البداية معروفة. تجربة في أوروبا وأستراليا يجريها طبيبان فرنسيان للبحث عن مدى فاعلية لقاح السل في مواجهة فيروس كورونا. استضافتهما قناة تليفزيونية لعرض ما وصلت إليه التجربة، فاقترح أحدهما أولوية انضمام أفريقيا إلى التجربة بشكل عاجل.. ليبدأ غضب الأفارقة.
عرفنا جميعا الأمر حينها من خلال تصريح نجمي كرة القدم السابقين، الإيفواري ديديه دروجبا، والكاميروني صامويل إيتو، اللذين وصفا التصريح بـ "المثير للاشمئزاز" باعتباره يحول الأفارقة إلى "خنازير تجارب بشرية".
لحقهما المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس، وهو إثيوبي الجنسية. اعتبر أن "من المخزي والمرعب سماع تصريح مماثل من علماء خلال القرن الحادي والعشرين".. تعهد بألا يسمح بمثل هذه التجارب في أفريقيا وبالتصدي لما وصفه بـ "مخلفات العقلية الاستعمارية."
لتعزيز مخاوف الأفارقة، تتصاعد حملات من الأخبار المزيفة المنتشرة عبر منصات السوشال ميديا لترويج نظريات حول مؤامرة العالم للإضرار بالسود عبر تطعيمات ضارة بهدف قتلهم.
على سبيل المثال، تسببت قصة وهمية حول وفاة سبعة أطفال في السنغال بعد تلقيهم لقاح مضاد لكورونا في إثارة ضجة على فيسبوك.. مثل هذه القصص بدأت في الانتشار منذ أوائل أبريل، في نفس الوقت تقريبًا مع التعليقات المثيرة للجدل للأطباء الفرنسيين، والتي أعطت القصة المزيفة قوة أكبر، ولم تتوقف حتى الآن.
منظمة الصحة العالمية وصفت ترويج المعلومات المزيفة بأنها "وبائية" تستحق الاهتمام الجاد.
مثل هذا الغضب له ما يبرره جزئيًا.. هناك أدلة على أن بعض شركات الأدوية التي أجرت تجارب في أجزاء من أفريقيا سابقًا لم تراع المحددات المعتمدة دوليًا.
في 1996، أجرت شركة فايزر تجربة دوائية سيئة السمعة في ولاية كانو بشمال نيجيريا خلال تفشي التهاب السحايا. التجارب أدت لوفاة 11 طفلًا وإصابة عشرات آخرين بإعاقات مستديمة بعد تناولهم لمضاد حيوي تجريبي.
تجارب فايزر أثارت معركة قانونية طويلة ودفعت شركة الأدوية تعويضات لبعض الآباء الذين شارك أطفالهم في التجارب، وأثارت أسئلة جدية حول موافقة أحد الوالدين على خضوع أطفالهم للتجارب.
بعد أكثر من عقدين من الزمن، يقول علماء مثل الباحثة الأوغندية كاثرين كيوبوتونجي، رئيسة المركز الأفريقي للسكان والبحوث، إن الأمور تغيرت، وإن عملية الخضوع لتجارب العقاقير الجديدة في أفريقيا أصبحت أكثر صرامة وشفافية.
تؤكد كيوبوتونجي أن ضمانات باتت متوفرة على المستويات الفردية، والمؤسسية، والوطنية، وأن الدول الأفريقية خصصت هيئات تنظيمية لمراقبة مثل تلك التجارب، ومنح موافقات لإجرائها بعد التأكد من اتباع جميع إجراءات السلامة.
تضيف: "العلماء لا يريدون بالتأكيد إنتاج لقاحات تؤدي إلى قتل البشر؛ باعتبار أن سمعتهم على المحك بعدما استثمروا سنوات في حياتهم المهنية.
يوافقها الرأي، ريتشارد مييغو، المشرف على التحصين وتطوير اللقاحات لمنظمة الصحة العالمية في أفريقيا، مشيرًا إلى وجود نظام ضمانات وحوافز تجعل من غير المحتمل أن يتعرض الأفارقة لمنتجات مضرة بالصحة، وبالتالي ولا يمكن لأي جهة حاليًا الترويج لأي لقاح أو دواء دون الحصول على ترخيص وموافقة رسمية.
من بين الضمانات التي ساقها مييغو عدم السماح للمشاركين في إجراء الأبحاث بتسويق وإنتاج أي دواء أو لقاح لاحق.
يتفق الخبراء على أن أفضل تعامل مع كورونا يقتضي بأن ينجح اللقاح المرتقب في إيقاف زحف الفيروس على مستوى العالم. يحذرون من أن نأي أفريقيا بنفسها عن التجارب يعني أنها اختارت مواصلة إرث الإقصاء الذي تعرضت له.
يحذرون من أن أفريقيا ستخسر لو انتشرت موجة رفض الخضوع للتجارب باعتبارها "عنصرية".. أنظمة الرعاية الصحية في القارة لم تحظ باهتمام جاد على مر السنين. وبالرغم من تعهد القادة الأفارقة في 2001 بتخصيص 15٪ على الأقل من الموازنة السنوية لتحسين القطاعات الصحية، لم تحقق الهدف إلا خمس دول من أصل 54، وهو ما ينعكس بالتالي على البحث العلمي.
صحيح أن أفريقيا تملك ثروة من الخبرات البشرية، لكن علماءها غالبًا ما يذهبون للعمل في مكان آخر بسبب نقص الاستثمار. وحتى رعاة البحث العلمي والإنتاج الدوائي الذين يهتمون بأفريقيا يبحثون عن شراكات في الدول التي تملك البنية التحتية للرعاية الصحية الموثوقة، مما يعني أن معظم التجارب تجري في مصر أو جنوب أفريقيا.
الأخطر أن العديد من الأدوية المرخصة تخرج للنور بعد تجارب سريرية أجريت في البلدان الأكثر ثراء في أمريكا الشمالية وأوروبا، مما يعني أن ملاءمتها للاستخدام في أفريقيا لا تخضع لاختبار حقيقي.
رئيسة المركز الأفريقي للسكان والبحوث كاثرين كيوبوتونجي تحذر من أن اختبار لقاح في بريطانيا مثلًا لا يعني أنه سيصلح بالضرورة في أفريقيا، التي تتمايز بظروف وتكوين جيني مختلف قد يؤثر على كيفية عمل اللقاح.
تضيف أن السجل المرضي للأفارقة مختلف. بينهم على سبيل المثال عدد كبير من الأشخاص المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية. تؤكد كذلك أن سلالات كورونا في أفريقيا قد تكون مختلفة عن مثيلاتها التي سيكافحها العقار المرتقب عالميًا.