أحمد زكي.. كيف استحق اعتذار روبرت دينيرو عن “زوجة رجل مهم”؟ | أمجد جمال

أحمد زكي.. كيف استحق اعتذار روبرت دينيرو عن “زوجة رجل مهم”؟ | أمجد جمال

27 Mar 2019

أمجد جمال

ناقد فني

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

محمد خان – أحمد زكي – روبرت دينيرو – ميرفت أمين

في يوليو/ تموز 1987، وبعد حفل ختام مهرجان موسكو الدولي وتوزيع جوائزه، جمعت إحدى القاعات المكتظة رئيس لجنة التحكيم النجم روبرت دينيرو بالنجم المصري أحمد زكي الذي شارك في المسابقة بفيلم زوجة رجل مهم.

روبرت دينيرو رأي أحمد زكي من بعيد، فاقترب منه وبدأ الحديث متأسفًا على ذهاب جائزة أفضل ممثل لأنطوني هوبكينز، وقال له “أنت ممثل رائع” مع لكمة التحية على كتف زكي.

هذه القصة يرددها صناع هذا الفيلم كثيرًا في لقائاتهم بفخر. أحمد زكي تعجب مرارًا من سبب اعتذار دينيرو. كانت تكفيه كلماته ومشاعدته وإعجابه بالفيم.

التحام فكرتين

زوجة رجل مهم كتبه السيناريست والناقد رؤوف توفيق. وهو مستلهم بالأساس من تجربة شخصية لمخرجه محمد خان.

حكى خان في أكثر من مناسبة عن حادثة سيارة تطورت لمشاجرة بينه وبين ضابط شرطة متطاوس، تجاوز فيها الأخير في حق خان. قال المخرج الراحل إنه كان يستطيع استغلال القانون ومعارفه في معاقبة الضابط، لكنه اكتفى بالاعتذار القانوني، وآثر أن ينتقم بصناعة فيلم عنه.

في نفس التوقيت انتشرت حكاية في الصحف عن ضابط شرطة يعيش في حي الجيزة، أصيب بخلل عقلي بعد تقاعده من الخدمة، ما أدى به لحمل سلاحه في شرفة المنزل والتصويب على المارة بشكل عشوائي.

التحام الفكرة الأولى بالثانية صنع الفيلم الذي تحول لكلاسيكية في السينما المصرية، ونقلة مهمة في تاريخ صناعه.

من البطل.. الزوجة أم الرجل المهم؟

العنوان يوحي بأن الشخصية المركزية في زوجة رجل مهم هي الزوجة، وهي تفصيلة هامشية تعبر عن الانحياز التاريخي للمرأة في سينما خان، لكن “الرجل المهم” هو المركز فعليًا.

هشام – الذي لعب دوره أحمد زكي – ضابط الشرطة صاحب النفوذ، الذي يقدس مهنته، ويستمد منها شعور السمو وحس الاستحقاق الذي يجعله يرى فتاة تعجبه بين المارة في شوارع المنيا فيقرر أن تكون زوجته، وينفذ قراره تحت سطوة الإبهار المختلط بالرهبة لدى منى – ميرفت أمين – وأسرتها.

ينتقلا سويًا للمعيشة في القاهرة، وتمر سنوات قليلة. علاقة زوجية تقوم على الخيط الرفيع بين الحب والاستبداد، وهي حقًا عصية على التقييم.

يتدرج هشام في المناصب حتى نصل لأحداث 18 و19 يناير/ كانون الثاني 1977. احتجاجات شعبية غير سلمية تبعت قرارات اقتصادية للرئيس محمد أنور السادات. هشام كان أحد الضباط المكلفين بوأد الاحتجاجات، فاستخدم كل أدواته المشروعة وغير المشروعة في ذلك.

القصص نوعان؛ الأول مساق بالحبكة، والآخر مساق بالشخصية، وفيلمنا من أوضح نماذج النوع الثاني. أسباب تميزه هو الشخصية نفسها؛ كيف رُسمت على الورق؟ وكيف ظهرت على الشاشة؟ مفاتيح جعلتها تستحق الدراسة.

أفضل طرق اختيار عنوان لفيلمك، وأنجحها في تاريخ السينما | أمجد جمال | دقائق.نت

شخصية مركبة بتعقيد الأحداث

الفارق الأساسي بين الشخصية الروائية الجيدة والأخرى السيئة هو مدى تفهمنا لدوافعها وإن اختلفنا معها، وهو السبب الذي يجعلها جديرة بالمتابعة؛ أن تكون صادقة، نتعاطف معها حتى مع اقتراف الشر. كل ذلك ينطبق على شخصية هشام. الصعوبة في تصنيفه والحكم عليه حتى مع بعض التحامل من مخرج الفيلم بحقه.

في هذا الفيلم يؤدي أحمد زكي واحدة من أكثر شخصياته تركيبًا، فهو بطل في مشهد، وفي المشهد التالي بطل خارج العرف أو (Anti-hero).

هشام رغم غلظته المهنية ظهر زوجًا حنونًا وعاشقًا في كثير من المشاهد. تجاوز القانون لهدف يعتقد بصدق أنه نبيل. منع المأساة الأكبر بمأساة يراها أصغر. عاش متعجرفًا وأنانيًا، لكنه منضبط ونزيه في عمله ويرفض الواسطة. نراه في مشهد يمارس العنف ضد بائع الفاكهة، وفي مشهد تالي يقهقه مثل الطفل وهو يشاهد مسرحية في التلفزيون.

وكيف نحكم على شخصية هشام والتاريخ نفسه لم يصدر حكمًا متماسكًا على أحداث 18و19 يناير/ كانون الثاني نفسها؟! وهي واحدة من أكثر الحوادث غموضًا وبلبلة في تاريخ مصر.

“انتفاضة خبز” في نظر البعض، و”انتفاضة حرامية” عند آخرين. الفيلم نفسه بدًا محايدًا في هذه النقطة، ربما بإرادة صناعه أو بضغوط رقابية, ظهرت لنا صور أرشيفية من أعمال التخريب والسرقة والفوضى، والزوجة في أحد المشاهد تعلق بالسلب على هذه الأمور. شخصية هشام بدت أقرب للحدث؛ هي أعقد من تصنيفات الخير والشر. وربما أعقد من التصنيفات النفسية.

عبقرية أحمد زكي

شخصية بصعوبة “هشام” احتاجت لممثل عبقري؛ تجمعه بالشخصية التي يجسدها سمة أساسية، وهي تقديس المهنة. أحمد زكي كان يصرح في حواراته دائمًا بأن بداية تعرفه على شخصياته تكون بعين الطبيب النفسي. يقرأ الشخصية ثم يشخصها وفق علم النفس.

أحمد زكي كان باحثًا ومجتهدًا. لعل أكثر ما سمعناه في حواراته كانت أسماء متلازمات وأمراض نفسية. وبالمناسبة كان من الفنانين المصريين القلائل المنفتحين بشأن الذهاب لأطباء نفسيين. وصف زكي أطباء النفس بأنهم “أصدقاء بالأجر في زمن عز فيه الأصدقاء”.

“العصاب” هو التشخيص الذي قدمه أحمد زكي في أحد لقاءاته التلفزيونية لشخصية هشام. قد يختلف المتخصصون مع هذا التشخيص، خاصة وأن كلمة عصاب ترجع لكتابات التحليل النفسي القديمة لفرويد وكارل يانج، والتي أعاد العلم الحديث ضبطها.

يمكن استخدام تشخيص جنون العظمة، وهو من أنواع البارانويا، لكن اعتقاد هشام بأهميته في المجتمع لم يكن اعتقادًا مطلق الوهم، بل له دلالات ملموسة. هو فقط بالغ في قراءتها. لكن البارانويا أقرب لتشخيص الكاتب والمخرج، لذلك كانت المرآة أداة رئيسية في التعبير البصري طوال الأحداث، وهي دائما ما تعكس الحقيقة التي رضي بها هشام في البداية وهو في مجده، ورفضها في النهاية حين حطم المرآة.

اللاعنف أثناء النفوذ

ذكرنا أن هشام مارس العنف ضد بائع الفاكهة. هذا يحدث في الفصل الأخير من الفيلم وبعد تجريده من المجد. الملاحظة قد تبدو غريبة، لكن الفيلم لم يُظهر هشام يمارس العنف ضد أحد طوال فترة نفوذه! وهو الغريب على العقل الجمعي من أعنف الضباط في تاريخ السينما المصرية. بدا باطشًا دون يبطش.

حتى محاولة العصيان الأول من زوجته احتواها عن طريق العناق، بينما يجز على أسنانه ويقبّل رقبتها بدلًا من ضربها، وهي تفصيلة جانبية عن طبيعة العلاقة الزوجية القائمة أساسًا على إعجاب شكلي فامتلاك جسدي جنسي.

وسواء كان خيار “اللاعنف أثناء النفوذ” رقابيًا أم تأليفيًا، فقد تفوق أحمد زكي على الطرفين بتفصيلة ابتكرها في مشهد استجواب الكاتب المثقف، حين خلع هشام ساعة يده في حركة عفوية، وتركها فوق مكتبه.

هشام هنا يمارس العنف دون ممارسته بأداة “ما وراء النص” SUBTEXT، فاللكمات أو التهديد بها يستوجب خلع الساعة أولًا. محمد خان أعجب بما فعله أحمد زكي في المشهد، فطلب منه أن يبقيه.

أكثر المقولات إلهامًا حول صناعة الأفلام

هل خلود الفن معيار لجودته؟ خمس ثغرات لهذه النظرية | أمجد جمال | دقائق.نت

انفعالات مدروسة

هناك أيضًا تفاوت ملحوظ بين الانفعالات الحركية لأحمد زكي قبل وبعد التقاعد من العمل، أذكر هنا اللقطة التي يخبره فيها الفنان حسن حسني بوقفهما عن العمل. نجد أحمد زكي وقد تخلى عن الوضعية الشامخة الطاووسية وجلس منكمشًا، ذراعيه مضمومة عند منطقة الحوض، وهو يردد بهيستيرية: “إحنا اتخلقنا عشان نكون ظباط”، بعكس حسني الذي لم تظهر عليه نفس أعراض الانتكاسة الجسدية واكتفى بتنفيث دخان سجائره. ذكّرنا الفيلم قبلها أن حسن حسني لم يكن بكفاءة هشام كضابط، بالتالي جاءت انفعالاتهما متوافقة مع نسب التضرر.

حتى الانفعالات الصوتية من أحمد زكي بدت مدروسة بعناية وفقًا لتحولات الشخصية. في المشهد الذي يرفض فيه عرض جاره بالعمل لديه، نسمع صراخ هشام الضابط مخلوطًا ببكاء هشام الموقوف عن العمل. نفس الأمر في مشهد اقتياد هشام لتاجر الفاكهة إلى قسم الشرطة، وهو يعرف نفسه بفخر: “أنا العميد هشام أبو الوفا”، ثم يسكت لثانية ويضيف بنفس الشموخ المجروح “سابقًا”. والعبقرية كلها في الفجوة الصامتة بين العبارة الأولى وكلمتها الأخيرة.

10 سنوات على توم وسمر.. من الظالم والمظلوم؟ | أمجد جمال | دقائق.نت

العظماء السبعة: نجوم لا يجوز استبدالهم في هوليوود

اعتذار تستحقه درة التاج

البحث عن نقطة للقمة في ميراث أحمد زكي الفني عملية أشبه بالدخول في متاهة، لا يمكن ترويضها إلا بتقسيم الأدوار التي جسدها لثلاثة فروع رئيسية:

 أولًا: الشخصيات الجماهيرية، أو “البطل الشعبي” ونجح زكي فيها بأفلام من عينة “كابوريا” و”مستر كاراتيه”، و”النمر الأسود”، وهي مفصلية في مشوار الممثل؛ لأنها تمر به من اختبار الكاريزما.

 ثانيًا: السير الذاتية، أو الشخصيات ذات المرجعية: ولم يتفوق ممثل عربي على أحمد زكي في هذا النوع من الأدوار من ناحية العدد أو التأثير.

 وثالثًا: الأدوار الأصلية المركبة، وهي الشخصيات ذات الأبعاد، وهي الأصعب في تمثيلها. تمر بتحولات حادة، تجمع بين التناقضات والعمق النفسي والصراع بين السطح والدواخل. هي التي يفضلها النقاد بشكل مبدئي، لكن حين يتسع مدى تأثيرها على الجمهور كما في حالة زوجة رجل مهم فهي تضمن المجد لصانعها. في رصيد أحمد زكي العشرات منها، لكن شخصية الضابط “هشام أبو الوفا” تظل درة التاج وسببًا كفيلًا باعتذار روبرت دينيرو.


قصة المونتاج.. الفن الذي ميّز السينما عن بقية الوسائط | أمجد جمال

LEAVING NEVERLAND.. قضية مايكل جاكسون: السينما قاضٍ والجمهور هيئة محلفين | أمجد جمال


رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك