باحث في جماعات الإسلام السياسي والتراث الإسلامي
نبوءات قتال اليهود في آخر الزمان مشهورة ومتداولة حاليًا في خطاب ما يسمى بـ “الصحوة الإسلامية” وجماعات الإسلام السياسي؛ بفعل تأثير قضية فلسطين وبعدها الديني، وأشهرها حديث “شجر الغرقد” في صحيح مسلم، والذي رواه البخاري بعد استثناء شجر الغرقد.
لكن حديثًا آخر في نبوءات نهاية الزمان لن تسمعه من خطباء الإسلام السياسي في هذا الشأن. يروي البخاري ومسلم أحاديث قتال المسلمين للترك في آخر الزمان.
في البخاري، في الباب التالي مباشرة لأحاديث قتال اليهود، وبنفس صيغة حديث اليهود يرد نص الحديث: “لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون الترك، قومًا وجوههم كالمجان المطرقة يلبسون الشعر، ويمشون في الشعر”.
والمفارقة أن الحديثين رويا بنفس سلسلة الرواة وهي: عن قتيبة، عن يعقوب، عن سهيل، عن أبي صالح، عن أبي هريرة.
سبب تجاهل الخطاب الإسلامي المعاصر لهذه الأحاديث أن الترك أصبحوا أمة مسلمة. فما معنى قتال المسلمين للترك في آخر الزمان إذا كان الترك أنفسهم مسلمين! بعضهم ممن تعرض لهذا الحديث حمله على ارتداد الترك في آخر الزمان، ليقاتلهم المسلمون، معتبرين أن الارتداد حدث زمن أتاتورك، غير أن هذا التفسير اختفى مع تولي الإسلاميين الحكم في تركيا.
هنا تظهر عدة اسئلة: ما غرض أحاديث قتال الترك؟ ولماذا تتعامل معهم الروايات باعتبارهم أعداء للمسلمين تمامًا مثل اليهود في حروب آخر الزمان؟ وهل هناك رابط بينها وبين أحاديث قتال اليهود؟
الترك من القوميات التي تأخر دخولها الإسلام؛ إذ دخلوه في زمن هارون الرشيد. نعني هنا أصل الأتراك في آسيا الوسطى، وليس الأتراك المقيمين في دولة تركيا حاليًا,
وفي زمن تدوين هذه الأحاديث لم تكن قبائل الترك قد دخلت الإسلام بعد، وكانوا حينها يسكنون على أطراف الدولة الإسلامية، يهددون حدودها بشن الغارات، وتدور بينهم مناوشات باتوا من خلالها مصدر تهديد للدولة.
وبعكس العديد من القوميات، لا تحمل الروايات أي ذكر لفضائل الترك، بل تحذير بكونهم مصدر خراب، ووعيد شديد في رواية نعيم بن حماد عن كعب : “لتخرجن الترك خرجة لا ينهنهم شيء دون القطيعة، فيهم ذبح الله الأعظم”.
ولعظم خطر الترك، نهت رواية في سنن أبي داود عن الاحتكاك بهم ابتداءً في باب حمل عنوان “النهي عن تهييج الترك والحبشة”، ونص الحديث عن النبي : “دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم”.
الملفت في أحاديث الترك أنها تكثر في العصر الثاني للتدوين في القرن الثالث الهجري، بينما لا تجد لها أثرًا في القرن الثاني كموطأ مالك مثلًا. تلك الفترة – القرن الثالث – شهدت ظهور الأتراك بقوة على الساحة من خلال ثورة بابك الخرمي وجيش الخليفة المعتصم من الأتراك الذي جلبه ليتخلص من سيطرة الفرس، ويخمد ثورات القبائل العربية.
وقد ظهر أثر هذه الأحاديث في صياغة الكثير من أحاديث الفتن وعلامات الساعة لإسقاطها على الأحداث والثورات التي زادت في زمني المأمون والمعتصم.
وملخص هذه الأحاديث في زمان المهدي المنتظر أنه يخرج عدو خارجي قادم من الشرق لقوم من الترك نعالهم الشعر وعيونهم ضيفة وأنوفهم حمراء، فيتصالح المسلمون والروم البيزنطيون، ثم بعد التخلص من هذا العدو، يغدر الروم ويهاجمون المسلمين في الشام، فيقاتلهم المسلمون، فيفتحون القسطنطينية، ثم يخرج الدجال في جيش من اليهود في فارس ويتحرك باتجاه الشام، فيحاصر المسلمين، فينزل المسيح ليصلي خلف المهدي، ويقتل الدجال، وينتصر المسلمون.
وقد لخص نعيم بن حماد هذه الأحداث في كتاب الفتن في الرواية التالية عن كعب: “ملاحم الناس خمس، قد مضت اثنتان، وثلاث في هذه الأمة: ملحمة الترك، وملحمة الروم، وملحمة الدجال، ليس بعد ملحمة الدجال ملحمة”.
هذه الأحاديث تتطابق مع ما حدث زمن المأمون والمعتصم من خروج بابك الخرمي وتأسيس دولة في مناطق أذربيجان وأرمينيا، هددت دولتي العباسين والبيزنطيين، فحصلت هدنة بينهما للتفرغ لقتال فارس، فغدر البيزنطيون، فيتحرك المعتصم بجيش إلى عمورية وانتصر عليهم.
وما يدعم كون بابك الخرمي وجيشه هم الترك الذين يقصدهم الحديث ما عقب به البيهقي على حديث قتال الترك والذي من صفاتهم نعالهم الشعر حيث روى عن محمد بن عباد قال: “بلغني أن أصحاب بابك كانت نعالهم الشعر”.
جاء في مصنف ابن أبي شيبة عن عبد الله بن عمرو بن العاص: “أوشك بنو قنطوراء أن يخرجوكم من أرض العراق”. وجاء في روايات أن بني قنطوراء هم الترك بنفس صفاتهم الجسدية المذكورة سلفًا. والحديث يصف بدقة سيطرة عسكر الترك من جيش المعتصم على العراق.
وحدد موقف العرب من هذا بين من انسحب وبين من استسلم للواقع وبين من تمرد وثار. ويؤيده الحديث الوارد في مسند أحمد وسنن أبي داود: “ذكر النبي أرضًا يقال لها البصرة. إلى جنبها نهر يقال له دجلة، ذو نخل كثير، وينزل به بنو قنطوراء، فيتفرق الناس ثلاث فرق: فرقة تلحق بأصلها وهلكوا، وفرقة تأخذ على أنفسها وكفروا، وفرقة يجعلون ذراريهم خلف ظهورهم، فيقاتلون، قتلاهم شهداء، يفتح الله على بقيتهم “.
ولعل أهم دور قام به العسكر الترك الذي جلبهم المعتصم كان القضاء على التمرد القبطي فيما يعرف بـ “ثورة البشموريين” في زمن المأمون، حيث أرسلهم إلى مصر بقيادة حيدر بن كاوس الأشروسني “الأفشين”، والذي انتصر للعباسيين في عدة حروب، لكن سيطرته قويت بشكل هدد سلطة الخليفة المعتصم، فأرسل في قتله.
وقد جاءت رواية عجيبة في كتاب “الفتن” لنعيم بن حماد تصف حصار مصر عن عمرو بن العاص قال: “تهلك مصر إذا رميت بالقسي الأربع: قوس الترك، وقوس الروم، وقوس الحبشة، وقوس أهل الأندلس”، وهو ما مرت به مصر حينها؛ حيث كانت مطمع الأمويين في الاندلس حتى استولوا على الإسكندرية، وحاول غزوها البيزنطيون، وهاجمها جيش الأفشين التركي