بأثر مغاير لا تخطئه أذن عن نمط أغاني الستينيات والخمسينيات السائد، تظهر أغاني نصر أكتوبر 1973.. كبرياء مستردًا، ألمًا مكتومًا، شجنًا رغم الانتصار.
إحساس من قضى أغلب المطلوب منه، ألِف الموت وصادقه، ويرغب فى استراحة يتأمل خلالها ما حدث. تمنعه جينات الحضارة المتوارثة أن يتحول نصره لتدمير همجي؛ المعركة على قدر الحاجة والهدف المطلوب، التزام عسكري صارم، وعقد مبرم بين القيادة والميدان، ينتصر في الميدان ويجمع أجساد زملائه، ويسلم الراية لقادته دون نقاش، كتلة واحدة لا انفصام لها.. جدية سطرت تاريخا فى حينه على رؤوس الأشهاد، وأثبت الزمان صدقها..
الفنان المصري المعاصر حاول أن يحيل الحدث لموسيقى وغناء، كأنه مقاتل بالجبهة سطر معزوفته على النوتة فى راحات القتال أولًا بأول، خشية أن ينسى من لقطات المعركة شيئًا.. فأحال المعركة لفلسفة مدونة بنوتته الموسيقية.
حلوة بلادي السمرا.. بلادي الحرة.. بلادي الصابرة.. بلادي
هذه بلادنا فقط لا غير، سمراء حرة صابرة، لتثبت هذه اللحظة إلى حين. المعركة دائرة، والقتال المتتالي استنزف جهودنا، لا زلت أضمد جراحي، وكتفي لم يتوقف عن النزف، ومطالب بإعادة الإعمار في أول فرصة.
على مشارف النصر، وإن لم يتحقق بالتمام بعد، فالمعركة دائرة هناك “ما أملكش غير إني أغني وأقول.. غنوة أمل للجنود.. تعيشي يا مصر”. نحن هنا فوق أرضنا المحررة بالفعل، ولم يتبق سوى القليل.
دموع تسيل مع كل ذكرى عند سماعها، في الغالب ليست دموع فرح، ولا نشوة انتصار، بل عودة الروح واستعادة الكبرياء وشموخ المتزن.
نتوارث هذه الدموع منذ هذا الجيل الذى أنشدها، عبد الرحيم منصور وبليغ حمدي ووردة، وحتى مجموعة التصوير التليفزيوني، تجلس في سلام نفسي شباب وفتيات، ووردة بأبسط الأزياء ووجه خالٍ من مواد التجميل إلا ضياء النصر وبركته، تتكثف مشاعرهم نحو الجبهة وهم في أمان بفضل من هناك، لا يملكون إلا: “أغني وأقول تعيشي يا مصر” فقط مصر تحيا الآن، وتؤكد الحرب أنها ستحيا للأبد، من بعد تشكيك الهزيمة.
6 أسباب لنكسة السينما المصرية المستمرة بخصوص أفلام حرب أكتوبر | حاتم منصور
حتى لحن المارش العسكري في “رايحين رايحين شايلين في إيدنا سلاح” مارش مروَّض شجنه غالب، مارش العودة من الجبهة، مارش إتمام المهمة أكثر منه تحفيز على القتال. “رايحين رايحين شايلين في إيدنا سلاح”. لا نعلم ما سنقابله، “راجعين برايات النصر”.. باسمك يا بلدي وكفى. مارش يكاد يروي ما جرى هناك.
التجربة مكتملة الذهاب ثم العودة للبلدة، لكل ذاهب للجبهة بلدة تناديه للعودة، السلاح في الذهاب، ولا ذكر له في العودة، معنا الآن النصر بديل لكل شيء.
أغانى النصر وشجنها،، الفرح بغصة الدموع.
كلها أغانى تضميد جراح حقيقية، بعيدة عن نشوة المنتصر التقليدية، لدينا نشوة خاصة صناعة مصرية، لا مثيل لها ولا شبيه سابق.
ولغرابة الأقدار أن تُكتب هذه الأغنية عام 72 قبل العبور بنفس روح الحدث، وان تُلحن بعد العبور بنفس روح المعركة.
آهات المجموعة فى تسجيل الأغنية “رايحين” نشيج صدور المقاتل العنيد النازف، الراضي المكتفي بما حقق، ولا يرغب سوى فى العودة لبلدته والاسترخاء وسط أحبابه ومزاولة عاداته القديمة.
بعد المعركة بشهرين، يلحن كمال الطويل كلمات أحمد فؤاد نجم وبصوت تغريدي لسعاد حسني مصاحب بكورال الأطفال، يذكروننا جميعا بـ “دولا مين ودولا مين” لغرس المعركة في نفوس النشء، وبإيقاع لا يخلو من رنين حزن، يذكرنا بأطفال أغنية “يا بلادي” التي تناول فيها فؤاد حداد ضربة مدرسة بحر البقر، والتي نفذت – الأغنية – سنة 78 ضمن أحداث فيلم “العمر لحظة”.
ولكونها مصر فكان طبيعيًا أن تتميز معركتها، فشقيق القائد الأعلى يستشهد بطائرته فى المعركة، وابن المطربة شريفة فاضل” يستشهد في الميدان، فتقدم أغنية لابنها ولكل أم شهيد “أم البطل” فتخلد كبرياء أم المقاتل وعطاءها، من كلمات “نبيلة قنديل” صاحبة كلمات “رايحين شايلين في إيدنا سلاح”.
ولخصت قصة الأم والمعركة والمستقبل وما تبقى لها:
شد الرحال .. شق الرمال .. هد الجبال .. عدى المحال.. زرع العلم .. طرح الأمل .. وبقيت أنا .. أم البطل.
النور الساطع | لأول مرة بالوثائق: أخطر أسلحة إسرائيل في حرب أكتوبر.. هل كان حقيقيًا؟ | مينا منير
ربما كانت أكثر أغنية من فترة الستينيات قربًا لأغاني العبور، هي أغنية “البندقية” والتي وإن كانت حماسية حتى من عنوانها، إلا أن عبد الحليم حافظ غناها بعد نكسة يونيو بعام واحد تقريبًا، من كلمات محسن الخياط وألحان بليغ حمدي، ويظهر فيها أثر الحالة النفسية ما بين موسيقى آملة بها بعض لقطات الحث على البهجة وسط غصات الألم، وأخرى حماسية مارش عسكري وأخرى حزينة حالمة، وهي تلائم المشاعر المتضاربة التي تعج بها نفوس المصريين وقتذاك، ولازال لتعبيرات الثورة ومدحها أثر في الكلمات..
يقسم في بدايتها:
بكل حبى للحياة ولبلدي.. وبكل بسمة فوق شفايف ولدي.. وبكل شوقي لفجري وشروقي.. وبكل نبض الثورة في عروقي.. جيت لك وأنا ضامم جراح الأمس.. وحالف لأرجع لك عيون الشمس.
ثم حديث عابر عن الهزيمة والغدر.. ثم ينتقل للكوبليه الأشهر:
سكت الكلام والبندقية اتكلمت.. والنار وطلقات البارود.. شدت على إيدين الجنود واتبسمت.
الأمل في خوض معركة التحرير الملازمة للنصر حتمًا.. ثم خاتمة ترنيمة حالمة تزداد وتيرتها الموسيقية حتى تبلغ ذروة الحماس، فتحيي الأمل في البقاء والانتصار:
أنا نار تحرق أعاديكي .. يا بلادي، أنا دمي نيل يرويكي.. يا بلادي، مين غيري اللي هيحميكي.. يا بلادي،
هستشهد فدا أراضيكي.. يا بلادي، ولا عمري هفرط فيكي.. يا بلادي، وأموت وأنا بهتف بيكي.. يا بلادي..
يختلط الحماس بالنصر بالأمل بالموت بالدماء بالبندقية، وهي تقترب إلى حد كبير من آمال الأبنودي في خاتمة “عدى النهار” التي غناها حليم بعد النكسة مباشرة.
طالعة له صحبة صفوف جنود.. طالعة له رجال أطفال بنات.. كل الدروب واخدة بلدنا للنهار.. وبلدنا بتحب النهار.. وتحب موال النهار.. لما يعدي في الدروب.. ويغني قدام كل دار..
بين الممر و أغنية على الممر.. بطولة نادية الجندي وخيانة نور الشريف..تقييم ١٠ أفلام حرب| أمجد جمال
حتى يأتي النصر فيغنى عبد الحليم حافظ أغنيتيه في 73 “عاش اللي قال” و74 “صباح الخير يا سينا” وهما أغنيتان تحملان هدوء المنتصر من بعد غليان التوتر والانتظار وتحمُّل آثار المعركة، ولا تحمل كلماتهما تقريبًا أي نوع من التحدي، باستثناء وضع راية النصر فوق التبة ليراها الجميع، ومديح في جمال سيناء التي هي تحت أيدينا. كفى هذا فقد أعيانا القتال، وعلى المقاتل أن ينال راحته.
فارق بين تلك الكلمات والألحان، وبين أغنية غناها حليم في مرحلة سابقة، كانت الغلبة فيها للحماس، دون التدبر، والرغبة في الانتقام تغلب التقدير، فغنى في أعقاب النكسة بكلمات ليست بنسق مصري معتاد:
بالدم هناخد تارنا، بالدم نعود لديارنا، من دم الإسرائيلى، من دم الأمريكاني، من دم الإنجليزى اللى بيسرق مكاني..
كانت وعيد من يترنح حين فقد كبرياءه على حين غرة.. توسيع رقعة العداء، وتعدد العدو واتساع ساحة الحرب وتشتيت التركيز، وعدم التوقف عند حدود التحرر الوطني والنظر لأبعاد إقليمية يراها البعض أكثر من الداعي ويراها آخرون طبيعة للمرحلة..
وقبل حرب يونيو 67 بعامين غنى “يا أهلا بالمعارك” بكلمات مليئة بالحماس وغياب التنظيم: يا أهلا بالمعارك يا بخت مين يشارك.. ملايين الشعب تدق الكعب تقول كلنا جاهزين!
المحصلة: بنينا السمعة والامتداد، وخسرنا الأرض والمال، واقتربنا من الفقر والتصارع الاجتماعي ومجتمعات الحرب أكثر من اللازم ودون تأمين كاف..
فكان الشجن عند الاسترداد مليئًا بعبق ألم السنوات الضائعة التي فقدناها، وشهداء المعارك، والجهود المبذولة، والتكاليف الضخمة، وتكالب الأقزام علينا، وتغير موقعنا.. ما كان أغنانا عن هذا، لقد كنا هنا بالفعل قبل سنوات! لنسعى فى بناء وإعمار ما خرب من جديد، فقط لكي نقف ونبدأ من جديد.
مقاتل معماري حكيم صاحب إرث من جبال القيم، لا يتخلى عن مسؤولياته، ما أثقل تجربته.
ليبارك الرب مسعاه وليسطر التاريخ مجده.