باحث بجامعة لوزان - سويسرا
في أيام احتفالات مصر بعيد حرب السادس من أكتوبر، يشاهد المصريون بشكل روتيني أفلامًا بعينها تتصدر المشهد الإعلامي وكلنا نعرفها. تتراوح هذه الأفلام بين الأفلام الحربية، والأفلام التي تتناول أعمال مخابراتية معينة، يشاهدها جيلي الذي ترعرع في الثمانينات، وما زال يحمل في صدره نوعًا من الفضول حول معرفة قدر الحقيقة وسط هذه الدراما.
بالطبع بعضها صار اليوم مادة للتندر، خصوصًا أفلام الفنانة نادية الجندي، بمقولتها الشهيرة: “خالتي بتسلم عليك”، و”عسلية” نبيل الحلفاوي في فيلم الطريق إلى إيلات.
هل حقًا كانت العمليات المخابراتية تدار بهذه الطريقة؟ وهل يمكن لها أن تفسر حجم وتعقيد النصر الكاسح في السادس من أكتوبر الذي يدين لخطة الخداع الإستراتيجي تقريبًا بكل شيء؟ بالطبع هناك أعمال صيغت بشكل جاد وجيد، مثل الصعود إلى الهاوية، والذي كان نقطة انطلاق حقيقية للفنان المبدع جميل راتب، والفنانة اللبنانية إيمان، وهو عمل انطبع في ذاكرتنا الشعبية كلما نردد المقولة “هي دي مصر يا عبلة”، وهو ليس بالأمر الهين، فهكذا انطبعت التعبيرات الشيكسبيرية على اللغة الإنجليزية حتى اليوم.
لكن، يظل عمل واحد ذا تأثير مهول، ليس فقط على مستوى المنطقة العربية، ولكن على إسرائيل نفسها، وهو مسلسل رأفت الهجان بأجزائه الثلاثة، التي لم يضاهيها في الأعمال الوطنية شيئًا من حجم التأثير على الوعي المصري والعربي في تلك المرحلة الانتقالية الحساسة في النصف الثاني للثمانينات ومطلع التسعينات.
لا أملك إحصائيات المشاهدة، لكنني أزعم أنه رغم بساطة استديوهاته وإنتاجه مقارنةً بالأعمال الحالية، ما زال يشغل حيزًا كبيرًا من المشاهدة متى أذيع. بل إنه من الطريف أن الإسرائيليين، وهم متابعون جيدون للدراما والإنتاج الإعلامي والثقافي المصري إلى اليوم، يشاهدونه، ويعرفون محمود عبد العزيز وإيمان الطوخي وغيرهما.
لقد كان من الصعب أن نرى يوسف شعبان خارج شخصية محسن ممتاز، بصوته الأجش، وشاربه الكث، وبمقولته الشهيرة “مصر يا رأفت”، ونبيل الحلفاوي كنديم قلب الأسد، وإيمان الطوخي التي صارت في الوعي العربي إيستر بولنسكي، وبالطبع محمود عبد العزيز، الذي قبل أداء الدور في قمة مجده السينمائي فزاده نجاحًا تلفزيونيًا.
بلا مبالغة، لقد أعاد المسلسل تشكيل وقراءة المصريين والعرب للأمور في الصراع العربي الإسرائيلي: إن المصريين قادرون على اختراق الحاجز النفسي الذي خلقه الإعلام حول الموساد الذي لا يُقهر.
قُدِّم العمل بخلطة مبهّرة ببهارات حقبة تصوير المسلسل، فالمسلسل الذي ترك مخرجه أبطاله يرتدون نفس أزياء حقبة الثمانينات رغم أن أحداثه تجري في فترة سابقة يصور التضاد بين المجتمع المصري المتدين المؤمن، على طريقة الثمانينيات، في مواجهة “اليهود المنحلين”. الفحولة العربية التي تتساقط أمامها نساء إسرائيل المتزوجات والفاتنات (ستستمر هذه “الثيمة” في أعمال عديدة لاحقًا)، الناصرية “المهيبة” التي يمثلها الهجان ولا يخفيها حتى وهو في قلب إسرائيل. باختصار، استعادة الأرض كاملةً بالسلام لن يمنع من دغدغة مشاعر المواطن المصري العربي واللعب على كل أوتاره.
لقد كان العمل يمثل ما يسميه الألمان Sitz im Leben؛ أي الإطار الحي لأصحاب العمل الدرامي أكثر من الإطار الحي للشخصية التاريخية (رفعت الجمال). كان المسلسل يحكي حكاية حالة وطن ما زال يحاول أن يحدد بوصلته في قضايا كبرى، كالناصرية والعروبة والسلام والتطبيع. من هنا بدت لي قناعات رأفت الهجان أشبه لشخصية وكيل جهاز المخابرات العروبي الناصري عبد العزيز الطودي، الذي تولى الملف (شخصية عزيز الجبالي في المسلسل)، وأملى روايته على صالح مرسي (المؤلف “الرسمي”)، وكأنه تمنى أن يكون هو ذاك الرجل. حالة شبيهة بما حدث في بريطانيا حيث طموحات رجل المخابرات الخطير إيان فلمنج جسدها جيمس بوند في السلسلة التي كتبها فلمنج بعد خروجه من الخدمة في جهاز المخابرات البريطاني MI6.
بمجرد القراءة حول الشخصيات المخابراتية والإعلامية التي برزت في عملية إنتاج المسلسل، وفهم طبيعة المرحلة، ستكتشف ذلك، وستتحسس ثقل الحقيبة الأيديولوجية التي حملها صالح مرسي معه وهو يكتب هذا العمل.
لم يكن استدعاء شخصية الهجان (كما هو في المسلسل) أثناء النقاشات الإعلامية الحالية حول أشرف مروان مفاجئًا.
من سلموا برواية باري جوزيف، التي تضع أشرف مروان في صف إسرائيل، رسالتهم الضمنية إلى إسرائيل: “”إن كنتم نجحتم في استخدام مروان، فقد نجحنا في استخدام الهجان ضدكم”. ورسالتهم الضمنية إلى المصريين: “ما زال لدينا أبطال أسطوريون مثل الهجان، فلا تقلقوا من ضياع مروان”.
يظهر ذلك في عدة منابر إعلامية مصرية أهمها برنامج الإعلامي عمرو أديب، والذي استضاف فيه من تبقى من أبطال المسلسل، وقد استرسلوا في الحديث عن الدور البطولي الذي قاموا به من خلال تقديم المسلسل.
قبل ذلك، وفي حلقةٍ من المفترض أن تكون عن مناقشة فيلم الملاك لأشرف مروان، يحل يوري بار جوزف مؤلف كتاب “الملاك” ضيفاً على المذيع المصري في قناة الجزيرة القطرية، وفي خضم الحديث يطرح المذيع بدون مقدمات تساؤلًا حول “رأفت الهجان”، لا مرة بل مرتين، وبشكل غريب لا يتسق مع تسلسل الحوار.
يتلعثم بار جوزف، في المرة الأولى ويقول إنه على علم بالرواية المصرية حول بطولة “رأفت الهجان”، لكن هذه ليست الرواية المتعارف عليها هنا (في إسرائيل)، ثم يعود الحديث عن مروان. مرة أخرى، يسأله المذيع إن كان يعرف شيئًا عن “رأفت الهجان” (وكأن الإجابة الأولى لم تكن كافية)، فيصمت بار جوزف لبرهة ثم يقول: “نعم هو مشهور في مصر، ولكن سألت عن حالته ضباطًا أعرفهم في جهاز الشاباك (جهاز الأمن العام الإسرائيلي، وهو المنوط بملف مكافة التجسس) ولكنهم لم يعرفوا عن هذه القصة شيئًا”.
هنا أود تسجيل ملاحظتين في السؤال والإجابة الأخيرين:
أولًا، لاحظ كيف أن الوعي العربي العام يتعامل مع شخصية رأفت الهجان الدرامية على أنها رفعت الجمال، ولا حاجة للتمييز أو افتراض اختلاف. فبينما يسأل المذيع العربي ضيفًا إسرائيليًا عن حالة تجسس خطيرة، يطرح عليه اسم بطل مسلسل. أما الإجابة فهي الخيط الذي أود أن ألتقطه للانتقال للجزء التالي من المقال، وهو ما الذي نعرفه عن رفعت الجمال؟ ولنبدأ من إسرائيل، محل إجابة بار جوزف.
ذكرى السادس من أكتوبر تجعلنا نتساءل من جديد: هل كان #أشرف_مروان عميلا خائنا، أم بطلا مصريا؟ القصة من جميع جوانبها في هذا الملف من دقائق:https://t.co/ZltCkbdua8
قراءة ممتعة 🤗 pic.twitter.com/nsYZ1YZEuL— دقائق (@daqaeqnet) October 6, 2018
لا توجد رواية إسرائيلية رسمية، ولا توجد رواية واحدة، وبالتالي يمكن تقسيم المواد الآتية من إسرائيل كالآتي:
دفع النجاح الباهر لمسلسل رأفت الهجان الصحافة الإسرائيلية للتساؤل في نهاية الثمانينيات حول هوية الرجل. تحت وقع التأثير العاصف للرواية، نشرت يديعوت أحرونوت تحقيقًا طويلًا تعرض فيه رواية صالح مرسي، وتضع صورة مرسومة لشكل هذا الجاسوس الفذ. يبدو أنهم في هذه المرحلة (يونيو 1987) لم يكن لديهم أدنى معلومة عن هوية هذا الشخص، فاستخدموا الأسماء كما هي من الرواية، وذيّلوا التحقيق بسؤال مباشر لأحد أعلام الموساد في تاريخه كله إيزر هاريل: هل هذه الرواية حقيقية أم لا؟ يرد هاريل ردًا لا ينفي ولا يكذب: “الأمر معقد، لا يمكن تصور تعقيده … ما أنصح به هو نشر الرواية المصرية كما هي. ليس لدي غضاضة في نسب نجاح لمصر، نحن لدينا نجاحاتنا أيضًا”. الرد يعكس الإرتباك الشديد، وعدم تصديق مبطّن (لتعقيد العملية)، والترقب للمزيد من المعلومات.[1]
في مطلع يوليو 1988، أجرت صحيفة الأهرام لقاءً مع السيدة فالتراود بيتون، زوجة “رأفت الهجان” التي عرفته بشخصيته الأخرى ولم تعرف شخصيته المصرية، وكانت المرة الأولى التي يكشف فيها الاسم اليهودي الحقيقي: جاك بيتون وليس ديفيد شارل سمحون كما يظهر في المسلسل. أعقب ذلك تحقيقٌ لـ “الأوبزرفر” مع السيدة نفسها، وأخيرًا ظهرت صورة لبيتون وهو شاب.[2]
التقطت معاريف الخيط أخيرًا، وبات لها ما يتيح البحث الجاد: جاك بيتون، مالك لشركة سياحة في 2 شارع برينر واسمها Citours، وقد كان له شريك اسمه إيمري فريد. بصورة ما حصلت على صورة أخرى له وهو كبير السن وعرضتها على إيمري فريد وكانت الصدمة شديدة، ما لم يصدق هاريل أن يكون حقيقيا، واعتقد أنه مجرد رواية لطيفة، بات في تلك اللحظة حقيقة: فريد أصيب بصدمة، وخرجت أحرونوت على صفحتها الأولى بعنوان كبير: “لا أصدق!”.
إيمري فريد استعاد الذكريات، وقال إن بيتون أسس تلك الشركة في عام 1956. وفي ديسمبر 1960، نشر إعلانًا يفيد بأن الشركة تريد شريكًا لتوسيع نشاطها، فتقدم لها بيتون وشاركه حتى العام 1968:
“على مدار سبع سنوات لعينة كان يجلس على مكتبه أمامي ولم أشك فيه لحظة، جاسوس مصري؟! جاك!؟”[3]
يحادث الرجل المكلومُ أصدقاءً وزملاء عمل في الشركة وفي صناعة السياحة، لمطالعة الصورة ومزاعم صحفيي معاريف، ويؤكد الجميع أنه جاك اللطيف، الذي يقود السيارة الثمينة ويرتدي أغلى الملابس. حتى سائق تاكسي تعرف عليه، وكان يتساءل كيف كان يعرف كل هؤلاء النساء.[4]
بناءً على مزاعم رواية مرسي والسيدة فالتراود، سأل محققو معاريف أعضاء أحزاب اليسار عن مرحلة نشاط بيتون. وبينما أنكر أعضاء ماباي معرفتهم به، تعرف عليه كبار حزب رافي وأثنوا على طباعه.[5] التقطت الكريستيان ساينس مونيتور الإجابة وعلقت عليها بأن حجم نشاط الجمال واختراقه لاسرائيل على مدار 20 سنة كان أكثر من أن يستوعبه أو يقر به الموساد على ما يبدو، وهو السر وراء إنكار وصمت هاريل والموساد على الترتيب.[6]
بدأت الإشارات تظهر على استحياء إلى رواية جديدة مفادها أن الهجان/الجمال (جاك بيتون) لم يكن جاسوسًا خالصًا، بل عميلًا مزدوجًا، الأمر الذي دفع المصريين للرد. وقد انبرى للأمر من كانوا مسؤولين عن ملف الجمال: محمد نسيم (نديم قلب الأسد – نبيل الحلفاوي في المسلسل)، وعبد العزيز الطودي المذكور سابقًا. الأول نشر في المصور، والثاني في جريدة العربي الناصري (التي تمثل توجهاته السياسية). سنأتي على الأمر حينما نتناول الرواية المصرية في الجزء الثاني من هذا التحقيق.
أول من انبرى للقضية بشيء من التفصيل هو الصحفي المقرب من أجهزة الأمن والمتخصص في ملف الجاسوسية يوسي ميلمان، وقد وفر لنا رواية بيتون الإسرائيلية في كتابين وعدة مقالات هامة. الكتاب الأول الذي صدر بالعبرية هو كتاب “الجواسيس” وهو من تأليفه مع إيتان هابر سنة 2002، وهو عن أهم 20 عملية تجسس كشفتها إسرائيل على أرضها. لحسن حظ القارئ العربي، فقد تمت ترجمته في الأردن بنفس العنوان. الكتاب الثاني بالإنجليزية Spies Against Armageddon، وفيه إشارة أقل تفصيلًا عن الجمال.
الكتاب الأول يفرد فصلًا كاملًا للجمال، ويحكي ما يُسمى بالعملية ياتيد، وهي باختصار كالآتي: بدأت أعين الشاباك في رصد الجمال وهو على الباخرة الآتية إلى اسرائيل مع المهاجرين، أي حتى قبل أن تطأ قدماه إسرائيل. السبب في ذلك هو أن أحد الركاب على متن السفينة قد شك في حقيقته بسبب طلاقته في استخدام الفرنسية.
أنا أيضاً فاجأتني الرواية قبل أن تصل إلى عقلي؛ فالفرنسية كانت اللغة الأولى عند قطاع عريض من اليهود المصريين، وكلنا يعرف أنهم فضلوا دراستها واستخدامها لأسباب اجتماعية، فكانت اللغة الأولى حتى في مدارس الطائفة الإسرائيلية في الإسكندرية والقاهرة (التي كان جاك بيتون منها بحسب أوراقه الثبوتية) بل والتحقوا بالمدارس الفرنكفونية الكاثوليكية (وخصوصًا فرير الظاهر)، هذا السبب الذي نفعهم كثيرًا في تسهيل رحيلهم لفرنسا في الخمسينيات والستينيات.
على أي حال، فور وصول بيتون تم الاستعلام عنه، حتى استقبله مكتب تابع للشاباك، وهناك أيضًا تشكك المحقق في أسلوب بيتون، الذي بدا عليه أنه يجيب إجابات سليمة “بشكل مبالغ فيه” على كل سؤال، كما أن جودة فرنسيته زادت من شكوكه. كان هذا كافيًا للشاباك لوضعه تحت المراقبة والقبض عليه في منزله، وهو بصحبة فتاة وعدتهم ألا تقول شيئًا (هل أقسمت؟!). في مقر الشاباك ينهار الجمال، ويعترف بكل شيء، فيعرض عليه رجال الشاباك التعاون أو السجن مدى الحياة، فيقرر التعاون.
هنا يصطدم ميلمان في روايته في كتابه الأول مع روايته في كتابه الثاني بشكل خطير؛ ففي كتابه الثاني، يحكي لنا أن الجمال قد تم كشفه من قِبل شريكه إمري فريد، الذي كان يعمل لصالح الشاباك، وعلى طريقة روايات John Le Carré، يقول ميلمان إن شركة سي تورز السياحية قد أنفق عليها جهازا المخابرات المصرية والإسرائيلية: الأول من خلال الجمال، والثاني من خلال فريد.
حسب تلك الرواية: بعد تعثر الشركة ماديةً بسبب ضعف السياحة بعيد العدوان الثلاثي، يتشكك فريد في أمر شريكه بيتون، فمن أين له بالمال الذي ينفقه على أسفاره العديدة لأوروبا؟ ويبلغ شكوكه للشاباك، الذي يقبض على الجمال، فينهار ويقرر التعاون معهم.
هناك مبدأ في روايات المخابرات عمومًا، وهو أن الجهة التي تكشف الجاسوس تعرف معرفة اليقين لحظة القبض عليه؛ لأنها من قام بذلك، بينما قد لا تعرف مخابرات العميل عنها وعن حيثياتها شيئًا؛ لأنها تمت بتدبير وسرية شديدة من قبل الطرف الثاني.
الخلاف الكبير في الرواية الإسرائيلية حول تلك النقطة اليقينية، يجعلنا نتساءل” كيف مرت هذه على ميلمان؟ وكيف لم يحاول تصحيحها؟ الفارق الزمني كبير جدًا؛ فبينما يضع الكتاب الأول كشف بيتون بين 1954 و1956، يضع الكتاب الثاني الكشف بعد ديسمبر 1960، وهو تاريخ الشراكة بين إيمري فريد وبيتون بحسب كلام فريد نفسه سابقًا، بل إن فريد قال حرفيًا إن سفريات بيتون الكثيرة كانت منطقية ولم يشك فيها؛ لأن طبيعة عمله تقتضي ذلك، وبالتالي فكلام يوسي عن فريد يناقض كلام فريد نفسه.
الفارق الزمني بين روايتي كشف الجمال مهم؛ لأنه يكشف مشكلة خطيرة، فبين الزمنين يقع العدوان الثلاثي.
الرواية الأولى تقول إن بيتون قد أُمِر بتمرير معلومات غير دقيقة للمصريين أثناء العدوان الثلاثي، فلو كان قد أُلقي القبض عليه -بحسب الرواية الثانية- بعد العدوان بسنتين على الأقل، فمن أين أتى ميلمان بـ “حدوتة” المعلومات المضللة؟ سؤال يشكك في مصداقية الرجل، أو حرفيته على الأقل.
هنا نأتي لدرّة تاج عملية ياتيد كما أسماها الشاباك، بحسب ميلمان، وهي دور بيتون في تضليل المخابرات المصرية قبيل حرب الأيام الستة سنة 1967. على طريقة أشرف مروان (ولكن بالعكس)، فإن بيتون قد تواصل مع المخابرات المصرية قبل الحرب بأيام، وأكد لهم أن الحرب بالفعل ستندلع يوم 5 يونيو، لكنه دس السم في العسل بقوله إن المعركة ستكون برية ولن يضربوا جويًا.
بمنتهى السذاجة يقبل المصريون كلمات الجمال، فيقررون ترك الطائرات في العراء، فيسهل على الإسرائيليين تدميرها عن بكرة أبيها، وبذلك يكون الجمال هو بطل حرب 67، وتكون تلك العملية، بحسب ميلمان، أعظم عملية في تاريخ المخابرات الإسرائيلية، مشبهًا إياها بعملية Mincemeat الشهيرة في الحرب العالمية الثانية.
مبدئيًا، لا حاجة لنا على التأكيد أن عبد الناصر كان على علم بميعاد الحرب، ليس من مصدر واحد ولكن من عدة مصادر، وتقريبًا كل المذكرات التي غطت تلك المرحلة تؤكد ذلك. بل إنه أيضًا كان يعي تمامًا أن الضربة جوية، الأمر الذي ناقش فيه قادة السلاح يوم 2 يونيو في اجتماعٍ سري، وطرح فيه رؤية أن على مصر استقبال الضربة الأولى الجوية “على الطيران”، فرد صدقي محمود، قائد سلاح الجو بالإنجليزية: But this will cripple us. أما ترك الطائرات في العراء، فهو أمر يعود إلى العام 1956، وظلت طلبات قادة الجيش ببناء دُشم دون استجابة، حتى احتد الأمر بين محمد فوزي وعبد الحكيم عامر في هذا الصدد. وبسبب عِناد الأخير، تُركت الطائرات بلا دُشَم.
إما أن بيتون لم يبلغ المصريين بأن الضربة برية، كما زعم ميلمان، أو أنه أبلغهم بأن الضربة جوية، ويهيأ لي أن الأخيرة أرجح؛ لأن أسهم الجمال عند المخابرات ظلت عالية، فلو كان ضللهم، لما كان قد استمر هناك بهذه الفاعلية. في المقال المقبل سنأتي على وثيقة جديدة طُرِحت في هآرتس تؤيد ذلك.
أخيرًا، يقول ميلمان في كتابه الأول إن بيتون صار كثير الطلبات وقليل الفاعلية، فقرر الموساد إيقاف التعاون معه، وتركه يرحل مع زوجته الألمانية إلى أوروبا. ثم يعود ليقول إنه لما أصيب بالسرطان، أي في مطلع الثمانينات، طلب ترحيله إلى ألمانيا لعمل العملية في هايدلبرج؛ خشية أن يقتله الإسرائيليون في المستشفى إذا تلقى العلاج عندهم في إسرائيل. مرة أخرى، هل ترك اسرائيل بعد العام 1967، أم بقي فيها حتى اضطُرّ للذهاب للعلاج في ألمانيا في مطلع الثمانينيات؟ أيضًا هناك ما سنتعرض له من الأدلة مما يشكك في صحة الرواية الأخيرة.
باختصار، فإن تنويعات رواية ميلمان تعاني من تناقضات (discrepancies) خطيرة، تضرب في مفاصلها، مما يزيد من الشكوك حول مصداقيتها كمصدر تاريخي.
ليست هذه هي المشكلة الوحيدة في كلام ميلمان. المشكلة الثانية هي أن الرواية غير قابلة للتقصي (Unverifiable)؛ لأنه ينسبها لأناسٍ أخبروه بها بشكل شخصي وقبل وفاتهم (يُقصد هنا إيزر هارل وموردخاي شارون، وكلاهما قامة في الموساد لكنهما توفيا). من الصعب على الباحث المحايد أن يتجنب الإستنتاج الطبيعي في ضوء المتاح، وهو أن الرواية لا يمكن الإعتداد بها تاريخيًا، على الأقل في صورتها التي قدمها ميلمان.
قبل الختام، نعود لشهادة يوري بار جوزف عن عدم علم الشاباك ببيتون. بزيارة موقع الشاباك، نجد لائحة الشرف: طرح أهم 20 عملية تم الكشف عنها، ومن ضمنها عمليات مصرية أقل بكثير من عملية بيتون، مثل عملية كابوراك يعقوبيان (إسحق كتشوك) التي سنتعرض لها في المقال التالي، بينما العملية التي من المفترض أنها الأخطر لم يتم طرحها أو الإشارة لها، مصداقًا لما وجده بارجوزف.
في المقال التالي، سنتعرض للرواية المصرية ومصادرها، وهي الأكثر ثراءً من حيث المواد والمحتوى.
شكر واجب:
يود المؤلف أن يقدم بالغ الشكر لسيادة اللواء برهان حماد، وكيل جهاز المخابرات العامة المصرية السابق؛ لملاحظاته المهمة الخاصة ببعض المواد التي تمت دراستها. المؤلف أيضًا ممتن للإعلامي محمد سيف النصر على مساعدته في ترجمة بعض المواد العبرية، وللقائمين على صحيفة يديعوت أحرونوت الذين قاموا بالبحث عن مواد محددة لم تكن متوفرة رقميًا.
[1] ידיעות אחרונות 26 – 6 – 1987 , P. 13-4
[2] Shyam Bhatia, “Revealed: Secrets of Egypt’s Master Spy,” The Observer 3/7/1988, p.23
[3] מאת גדעון מרון ושפי גבאי,”אינני מאמין שהוא היה מרגל מצרי,” מעריב 5 – 7 – 1988، 1
” אינני מאמץ،” מעריב 5 – 7 – 1988، 2،3.
08.07.1988 ,מעריב، 3
[4] 15.07.1988 ,מעריב، 3
[5] ibid
[6] Jane Friedman, “Spy Story Delights Egypt and Irks Israel,” The Christian Science Monitor, 8/9/1988 – DOI: <https://www.csmonitor.com/1988/0908/ospy.html>