لم يساورني شك أن التصريح المنسوب إلى إردوغان كان مفبركا. المفاجأة أنه لم يكن. لقد كان تصريحا حقيقيا. قال فعلا إنه يفكر في سحب السفير التركي من أبو ظبي ردا على الإعلان عن اتفاق السلام بين الإمارات وإسرائيل .
مبعث الشك الذي ساورني أن تصريحا كهذا لا يمكن أن يخرج من رئيس دولة، خصوصا وقد نصحه رئيس الولايات المتحدة في مكاتبة رسمية من قبل بـ “لا تكن أحمق”.
استبعدت صحة التصريح بشكل أكبر لأنه رئيس دولة تقيم علاقات مع إسرائيل منذ ١٩٤٩. وأن حجم التجارة بين البلدين تضاعف في عهده. وأن العلاقات العسكرية بين البلدين قوية.
العناصر المحلية الداعمة على ما يبدو باعت له أن العلاقة مع إسرائيل خط أحمر لا يمكن لكائن من كان في المنطقة أن يتخطاه.
نحن – اي العناصر المحلية الداعمة – سنضمن لك ذلك. لقد قتلنا السادات حين فعلها. ولقد ضمنا أن نجرد مصر من مزايا السلام حتى بعد أن وقعت المعاهدة. لقد طاردنا كل من يقول لمصر إن العداء الحقيقي للبلد ليس قادما من إسرائيل بل من هؤلاء العناصر المحلية الداعمة، الذين يحاربون كل ما ينفع مصر اقتصاديا واستراتيجيا. في السياحة والاستثمار وفي العلاقات العسكرية.
بفرض هذا الخط الأحمر ضمنت العناصر المحلية لتركيا الانفراد بمزايا علاقات قوية مع إسرائيل. أشرنا إلى المزايا التجارية والعسكرية. لكن الأهم منها المزايا المتعلقة بالصورة الذهنية المرسومة عن تركيا في العالم، الصورة التي تقدمها كـ “دولة إسلامية حداثية ديمقراطية، ليست مرهونة بالرأي العام العدواني في الدول الإسلامية، قادرة على المبادرة في مجال العلاقات السياسية والعسكرية، عضو في الناتو وعلى علاقة جيدة بإسرائيل”.
هذا بالإضافة إلى كمالة الصورة الذهنية. المتعلقة بكونها بلدا مشجعة للسياحة، لا تطاردهم ولا تضيق عليهم كما يفعل الإسلاميون في مصر. الإسلاميون المصريون عمود من أعمدة السياسة التركية.
40 عامًا من معاهدة السلام.. ماذا واجه السادات؟ وماذا جنت لمصر؟ | س/ج في دقائق
ليس بعيدا عن التصريح التركي في فرضهما الوصاية الذاتية على دول المنطقة كان التصريح الإيراني، الذي اعتبر قرار الإمارات “طعنة في الظهر”، على أساس أن إيران مشغولة بمحاربة إسرائيل في سوريا ولبنان والعراق واليمن، وأن الإمارات طعنتها في ظهرها.
لكن هناك فارقا بين تركيا وإيران .. درجة النفاق ..
إيران دولة إسلامية صرف، تعيش في الآخرة وتدمر الحياة الدنيا، كما يفعل الإسلام السياسي دائما. لا تدعي أنها منفتحة، دولة تستعذب الموت وتسير إليه، وتنشر ثقافة اللطميات والسواد في كل بقعة تحل فيها. نفاقها نابع فقط من تقديمها الأخرين إلى الصفوف الأمامية لكي يموتوا أولا. وهو نفاق مفهوم، يلام الآخرون على غبائهم أكثر مما تلام هي.
القضية الفلسطينية بالنسبة لها مهمة للغاية، كما هي لتركيا. الأخيرة تريد أن تكسب من ورائها ثروات، وورقة سياسية رابحة. والأولى تريد أن تكسب من ورائها استمرار النار المقدسة، وديمومة الطواف حولها، حتى الاحتراق الأخير. عسى أن يأتي بعدهم أجيال يستذكرونهم باللطميات كل عام. فهذا أكبر شرف يحلمون به. ليس لدى إيران أفق أكبر من ذلك، السيطرة، ثم تختنق المنطقة تحت عمامة سوداء أبدية. الثروة لديهم دليل فساد، والرفاهية عندهم دليل عطب. والطهور هو النار ما استطاعت إليها سبيلا، وصولا إلى النار النووية.
اتفاق السلام بين الإمارات وإسرائيل حاجز جديد أمام استمرار النار المقدسة. وفاتحة لدول أخرى في المنطقة تنهج النهج نفسه. فلا يبقى إلا الهلال الإيراني يقاتل بعضه بعضا. كما هو الحال منذ ٢٠٠٦. كما أنه رسالة إلى الداخل الإيراني المتبرم أصلا.
التقارب العربي الإسرائيلي.. هل صار أمرًا واقعًا؟ | س/ج في دقائق
الطرف الثالث المنزعج من هذه الخطوة هو الفصائل الفلسطينية. والسبب مفهوم. ومن حقهم أن ينزعجوا أو يرحبوا بأي موقف سياسي على علاقة مباشرة بالقضية الفلسطينية.
لكن هذا ما نبههم إليه كثيرون من قبل. لا يوجد في العالم مهمة إدارية بلا موعد إنجاز. حتى لو صعب إنجاز المهمة كاملة، فعليك على الأقل أن تبدي رؤية تتحرك في اتجاه معين.
الفصائل الفلسطينية تحركت بالفعل في اتجاه توافق مع رؤية إيران وتركيا. وروج لمشروعهما، فعليا وإعلاميا. دون أن يعطي اعتبارا للخطر الوجودي الذي يمثله هذان المشروعان على الدول المجاورة.
الفصائل الفلسطينية في الحساب الأخير لها مطلق الحق في اختيار ما تراه أفضل لنفسها. كما أن للدول الأخرى الحق في اتخاذ ما تراه مناسبا.
الخطوة الإماراتية أرسلت رسالة في هذا الاتجاه أيضا، أن زمن قدرة الفصائل الفلسطينية على حبس قرار المحيط وتقييده يوشك على الانتهاء. وأنه لا يمكن مطالبة آخرين بمواقف سياسية بمنطق الحق الأصيل، المستحق ولو كان المردود مساعدة خصومك.
تزامن الإعلان عن اتفاق سلام بين الإمارات وإسرائيل أيضا مع التطورات الحادثة في شرق المتوسط. وهذه إشارة إلى القادم. حيث الأطماع التوسعية القادمة من البر الفارسي ليست الوحيدة، هناك الأطماع العسكرية التوسعية التركية القادمة من البحر.
التحالف المصري الإماراتي المدعوم سعوديا في ليبيا واجه أطماع تركيا.
مصر حددت حدودها البحرية مع اليونان، لتواجه أطماع تركيا.
والآن الإمارات تشير إلى خطوة أخرى في التنسيق في المنطقة، لتحجيم أطماع تركيا.
أخيرا،
إن كنت مهتما بالسياسة، واهتمامك هذا مترجم إلى أهداف objectives معينة في صالح بلدك وحلفائها، فاسأل نفسك: ما هي تلك الأهداف، ثم اسأل نفسك ما هي الوسائل الواقعية لتحقيقها.
وضعُ أهدافٍ ثم انتهاج وسائل لا تحققها يحول الموضوع إلى تفكير بالتمني. تفكير يخدم خصومك ولا يفيدك.
هل صار السلام بين السعودية – إسرائيل ضرورة لتوازن الشرق الأوسط؟ | س/ج في دقائق