الوسط الديني يشبه مثيله الفني في محاولته إرضاء جميع الأذواق. الإسلاميون اتبعوا تلك القاعدة لتلبية حاجات مختلف شرائح الجماهير ليضمنوا ولاء الجميع. أنتجوا عبد الحميد كشك؛ عدوية المنابر الشعبية، ومعه محمد الغزالي؛ عبد الحليم حافظ الشرائح الاجتماعية الأرقى.
في 22 سبتمبر/ أيلول 1917، ولد محمد الغزالي لأسرة فقيرة في إحدى قرى البحيرة المصرية. تعلم في معهد أزهري بالإسكندرية، ثم التحق بكلية أصول الدين سنة 1937، ونال منها شهادة العالمية في 1941.
تلقى محمد الغزالي العلوم الدينية من كبار مشايخ الأزهر وعلي رأسهم شيخ الأزهر محمود شلتوت، لكنه يقول إن تأثره الأكبر كان بحسن البنا:
عُرف محمد الغزالي وذاع صيته بعدما كتب في مجلة الإخوان، وأثنى عليه حسن البنا فسمّاه أديب الدعوة.
سنة 1947 نشر أول كتبه “الإسلام والأوضاع الاقتصادية”، وبعده “الإسلام والمناهج الاشتراكية” ثم “الإسلام المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين” في 1950م، محاولًا فيها اختلاق نظرية اقتصادية في الإسلام لأول مرة. وقال صراحة إنه أول من كتب عن “اشتراكية الإسلام”، وأن سيد قطب أخذها عنه بعد ذلك في كتابه “العدالة الاجتماعية في الإسلام”.
دعوة الغزالي للإصلاح الاقتصادي – بالمناسبة – لا تهدف إلي أكثر من تجهيز الناس ماديًا لاستقبال الدين! “فمن العسير أن تملأ قلب إنسان بالهدى، إذا كانت معدته خالية”.
رغم معاداته الصريحة للحضارة الغربية بما تتضمنه من قيم ونظم اجتماعية واقتصادية وسياسية، وتكفيره وتخوينه لطه حسين وكل من دعا للحاق بتلك الحضارة، كما سجل ذلك في كتبه “علل وأدوية” و”الإسلام في وجه الزحف الأحمر”، و”الاستعمار أحقاد وأطماع”، و”ظلام من الغرب”، و”من هنا نعلم”، إلا أنه ذهب إلى العكس في كتابه “جدد حياتك”؛ حيث مرر خرافات التنمية البشرية عبر مفاهيم دينية، فقدم كتاب “دع القلق وأبدأ الحياة” لـ “ديل كارنيجي” في صورة دينية، أو طبقًا لقوله: “رد الكتاب إلى أصوله الإسلامية”!
من هنا وضع الأسس التي قامت عليها مدرسة خلط الدين بالتنمية البشرية مثل عائض القرني وطارق سويدان وعمرو خالد، وغيرهم.
(1) حسن الهضيبي
في كتابه “من معالم الحق في كفاحنا الإسلامي” طبعة 1963، يقول محمد الغزالي بعدما فصله ثاني مرشدي الإخوان:
حذف الإخوان تلك الفقرات من الكتاب في الطبعات اللاحقة، وقال الغزالي نفسه بعد وفاة الهضيبي: “قد أصلحت ما بيني وبينه قبل أن يموت بنحو عامين”. لكن هذا لا يبرؤه من الفجور في الخصومة لحد اتهام مرشد جماعته نفسه بأن الماسونية نجحت في زرعه مرشدًا لهم.
(2) جمال عبد الناصر
بعد 23 يوليو/ تموز 1952م، كان الغزالي مفصولًا من الإخوان إثر خلافه مع الهضيبي، فعمل تحت لواء نظام يوليو، وانضم للاتحاد الاشتراكي، وشارك في المؤتمر الوطني السنوي لعام 1961، وحاول صبغ أفكار نظام يوليو بصبغة إخوانية.
فشلت محاولات محمد الغزالي فاتقلب على جمال عبد الناصر في كتبه “كفاح دين” و”قذائف الحق” و”معركة المصحف” و”حصاد الغرور” و”حقيقة القومية العربية”، وكفره كعادته في كل خلاف سياسي. يقول:
القول الفصل في علاقة الإخوان بحركة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ وحريق القاهرة | س/ج في دقائق
(3) صلاح جاهين
في مايو/ أيار 1962، ألقي الغزالي كلمته في “المؤتمر الوطني للقوى الشعبية” بحضور جمال عبد الناصر. طالب بزي موحد للرجال وآخر محتشم للنساء، وطالب بتحرير القانون من أي تبعية أجنبية، قائلًا: “إن الاستقلال الحقيقي هو استقلال الأمة في تشريعها، ولا تكون عالة علي غيرها”.
نشر صلاح جاهين رسمًا ساخرًا للغزالي واقفًا وعمامته ساقطة علي الأرض، وهو يقول: “يجب أن نلغي من بلادنا كل القوانين الواردة من الخارج، كالقانون المدني وقانون الجاذبية الأرضية”. في إشارة إلي كون العزلة الثقافية التي ينادي بها الغزالي سوف تحرمنا تباعًا من كل منتجات الحضارة الحديثة.
غضب محمد الغزالي وحوّل المعركة إلي ساحة الدين؛ فهاجم جريدة الأهرام وطالبها أن “تحترم نفسها”، ووصف جاهين بالقواد والشيوعي، وقال:
استمرت المعركة حتى شحن الغزالي الشباب ضد جاهين، فخرجوا من المسجد في مظاهرة عارمة صوب مبني جريدة الأهرام وقذفوه بالحجارة.
(4) فرج فودة
في يناير/ كانون الثاني 1992، ضمن فعاليات معرض الكتاب، أقيمت المناظرة الشهيرة بينه وبين فرج فودة تحت عنوان “مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية”.
عجز الغزالي عن إجابة فودة علي تقديم نموذج ومثال واحد ناجح من التاريخ أو الحاضر علي الدولة الدينية، أو تقديم برنامج سياسي للحكم، فما كان منه إلا تكفير فودة ووصفه بالمرتد، ما أدى إلى اغتيال فودة بعد المناظرة بشهور قليلة.
وبعد الاغتيال، ذهب محمد الغزالي إلى المحكمة عند استجوابه، وقال إن فودة يعد مرتدًا عن الإسلام ويجب علي الحاكم أن يقتله، وأن قاتله “يعد مفتئتًا علي السلطة وأدي ما يجب أن تقوم به السلطة، وأنا لا أذكر أن له عقوبة في الإسلام”!
جرائم السلطة الاجتماعية في حارتنا .. الحلقة الغائبة بين الحكم والقانون
كان محمد الغزالي واضحًا دائمًا في تكفيره الصريح لـ “طه حسين”، و”سعيد العشماوي”، و”نصر أبو زيد”، و”فرج فودة”، فيقول صراحة: “لماذا لا نسمي هؤلاء بأسمائهم الحقيقية، والاسم الحقيقي لهؤلاء: المرتدون”!
رغم ذلك، يحتفي به البعض باعتباره رمز للوسطية والاعتدال لمجرد رفضه لبعض أحاديث الآحاد، وتراجعه عن بعض آراءه المتشددة عن صوت المرأة وكشف وجهها وقيامها ببعض الأعمال، ولدعوته لحكم الشورى ولشيء قريب من الاشتراكية، رغم انطلاق هذا كله في إطار تصوره الرجعي عن الدولة الدينية، باعتبار “علاقة الدين بالدولة في الإسلام وحدة واحدة لا تقبل التجزئة”، طبقًا لقوله
الرجل كان واضحًا في رفضه الاعتراف بالتقدم الإنساني والحضاري الذي يُطلق عليه تعبير تحديات “الاستعمار الثقافي والعسكري” التي يرى أنها “سوف تتلاشي كلها يوم يعتنق المسلمون الإسلام، ويدخلون فيه أفواجًا، حكامًا وشعوبًا”.
البنا وقطب والقرضاوي ثالثهما.. 5 معالم لمؤسس فقه عصور التحول | هاني عمارة
صعود وانهيار الإخوان في السعودية .. رحلتهم قبل تعهد بن سلمان بنهاية حقبة ٧٩ | س/ج في دقائق