هل فهمنا مقصد الرئيس السيسي عن “إعلاء القيم الدينية على الإنسانية”؟ | عبد السميع جميل

هل فهمنا مقصد الرئيس السيسي عن “إعلاء القيم الدينية على الإنسانية”؟ | عبد السميع جميل

10 Dec 2020
مصر
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

في اجتماعه مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يتطرق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مجددًا لمسألة الرسوم المسيئة للنبي محمد، بعدما تطرق لها في الاحتفال بذكرى المولد النبوي. طالب فرنسا باعتذار رسمي، وأشار عليها بضرورة التصدي لمواجهتها، وإعادة النظر في القوانين الخاصة بحرية التعبير التي يمكن أن تؤدي إلى جرح مشاعر المؤمنين، مشيرًا إلى أن “مرتبة القيم الدينية أعلى كثيرًا من القيم الإنسانية”.

لماذا قال الرئيس تلك الجملة؟

تصريحات الرئيس السيسي كشفت اختلافًا شديدًا في بنية النظامين؛ كون النظام الفرنسي حسم تلك الأمور من قرون عبر صراع طويل مع رجال الدين، انتهى بنظام علماني مستقر على إعلاء قيمة الإنسان فوق كل اعتبار، بينما النظام المصري لا يزال في طور التشكل والتطور، ولا يزال يعيش حالة من الصراع حول هوية الدولة مع تيارات الإسلام السياسي، ولم يستقر بعد على صورة نهائية لشكل الدولة وبنيتها التشريعية والقانونية، فلا هو نظام علماني مثل فرنسا، ولا نظام ديني مثل إيران، بل في منزلة بين المنزلتين!

لذلك، وارد جدًا أن يكون رد فعل الرئيس السيسي في تلك القضية منطلقًا في بدايته من محاولة منع مزايدات العثمانيين الجدد التي تصور النظام دائمًا بصورة المحارب للإسلام، كون الأمر من أكبر الضعوط على أعصاب النظام أمام قاعدة شعبية شديدة المحافظة يريد أن يكسب ودها بالمزايدة على الإخوان في التمسك بالدين أكثر منهم!

ولعل إيمانويل ماكرون ذاق الأمر نفسه واتهم بمحاربة الإسلام لمجرد تفكيره في مواجهة نفس التيارات الإسلامية الانفصالية في فرنسا. وسبق أن أعلن السيسي تخوفه من إساءة فهم بعض شيوخ الأزهر دعوته الدائمة لهم بإصلاح الفكر الديني.

ربما يكون ذلك سر الحديث المحافظ من السيسي على غير العادة في احتفالات المولد النبوي الأخيرة التي جاءت بالتزامن مع قضية الرسوم المسيئة، لكن تكرار الفعل نفسه وتأكيده في تلك الزيارة الأخيرة لفرنسا كان غريبًا وغير مفهوم لي بالمرة. إلا من باب غير مباشر أشير إليه تاليًا.

هل يكره ماكرون الإسلام؟ ما الذي أزعج رجال الدين فعلًا في خطابه؟| فيروز كراوية

رسالة مبطنة؟!

الرئيس يعلم جيدًا أن الحكومة الفرنسية غير مسؤولة عن تلك الرسوم المسيئة، وليس من اختصاصها التدخل في تلك المسائل الخاصة بحرية التعبير، وليس من مصلحتنا افتعال أزمات دينية معها لا تخدم تحالفاتنا ومصالحنا السياسية والعسكرية المشتركة مع فرنسا.

إلا إذا كان الرئيس السيسي يفكر في توصيل رسالة أخرى معينة إلى إيمانويل ماكرون خاصة باختلاف مفاهيم الحرية وحقوق الإنسان في مجتمعاتنا العربية، وهي الفكرة التي دار بينهما حولها حوار سابق منذ ثلاث سنوات بالفعل، حاول السيسي ساعتها إقناع ماكرون بأن حقوق الإنسان في الدول الغربية تختلف عن الدول العربية.

من ثمَّ، فحادثة الرسوم المسيئة كانت فرصة ممتازة للتأكيد على هذا الاختلاف، بل والمزايدة على ماكرون كما زايد ماكرون علي السيسي من قبل في ملف الحريات وحقوق الإنسان.

تلك المزايدات التي تمارسها بعض المنظمات الحقوقية على النظام المصري في مواجهته للإخوان والجماعات الإرهابية وتيارات الإسلام السياسي عمومًا، كون أغلب تلك المنظمات تربطها علاقات مشبوهة بالتنظيم، وتتعامل معه باعتبارها فصيلًا سياسيًا معتدلًا له حقوق سياسية مسلوبة في مصر، بينما هو في الحقيقة فصيل إرهابي يخرّب ويدّمر المجتمع ويقتل جنوده وأبناءه، وهو الأمر نفسه فيما يتعلق بعملاء الإخوان من السياسيين.

لهذه الأسباب يحتفي أنصار الإخوان بمعارك شيخ الأزهر | عبد السميع جميل

لا أعتقد أنه يقصدها

لا أعتقد أن الرئيس السيسي على قناعة حقيقية بأن القيم الدينية أهم من القيم الإنسانية؛ لأنه أعلن في خطابات سابقة عكس ذلك تمامًا، ولأنه يعلم جيدًا أن تلك الشعارات هي الوجبات الأساسية التي تتغذي عليها تيارات الإسلام السياسي، فهو يعرف أن هذا الشعار بالتحديد إذا امتد على استقامته لخسرنا كل شيء أمام تلك التيارات التي ترى الديمقراطية والعلمانية والاشتراكية والرأسمالية مجرد نظم بشرية وضعية مخالفة للشرع والقيم الدينية الإسلامية التي يجب إعلاؤها على تلك النظم الوضعية!

لا أرى أن السيسي يؤمن بفكرة إعلاء القيم الدينية على القيم الإنسانية بهذا المعنى المطلق، لأنه يعلم جيدًا أنها باب للمزايدات والحماقات الدينية التي تطالب دائمًا بمراجعة جميع التشريعات والقوانين الوضعية الإنسانية الخاصة بالمواطنة وحقوق المرأة وغيرها من المكتسبات التي حصلنا عليها بعد كفاح ونضال مرير مع الرجعية الدينية، وقد خاض الرئيس نفسه تجربة أمام تلك الحماقات الدينية التي لم يستطع بسببها إلغاء الطلاق الشفهي.

أدعي أن الرئيس لا يؤمن بفكرة إعلاء القيم الدينية على القيم الإنسانية، لأنه يعلم جيدًا أن هناك من يؤمن بأن تجارة الرقيق وشراء العبيد والجواري جزء أساسي من القيم الدينية التي يجب إعلاؤها على القيم الإنسانية التي تجرم العنصرية والتجارة في البشر.

ولا أعتقد الرئيس يؤمن بفكرة إعلاء القيم الدينية على القيم الإنسانية، لأنه يعلم جيدًا أنها فكرة تزرع في المجتمع شريعة الاستبداد الممسوح بالدين على طريقة عتريس في فيلم “شيء من الخوف” حينما ظل أهالي قريته راضخين تمامًا لحكمه وظلمه وانتهاكه لحقوقهم وحرياتهم؛ فلا اعترضوا على سم بهائمهم، أو سرق محاصيلهم، أو حرق مخازنهم، أو حتى قتل أبناءهم، حتى انتهك عتريس القيم الدينية وتزوج زيجة مخالفة للشرع والدين. عندها فقط انتفضوا وثاروا عليه هاتفيين في وجهه “جواز عتريس من فؤادة باطل”!. فانتهاك حقوقهم وحرياتهم لم يحركهم، وحركتهم فقط قناعة واحدة راسخة في وجدانهم جميعًا، اسمها “إعلاء القيم الدينية على القيم الإنسانية”!

السلطة من أسفل .. الزوجة الثانية في مواجهة الإسلام السياسي | خالد البري | رواية صحفية في دقائق

الخطاب الديني نفسه يرفضها

لذلك لا أعتقد أن الرئيس السيسي يؤمن بتلك الفكرة، لأن الخطاب الديني التقليدي نفسه يرفضها ويروج لعكسها وضدها تمامًا؛ فدائمًا ما نراهم يرفعون حديثا منسوب للنبي محمد تقول: “لهدم الكعبة حجرًا حجرًا، أهون من قتل المسلم”. وأحاديث أخرى كثيرة بهذا المعنى الذي يرفع من قدر الإنسان والقيم الإنسانية على الشعائر والطقوس والمقدسات الدينية، مثل حديث: “مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الفحشاء والمنكر، فلا صلاة له”. و”رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ”. لمجرد أن هذا الصائم وهذا المصلي ينتهك حقوق الناس، وكم من مرة سمعنا حكاية ذلك الرجل الذي دخل المسجد ولم يراع قدسيته، وتبول فيه، ومع ذلك، النبي محمد نفسه تساهل وتسامح معه تمام كما يقولون، لأنه يرفع من قيمة الإنسان فوق المقدسات الدينية!

وعلى الرغم أنني لا أعتقد الرئيس السيسي يؤمن بفكرة إعلاء القيم الدينية على القيم الإنسانية بالمعنى المطلق، وإلا ما تدخل للعفو عن الكاتب إسلام البحيري بعد أن سجن بتهمة ازدراء الأديان لأنه طالب بمراجعة التراث الديني..

إلا أنني أعتقد أنه يؤمن بها بمعنى شخصي وخاص به هو فقط. معنى محافظ يجعله وإن أصدر عفوًا على إسلام البحيري لا يزال محتفظًا بقانون ازدراء الأديان وغيره من القوانين التي تقيد حرية الرأي والتعبير لاعتبارات دينية وأخلاقية غير وجيهة بالمرة، بل ويتمسك بتكرار دعوته لأكثر مؤسسة دينية محافظة في مصر للقيام بمهمة تجديد وإصلاح الفكر الديني، ثم يتعجب في النهاية من تكرار نفس النتائج، وعدم حدوث هذا الإصلاح، دون أن يراجع القوانين المسؤولة عن هذا التوجه المحافظ والمهدد بالسجن لمختلف التيارات الثقافية والسياسية المناهضة للإخوان، بسبب تلك القيم التي يُفضل المتدينون إعلاءها فوق قيمة الحرية الإنسانية.

نظرة أعمق | أفخاخ الإسلاميين في دقائق

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك