون ليس الحكم. لا مشكلة عندي في الاحتكام إلى القانون وبالتالي حجب ما يجرمه. هم لا يفعلون ذلك. بل يحجبون ويسمحون حسب قانون الألجوريذم الذي يكتبون هم أكواده طبقا لميولهم السياسية.
خبران متجاوران ظهرا حديثًا يجسدان جزءًا من هذه الحرب، أحدهما موجة إسقاط تماثيل قادة الحضارة الغربية. وثانيهما افتتاح تمثال فلاديمير لينين في ألمانيا. لقد وصل اليساريون في قلب الرأسمالية إلى حالة من النفوذ يعتقدون معها أنه آن الأوان لرسم التاريخ بصريًا، وتحديد ما يستحق من التماثيل أن ينتصب، وما يستحق أن يختفي عن الأنظار.
هذا تجسيد بصري شعبوي، في الشارع، لحرب معرفية استمرت منذ عقود في الأكاديميا وداخل الجامعات. سيطر فيها أنصار الديمقراطية التوحيدية هؤلاء على كتابة التاريخ، وطاردوا كل من يقدم رواية مختلفة. رسموا السقف الأخلاقي، وما يصح من الآراء أن يطرح وما لا يصح.
مصطلح الديمقراطية التوحيدية Mono-Demomcracism الذي استخدمته هنا استلهمته من تجل آخر لأفكارهم في الحياة السياسية. هؤلاء الناس يقدمون دعمًا لا محدودًا لأحزاب الإسلام السياسي، دعمًا غريبًا يدعونا إلى الارتياب. ويروجون عنها أنها ”تناصر الديمقراطية“. أي ديمقراطية!
بقليل من التفكير نتوصل إلى أن هذه الموقف متسق تمامًا معهم. الصوابية السياسية هي النسخة العالمانية المعاصرة من الرؤية الدينية الأحادية.
هؤلاء عالمانيون، صحيح. والآخرون دينيون، صحيح. لكن البنية الفكرية واحدة.
في الغرب العالماني اسمها الصوابية السياسية، صحيح. وسقفها الأخلاقي أفكار بشرية، صحيح.
لكن لو أزحتها إلى الشرق الأوسط وطليتها بثقافته ستصبح اسمها ”ثوابت الأمة“ وسقفها الأخلاقي أحكامًا دينية.
كلاهما يؤيد الديمقراطية تحت سقف الأحكام التي يفرضونها.
ليست الصوابية السياسية إذن إلا دينًا توحيديًا سياسيًا جديدًا جاء ليقضي على الديمقراطية التعددية ويسقط “أصنامها”، ويجبر الناس على اتباع أفكاره. ينطلق المؤمنون به بنفس الحماس. وينتشر وسط نفس الفئات. ويعتمد نفس الوسائل.
وقتها “تمكنوا”، وحازوا السلطة المطلقة، فظهروا على حقيقتهم. ولو استمر المسار بهذا الشكل في الحضارة الغربية، فالعالم على موعد مع تحول ضخم قريبًا. ينتقل فيه من التعددية إلى التوحيد مرة أخرى. بسلطة المؤمنين المتحمسين، وطلاب العلم الملقنين، والكهنوت الثقافي، والمرشدين العُلَى، وسلطات تنفيذية تعمل تحت سقفهم، ولا تستطيع تخطي أوامرهم، كيوتيز من أمثال جوستين ترودو، وفن وسينما وأدب وكتابة لا تتخطى حدودهم.
في الشرق الأوسط، سنكون على موعد مع انتصارهم لديمقراطيات النسخة الدينية الصرف منهم، ونحن الذين لم نتهن أساسا بحقبة انفتاح. ستكون الكارثة وخيمة.