أهل القمة| هكذا سلم نجيب محفوظ السلطة فى الأدب والدراما (2/2)| عمرو عبد الرازق

أهل القمة| هكذا سلم نجيب محفوظ السلطة فى الأدب والدراما (2/2)| عمرو عبد الرازق

20 Sep 2020
عمرو عبد الرازق
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

من رجل الجيش في “نور القمر” إلى رجل الأمن في “أهل القمة” يغير نجيب محفوظ البطل في القصة التالية مباشرة بذات المجموعة القصصية “الحب فوق هضبة الهرم”.

يمر ربع قرن منذ ثورة يوليو خاتمة المقال السابق، إلى النصف الثاني من السبعينيات، وتأتي أزمة الأمن من بعد قضية الحرية، وأزمة الاقتصاد من بعد معركة الاستقلال، وتستقر السياسة بعد كتابة التاريخ.

بعد استعراض المقال السابق، تمر مصر بفترات ملتهبة، تخوض خلالها خمسة حروب، تنسحب فيها نور القمر من هالة ضابط الجيش، ويتلقفها الناهشون الجدد والقدامى على السواء.

الاختيار بين مصر الوطن ومصر الولاية .. الدراما المصرية و الإرشاد | محمد زكي الشيمي

عقد الانتصار والانتهازية

نحن الآن في عقد السعبنيات، عقد الانتصار والكرامة، وعقد الانتهازية وسطوع نجم الفهلوية الملاك الجدد للمحروسة والمبشرين بثقافتها الجديدة.

وبذات المجموعة القصصية، يصعد نجيب محفوظ في أهل القمة بالسلطة هذه المرة بعيدًا عن الحكام، إلى الذين صعدوا على قمة المجتمع فامتلكوا ناصيته ووجهته.. المتسلقون.

سلطة من نوعية مغايرة أقرب بشكل ما لسلطة “حفني داود” و”موسى القبلي” في نور القمر. لكنهم أبناء بلد هذه المرة، صعدوا من القاع لصفوف أهل القمة دون امتلاك دعائم ومبررات هذا الصعود، إنهم النصابون والنوَر “زعتر النوري” النشال الطموح والصاعد الجديد يعلن عن نفسه.

العبء الاقتصادى بادٍ ولا يمكن إنكاره داخل منزل الضابط المزدحم بالنساء. زوجته وكريماته الثلاثة، وشقيقته وابنتها “سهام” يعيشان معه لسوء حالتهما. بسهولة تلتقط طرف الخيط، مجتمع في أزمة وتخبط، تتمزق جنباته إلى أنصبة أو أسهم، كل يسعى في نصيبه، فتكون بطلتنا “سهام” جوهر المأساة، هي نور القمر نقلها نجيب محفوظ في أهل القمة إلى حماية خالها ضابط الشرطة الشريف متواضع الحال.

حماية الأمن أقصى طموح هذه المرحلة لسوء الوضع الاقتصادي.

معركة الشحاذ.. ماذا خسرنا بتنحية الفن انتصارًا لأبناء شكري مصطفى؟ | عمرو عبد الرازق

السبعينيات نهاية النظام

أجواء مناسبة للسبعينيات، وأزمات متداخلة لأمة انتهت للتو من عدة حروب، ولا يزال نزيفها مستمرًا.. السبعينيات الغريبة آخر عهدنا بخريف رومانسي الأجواء والنسمات، تشتم بأيامها رائحة الغدر القادم وتبدل الحال وضياع الهدوء والسكينة للأبد، بقايا مشاهد الستينيات، ملهمة لكنك تدرك معها أنها لن تدوم!

يصف نجيب محفوظ مسكن الضابط بقبيلة من النساء. تكدس شقته بأهله ومسئولياتهم، بدايات العشوائية والتكدس السكاني والفهلوة ومشاكل الإٍسكان وكآبة الفقر والعوز، مشهد مناسب لاستعراض ملامح الأزمة.

السبعينيات التي وجدت لتسدل الستار على البراح والهدوء والنظام إلى الأبد..

بمشهد البداية يدخلك نجيب محفوظ في أهل القمة إلى أجواء الصراع دون أن يقدم  تصريحًا واحدًا!

الوجودية المسيحية بين بولس ونجيب محفوظ: قراءة في رواية “الطريق” | مينا منير

رحل الصعود

تبدأ الأزمة بتقدم عريس لسهام، طالب جامعى، وتبدأ الاحتمالات حول قدرته على توفير حياة كريمة لها، واحتمالية غرقهما بالفقر سويًا، ويُحسم الأمر سريعًا: هذا ليس زمن الحب، لنتوخى عريسًا ثريًا!

سهام الممزقة المنكسرة على الدوام، لا يغادر الهم وجهها ولا الألم عباراتها..

أبطال أهل القمة الضابط “محمد فوزي” خال “سهام” صاحبة المأساة و”زعتر النوري” اللص النشال و”زغلول رأفت” رجل البر صاحب الأعمال غير الشريفة!

سريعًا ما يكتشف الضابط أن النشال “زعتر النوري” يحوم حول منزله ويجلس قبالته. يواجهه على الفور وينهره. النشّال لا يمكنه تهديد أمن الضابط، لكنه يبدأ في غزو مكان سكنه. يقترب منه. لا يرى غضاضة في الأمر.. فعل لم يقدم له تبريرا للضابط أثناء مساءلته، لكنها إشارة من نجيب محفوظ أن هناك من يبدأ فى الاقتراب من الحمى، ويسعى لنيل مكانة شرفاء وسادة المجتمع. هناك من يسعى للوصول لقمة المجتمع، حتى لو كان ممنوعًا عليه الوصول لقمة السلطة!

عن طريق وساطة ضابط الشرطة يعمل “زعتر النوري” لدى رجل البر “زغلول رأفت” لص أيضًا لكنه على مستوى أرقى، وأمام العامة صاحب أياد بيضاء ورجل بر.

بعد عام يتغير حال “زعتر” ويعمل في البضائع المهربة بسوق ليبيا بحي القلعة، ويمتلك محالًا وتجارة، ويتخذ خطة تغيير اسمه إلى “محمد زغلول” يبرر فعلته للضابط بأن محمد تيمنًا باسم الضابط، وزغلول تيمنًا باسم صاحب الفضل عليه في الرزق!

والحق أنه يتخذ وضعًا جديدًا يتشابه خلاله مع سادة القوم ولو بأسمائهم، فهو يتسمى باسم الضابط دونًا عن غيره، إمعانًا في التساوي به ومحو أي تمييز يذكر، حتى أن اسمه غير المميز يتسمى يه نسبة عالية من المصريين، فلا علامة مميزة له، بما يمكنه من الاختفاء وسط الجموع ومحو ماضيه المخزي، والتحرك بحرية نحو مسعاه.

خطوة جديدة نحو المزاحمة، واكتساب شرعية التواجد.. تتشابه الأسماء فيختلط الأمر!

حتى شريكته ورفيقته في النشل والتهريب”جلجلة” تتسمى “بهية” من أكثر أسمائنا رمزية!

كما تغير من قبل اسم مقهى النشالين إلى مقهى الأمراء بعد الثورة!

مراسلات السلام | ساسون سوميخ.. الإسرائيلي الذي صنع عالمية نجيب محفوظ | مينا منير

فلسفة النشالين

“النوري” صاحب فلسفة أيضًا. هو يرى سادة وعلية القوم بدورهم كانوا لصوصًا ذات يوم. يرى أنه قام بثورة في تحويل زملائه النشالين إلى تجار مهربين، بما تعجز عن القيام به الحكومة ذاتها، مما نظف الحي من النشالين. يرى أن الضابط يعمل لدى الحكومة في ضبط النشالين، بينما الحكومة ذاتها لص كبير!

هو فيما يبدو ليس غارقًا فى حب النشل. على استعداد دائم لإعلان توبته. هو في موقع البين بين، لا يرى فرقًا جوهريًا بينه وبين من يتربعون على قمة المجتمع ويحتسبون من الشرفاء، لا يخجل من ذاته لأنه يسعى للخروج من ثوبه، لذلك كان ناجزًا فى تلبية مسعاه!

يراه الضابط مراوغًا ماكرًا، فيسبه دومًا في كل مواجهة: با ابن الثعلب.

هذا الثعلب لديه حلم يراه مشروعًا، والضابط ممزق بين الإنفاق على أسرته ومسؤولياتها، وحماية ابنة شقيقته وتأمين مستقبلها، وبين الحفاظ على شرف عمله. يقاوم ويخشى أن يفقد قدرته على التماسك!

الضابط يمثل حائط صد أخيرا بين طموحات النوري وحماية المجتمع الممزق لأسهم “سهام”.. الفارق الدائم بين من يكابر من أجل تمسكه بمبدأ ما، وبين من يستجلى المشهد الجديد.

يصر الضابط أن عمل “زعتر” الجديدتهريب، بينما زعتر يطلق عليه تجارة، ويخبره أنها تتم بعلم وتمرير رجال الشرطة، في إدانة مباشرة من نجيب محفوظ لتفاصيل تطبيق الانفتاح!

الاستيلاء على العقول

خطوة جديدة في طموح “زعتر” بالسعي للزواج من سهام. اللص يعبث في قلب بيت الضابط، يصير الأمر أكثر وضوحًا، هدفه سهام بعدما حقق الثروة وصار من أشباه الوجهاء.. خطوة تزلزل قلب الضابط..

يهدي زعتر سهام فلسفته في عبارة تلخص الوضع: خالك رجل فقير لأنه شريف! كما أبلغ خالها من قبل بعبارات حاسمة: أنه سيندم ذات يوم على تمسكه بالشرف! وأنه لا يقضي على الإنسان بالفقر إلا عقله!

يستولي زعتر النورى بالتدريج على عقول محاوريه، بنفس جرأته على تسلق جدران المجتمع.. ولا سبيل لجمع الشرف باليُسر منذ اللحظة..

سهام بدورها تبدأ فى الرضوخ والقبول بالأمر، فأزماتها المتكررة مع زوجة خالها لا تنقطع، وهي وأمها ضيفتان ثقيلتان على المنزل، وقد فقدت فرصتها في الحب والشباب، فهذا المُهرب ربما يكون حلًا، خاصة بعدما ساوى أموره مع المجتمع والدولة باسم وشخص جديدين!

الضابط يحارب لآخر أنفاسه، والتيار يشتد عليه، هو في حقيقة الحال يود تسليم أمانته أو الخلاص منها إن شئت الدقة، لكن يود تسليمها إلى جهة أكثر أمانًا، فيوافق على تزويج سهام من “زغلول رأفت” اللص أيضًا ولكن لا قضايا تدينه وسمعته طيبة نوعًا.. يهرب من لص صريح إلى لص متخفٍ، ومن أدنى الطبقات لطبقة ميسورة، محاولة أخيرة لحفظ ماء الوجه قبل الاستسلام.. حتى جلجلة شريكة النوري تجرأت على مغازلته، صار مستباحًا رجلًا ومكانة!

وسهام هدف فى الصراع بين اثنين من اللصوص، من مستقرها بمنزل الضابط!

سقوط سهام

تتبقى كلمة الحسم في أهل القمة من سهام بعد معاناة تجربتها الممتدة، فتترك المنزل وتتجه لزعتر النوري، فيلحقها بعمل تابع له، ويترك نجيب محفوظ الباب مفتوحًا في أمر الزواج.. لكن، قضي الأمر وصارت سهام في عهدة النوري، فإن لم يكن بالزواج فبالرزق والذوق والتوجه، وجه جديد لم يكن في الحسبان يضاف لأهل القمة في المحروسة!

بعد عامين، في 1981، ينتج فيلم “أهل القمة” سيناريو مصطفى محرم وإخراج على بدرخان، وأداء تمثيلي هائل بدراسة الشخصيات لعزت العلايلي ونور الشريف وسعاد حسني، في سباق تمثيلي على رسم شخصيات الرواية على أكمل وجه، يتضح بلا شك فهم كل منهما لأبعاد القصة والكتابة.

سعاد حسني تقدم في أهل القمة دور معاناة عظيما، لا يغادر الانكسار وجهها، لا تكاد تقدم ابتسامة واحدة إلا وغلفها الأسى طول ساعتي الفيلم، نور الشريف يبرز الطموح للوصول لهدفه بكل مشهد، يقدم شخصية تفوح منها هرمونات النجاح والإصرار والتقدم!

العلايلي دور مميز لأقصى درجة، جدية الضابط الشريف وتمزقه بين مسؤولياته بالبيت وواجبه بالعمل، إدراكه لعظم دوره، وتمسكه للنهاية بالحفاظ على الأمانة، يحمل الهم أينما حل.

ساعتان من المواجهات وتصعيد الأحداث، تنتهي بمواجهة بين سهام وخالها وزعتر وسط زحام السوق والتجار والبضائع المهربة، أرض الموقعة الجديدة، وسيادة قيم جديدة، تطأها أقدام الضابط هذه المرة كجزء من المشهد وليس لعمل التحريات، تواجه فيه سهام منطق خالها بألا تهين ذاتها، فترده بأن إهانة الفاقة في بيته أشد، وهي على وشك إتمام زواجها من زعتر، يغادر الضابط المشهد منهزمًا بكادر علوي للكاميرا، بينما يخترق الزحام للخروج والابتعاد محاولًا الحفاظ قدر الإمكان على كبريائه، بعد معركة ممتدة نصيبه منها النزف.. تراقبه سهام بعينيها متلفتة في ترقب لم ينقطع عنها، وفي القرب زعتر يحتويها ويستعد لحصد ما سعى إليه!

ويصعد وجه جديد على القمة في مصر، وتخرج مصر من دائرة الانضباط إلى سيادة الفهلوة والعشوائية، ويبقى سوق غير شرعي في أغلبه مسرحًا مستقبليًا لحياتنا، التي لا يعلم أحد كيف ستكون.

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك