كلهم قتلوا فرج فودة حيًا.. كلهم يخشونه الآن ميتًا | عبد السميع جِميل

كلهم قتلوا فرج فودة حيًا.. كلهم يخشونه الآن ميتًا | عبد السميع جِميل

14 May 2020
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

مع كل موجة إرهابية، يعود اسم الشهيد فرج فودة لسطح المشهد السياسي والثقافي، رغم مرور أكثر من 28 عامًا علي اغتياله، كرمز حي لكل من أراد استنارة حقيقة، وعلامة بارزة علي حقبة المواجهات المريرة مع الإسلام السياسي، وحالة ثقافية وسياسية واجتماعية فريدة ومؤثرة في وجدان الشباب إلي الآن.

الفكر الديني من بوابة السياسة

فرج فودة السياسي كان واضحًا. رغم ترحيبه بكثير من سياسات السادات، وبينها اتفاقية السلام، والانفتاح الاقتصادي، وعودة الحياة الحزبية، ناهض سياساته المتعلقة بالتحالف مع الجماعات الدينية، وتعديل الدستور لإدراج الشريعة الإسلامية لتكون المصدر الرئيسي للتشريع في 1980.

انضم لحزب الوفد، وكان “الوفد والمستقبل” أول كتبه في السياسة عام 1983، لكنه سرعان ما اصطدم بالوفديين بعد تحالفهم الانتخابي مع الإخوان في 1984. حاول فض التحالف لكنه فشل، فاستقال من الحزب، وأصدر كتابه الثاني “قبل السقوط”، الذي وضع فيه القواعد التي قامت على أساسها كتبه التالية، والتي أصبحت نبراسًا لكل من جاء بعده في مواجهة  الإسلام السياسي.

حاول تأسيس “المستقبل” كحزب ليبرالي يجمع المؤمنين بالدولة المدنية. لكن لجنة شؤون الأحزاب رفضته مرتين. خاض الانتخابات البرلمانية مستقلًا لمواجهة مرشح تحالف الوفد والإخوان صلاح أبو إسماعيل، لكن ماكينة الدعاية الإخوانية أدركت خطورته على الجماعة، فواجهته بحملة تشويه  ضخمة أخرجته من المنافسة سريعًا.

هنا وجد نفسه مضطرًا لتفكيك أصول الإسلام السياسي التي وجد فيها خطرًا على مشروعه، القائم على قواعد الوطنية المصرية، والمواطنة، ومدنية الدولة، ونظامها الحديث المستند على الفصل بين السلطات، وسيادة الدستور والقانون.

فالرجل لم يفتح باب الجدال حول تجارب الإسلام السياسي الحديثة في السودان وإيران والسعودية، وتاريخ الخلافة، ومسائل الفقه وتفريعاتها، وبينها الحجاب، إلا بعدما أقحموا هم الدين في المجال السياسي.

ذلك لأني رجل سياسة وفكر، وهم رجال دين وعقيدة، ومذهبي أن أفصل بين الساحتين حفاظًا عليهما معًا

هم من بدأ لا فرج فودة

لم يهاجم فرج فودة الخلافة الإسلامية، ولم يفرد لها “الحقيقة الغائبة” في 1984 نتيجة كراهية مسبقة تجاهها مثلًا، بل لإثبات أن الدعوة لعودة الخلافة بحجة تحقيق الحرية والعدالة كاذبة تتجاهل تاريخ الخلافة الطويل من الظلم والاستبداد والتراجع الحضاري والعداء لنظم الحكم الحديثة.

ولم يلجأ لتناول أمور الشريعة وارتباطها بزمنها وعصرها وعجز حرفيتها الفقهية المختلف عليها عن تحقيق عدالة حقيقية في “الطائفية إلي أين؟” 1985، و”حوار حول العلمانية” 1987، و”حوارات حول الشريعة” إلا لأن تطبيقها “لابد أن يؤدي إلي دولة دينية. والدولة الدينية لابد أن تقود إلي الحكم بالحق الإلهي، الذي لا يمكن أن يقام إلا من خلال رجال الدين بصورة مباشرة أو غير مباشرة”.

ولذلك تناول بالنقد جماعات الإسلام السياسي الإرهابية في “الإرهاب” 1988، مشيرًا لاغتيال النقراشي، وتنظيم سيد قطب 1967، واغتيال الشيخ الذهبي 1977، والفنية العسكرية 1979، واغتيال السادات 1981م، متسائلًا: “لم نرَ إلا إسالة الدماء وأنتم في البدايات، فماذا عندما تصلون للحكم؟!”

كما خصص الملعوب” 1985، و”النذير” 1989، للتحذير من خطورة المنظومة الاقتصادية لجماعات الإسلام السياسي المتمثلة في شركات توظيف الأموال والجمعيات الخيرية والمراكز الملحقة بالمساجد وغيرها من الثروات الضخمة التي يستثمرونها في تمويل توسيع ظاهرة الإسلام السياسي.

معارك فرج فودة الفكرية في تلك الفترة ملخصة في كتابيه “نكون أو لا نكون” 1988، و”حتى لا يكون كلامًا في الهواء”. وبلغت مؤلفاته 11 كتابًا، صدر آخرها بعد وفاته بعنوان “زواج المتعة”.

لهذا قتلوا فرد فودة

يخطئ من يحاول تقييم كتابات الشهيد فرج فودة بمقياس المفكر والأكاديمي؛ فالرجل لم يكن مفكرًا أو أستاذًا أكاديميًا في الفلسفة الإسلامية، وكتاباته لم تلتزم بأصول وقواعد هذا الاتجاه الفكري والأكاديمي، ولم يكن مشغولًا بذلك، كونه سياسيًا من الأصل.

صحيح أن مؤلفاته تناولت بعض الأمور والقضايا الدينية، لكنها لا تعني أنه قدم نفسه مفكرًا دينيًا كما يتصور البعض اليوم. يقول فرج فودة عن نفسه في “قبل السقوط”: “أنا لا أتكلم عن الدين بقدر ما أتكلم عن السياسة”.

من هنا، كان فرج فودة رجل سياسة، لكنه اختلف عن غيره من السياسيين في كونه مثقفًا أكثر وعيًا بخطورة الأصولية الدينية علي الحياة السياسية. هذا مفتاح مهم في التعامل مع كتاباته، التي يحاول بعض المثقفين اليوم التقليل من شأنها الفكري من ناحية، ويحاول رجال الدين الطعن في وجاهتها الدينية؛ لأنها لم تنطلق من خلال معاييرهم الفقهية التقليدية القديمة من ناحية أخرى.

لكن، ورغم السجال السياسي الذي غلب على كتاباته، إلا أنها كانت كفيلة بتنشيط العقل، ودفع الجمهور إلي إعادة النظر فيما اعتبروها ثوابت لا يمكن الاقتراب منها.

تميزت كذلك بتحليلات سياسية قادرة علي التنبؤ بالمستقبل؛ من تقسيم السودان، ودخول العراق في حرب أهلية ومذهبية بعد سقوط صدام، ووصول الإخوان للحكم ثم فشلهم السريع، وغيرها من التنبؤات التي تكشف قراءة عميقة لواقعه.

لم يُفرّق بين تيارات الإسلام السياسي كما فعل غيره، فكان يرى أن “جماعات الإسلام السياسي تيار واحد مهما بدا بين أفرعه من تناقضات”، وكشف انحياز الأزهر إلي الإرهابيين دائمًا، ولم يخجل من استخدام مصطلح “العلمانية” الذي يخجل كبار السياسيين اليوم عن استخدامه، فيقول: “آفة حياتنا السياسية أننا لم نسم الأشياء بمسمياتها الحقيقة”.

كلهم اغتالوه حيًا وميتًا

لذلك لم يكن أمام الإرهابيين في مواجهة قوة حجته ومنطقه إلا القتل!

قتلوه حيًا حين كتب أفكاره وناقشها تحت قصف النار، وسط سيل الأكاذيب واتهامات العمالة والتكفير، بدرجة وصفه، في منشور وزعوه على أبواب المساجد بعد صلوات الجمع في انتخابات 1987م، بـ “مرشح الشيوعية الملحدة والعلمانية الكافرة والإمبريالية العالمية وربيبتها الصهيونية النجسة”، في تجمع عجيب من المتناقضات المختلفة ، تبعوها بعبارات نسبوها له زورًا، مثل: “الحسين عديم الإحساس، والإسلام دين رجعي، وأستاذي ماركس الشيوعي الملحد، ودارون اليهودي المتعصب، وفرويد اليهودي الكافر”.:

إلى زملاء ابني الصغير أحمد الذين رفضوا حضور عيد ميلاده تصديقًا لأقوال آبائهم عني. إليهم حين يكبرون ويقرأون ويدركون أنني دافعت عنهم وعن مستقبلهم، وأن ما فعلوه كان أقسى على من رصاص جيل آبائهم

قتلوا فرج فودة حين تخلت عنه النخب؛ صحف اليسار التي منعت نشر مقالاته؛ لكونه ليبراليًا، ولأن أغلبهم دخل في تحالفات مع الإخوان خافوا إفسادها بكتاباته ضدهم من جهة، ولأنهم اعتبروا هجومه علي الإسلام السياسي خدمة للسلطة من جهة أخرى!

قتلوه حين خذله الوفد، وتخلت عنه الدولة، فلم يظهر في إعلامها الرسمي أبدًا، إلا عبر مقالين نشرتهما جريدة الأخبار في باب القراء. قتلوه حين أوقفت الأهالي نشر مقالاته بعد نقده لشيخ الأزهر، وحين لم يجد من ينشر له كتبه، فنشرها علي حسابه الخاص.

قتلوه حين عمل الأزهر وجماعات الإسلام السياسي على ترويج اتهامه بالتكفير والعداء للدين بين الناس قبل مناظرة معرض الكتاب الشهيرة.

قتلوا فرج فودة حين أخفوا المناظرة عن النشر، بعدما أحرجهم بتقديم خلاصة كتبه العشرة، من افتقاد الجماعات الدينية لبرنامج سياسي حقيقي لمعالجة مشكلات الاقتصاد، وافتقارهم لنموذج واحد ناجح للدولة الدينية في الحاضر أو الماضي.

قتلوه حين أصدرت جبهة علماء الأزهر بيان تكفيره بدعوى أنه مرتد يستحق القتل، في ندوة برئاسة عبد الغفار عزيز ونائبه محمود مزروعة، بتأييد البيان ومحمد عمارة ومحمد الغزالي، لينفذ الاعتيال شابان من الجماعة الإسلامية في 8 يونيو 1992، بأمر من صفوت عبد الغني الذي كان مسجونًا بتهمة اغتيال رفعت المحجوب.

وقتلوه حين تطوع محمد الغزالى من تلقاء نفسه للدفاع عن القتلة أمام المحكمة، باعتبارهم “قتلوا شخصًا مباح الدم ومرتدا وهو مستحق القتل، وقد أسقطوا الإثم الشرعي عن كاهل الأمة، وأن تجاوزهم الوحيد هو الافتئات على الحاكم، ولا توجد عقوبة في الإسلام للافتئات على الحاكم”.

قتلوه حين عفا محمد مرسي عن أبي العلا عبد ربه أحد قتلته فور وصوله للسلطة.

وقتلوه مرارًا، في كل مرة تبحث عن كتبه في المكتبات المصرية حتى الآن دون أن تجدها!

لكن فرج فودة لم يمت

لكن فرج فودة عاش، في كل مرة استطاع الوصول بكتاباته إلي شريحة واسعة من الجمهور، بأسلوبه البسيط المباشر، ورشاقته في التعبير عن أفكاره المنظمة والحاضرة والجاهزة دائمًا، والمدعمة بقدر لا بأس به من السخرية والفكاهة، وقدرته المدهشة علي تفكيك حجج خصومه بتلقائية عجيبة.

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك